فضيلي جماع و الضفاف التي تعرف أولادها

فضيلي جماع و الضفاف  التي تعرف أولادها
  • 26 أكتوبر 2019
  • لا توجد تعليقات

محمد المصطفى موسى

أكرمني الصديق و الأستاذ الكبير  فضيلي جماع بإهداء قيم لروايته ” هذه الضفاف تعرفني ” . وهي ذات الرواية التي أصدرتها دار مسكيلياني التونسية للنشر  في ٢٠١٩  وتقع في ٢٧١ صفحة من الورق المتوسط  .

 و فضيلي جماع في رأيي هو شاعر مجيد اختطفته القوافي عن عوالم السرد التي لا يتوجب أن يترجل فارس مثله عن صهوتها . فهو حكاء ماهر صقلته تجاربه الشعرية العميقة و أعماله الأدبية الأخرى على  نحو ” دموع القرية ” و ” المهدي في ضواحي الخرطوم ”  .. و أهلته جميعها  لإمتلاك الأدوات اللازمة للإيغال  في الأعمال الروائية بدربة و معرفة عززتهما لغة طيعة تخطف الأبصار و تستولي على الذائقة منذ أول كلمة إلى أخر حرف من أحرف الرواية ذاتها .   


يلجأ فضيلي جماع إلى حيلة موغلة في البراعة هو يفتتح المشهد الأول من الرواية . انها حيلة الإستدعاء من الذاكرة ذات الخلايا المتخمة بهوس التفاصيل . يستدرجنا بطل الرواية ” فارس”  بحذاقة فائقة لصفحات مفكرته العتيقة .

فالراوي مسكون بتدوين خواطره منذ سنوات صباه الأولى . تبتدئ فنتازيا السرد بمشهد الراوي و صديقه مجاك بن السلطان فيوت . طفلان غريران في السادسة من عمرهما جمعتهما منطقة تسمى عتمور  الفارس التى وصفت بأنها ” منطقة مرتفعة على مقربة من النهر ” . هناك يلتقي عربان المسيرية الرحل ” أهل الرواي” مع عشائر الدينكا المستوطنة هناك وإليهم ينتمي مجاك .

صداقة البراءات الأولى بكل ما فيها من نقاء عززته الفطرة و بنوة الأرض الواحدة ، تتسيد التفاصيل بزخم آسر .  جغرافيا المكان نفسها تأخذنا نحو دنيا من الأخيلة حول ماهية “الأركيولوجيا” التي تخلق فيها النص . “دكادك” الدينكا  ، أشجار الكوك ، الجميز ، الخروب والهجاليج ..جلبة  أسراب الأوز في النهر  و شقشقات طائر الغرنوق في المساءات المقمرة .. كل تلك المشاهد التي ولدت فيها صداقة الصبيين  ترسم دائرة افتراضية تحاصر خواطر القارئ وتمنحها أقدام  لتجول بهما في تلك الأمكنة . 


يستدرجنا السرد المنساب نحو قرية رويانة حيث كانت الأشياء على سجيتها لأمد بعيد  .. أرض بكر وبلدة طيبة و رب غفور  . بيد أن الأقدار لا تنفك دون أن تمد يدها العابثة لتزعزع هدأة البال التي كللت تلك البقعة من الريف الكردفاني الآسر . الدقّم شقيق فارس رمى بحجر ضخم في بركة رويانة الساكنة . لاكت الأفواه قصة عشقه لفطين بينما كان هو يغرق لأخمص قدميه في حكاية حب موغلة في النبل . اجترأ على معاندة أبيه بجسارة حين لم ير فيها ما يجدر بابنه .

و عندما احتدم بينهما الجدل ، ترك الدقم العنيد في أحشاء فطين بذرة باقية و رحل .  واحتفظت فطين الوفية بتلك البذرة حتى صارت ثمرة  حلوة . هكذا خرجت إيمان الى الدنيا في رويانة  بينما كان ابوها الدقم يرسف في أغلال الحركة الشعبية بالجنوب  حيث أُسر  كوكيل عريف بالقوات المسلحة .

و لفضيلي موهبة سرد لن تفوت على ذائقة قارئ يتنفس الأحداث و هو يقرأ . لا شك أن فضيلي أعمل مواهبه جيدًا و هو ينقلنا بين المشاهد المختلفة بحذاقة عالية . و من ذلك أنه قد أفلح في توظيف قصة الدقم و فطين لتهيئة الأذهان لتقبل فكرة التغيير العاصف الذي بدأت طلائعه تتنزل على تلك القرية . هدير شاحنات الجيش سرعان  ما صم آذان الناس هناك .حط الشر المستطير  رحاله فقامت الحامية و لم تقم للناس راحة بعدها .

عسكرة الريف و ما يعقبها من عنت  وزلزلة لن  تغلها مسامرات سماعين الباحش ، ضي النور كجام  و ضحية عوجات  تحت ضوء الليالي المقمرة  .  وكان الكاتب  قد افتتح كوة من ضياء السرد في موضع آخر بشكل متزامن . هناك في قلب السودان حيث يلتقى النيلان  في الخرطوم ، انتقل فارس و مجاك بصداقتهما الباكرة نحو مرحلة وسمها القدر بالنضج و الوفاء . هناك في رحاب الجامعة حيث يشتبك قلب مجاك بفؤاد فتاة ترجع بأصولها نحو الشمال النيلي . سناء الفوراوية بكل ما فيها من وفاء و عناد لم تعد تقو  على مقاومة حكايات الحب الأولى بمدها الصاخب .

استدرجنا فضيلي  لقصة عشق أسطورية جرت وقائعها في اتجاه معاكس لمد جريان نهر  مهترئ من التقاليد و الترهات .

انه ذات النهر الذي اغرق بمده المميت المجتمع المكبل بالعنصرية و بداوة الإنسانية الأولى. وتواترت تلك الأقاصيص مع شغف ” فارس”   ب” أمل”  وسط تشجيع و احتفاء من أصدقائهم الجامعيين على نحو رحاب و حمدان توتو . و تمضي التفاصيل لتزداد اشتباكاً باقتران حمدان الطبيب الحديث التخرج  لاحقاً  برحاب  .

بيد أن أن حيل فضيلي السردية لا تدع القارئ دون  أن تعبئ ذهنه بتكتيكات الحكي الموغلة في التنوع . البراعة تكمن هنا في المقدرة على خلق مراكز سردية مختلفة للرواية و من ثم التنقل بينها برشاقة لا ترهق القارئ بأي قدر من التكلف . هناك في رويانة بدأت التغييرات تؤز القرية بلا رحمة . عبدالوارث السفيه .. ذلك الغريب الذي أطل على رويانة كضيف مزقته الحاجة ، صعد نجمه بأحابيل التزلف  التي أجادها بمكر و دهاء عريقين . لم تعد رويانة كما كانت ، بقعة يلفها الهدوء و حنو  الأمكنة . مليشيات مراحيل تشتبك مع المتمردين في أطرافها  البعيدة.  

الدم المسفوك يشخب في  غارات متبادلة بين الطرفين عنوانها التشفي و الانتقام. جسر من الموت قام على انقاض جسر عريق من تعايش القبائل و السلام المجتمعي الأزلي  .

عبدالوارث السفيه بانتهازيته العريقة يصعد لعرش الثراء الفاحش في زمن الغفلة فيحتل بشاحناته و مخازنه ميدان الدافوري حيث كانت تكمن أعز ذكريات فارس و رفاقه من ابناء ذات الجيل برويانة  .جاءت الحامية بشرها الذي اثلج صدر عبدالوارث خوجلي  ليصعد بتهافته على أكتافها متسلقاً -كعادته- نحو ذاته الضيقة  . قائد الحامية ” أبو نظارات” يوزع الأسلحة على العرب الرحل و كأنها قطع من الحلوى . هكذا تسلق المشهد شبان مغمورون  من رويانة مثل ول بلايل و الذي صار من أمراء الحرب الجدد بإمتياز  . لم يعد بوسعنا غير أن نردد مع الرواي ” فارس” : نعم لم تعد رويانة كما كانت ! تراجيديا التفاصيل تتراص ببنائها الشاهق حتى لا تدرك الأبصار لها منتهى .

فارس يتذوق ويلات الإعتقال والتعذيب في سجون الأمن بلا ذنب جناه . كمال بن عوف ضابط الأمن الذي أصدر الأوامر  ليسع الزبانية جسد فارس بالسياط ، لم يجد لذة يترجاها أفضل من أن يختطف منه حبيبته أمل . قبسٌ من النور يلتمع وسط هذه العتمة حين يسوقنا فضيلي نحو سردياته التي تلتف حول الذهن بالقفز  الرشيق من أسفل قاع اليأس إلى مرتفعات الأمل العلية . هكذا عاد الدقّم حراً من أسر التمرد ليقترن بفطين العسل ويجبر خاطرها وسط  زغاريد أسرة ” ألد رحمن” و مباركة أبيه الناير ول حسن  و من قبل ذلك احتفاء  رويانة بأسرها . رويانة التي باتت أكثر  معرفة بحتمية انتصار حكايات العشق العنيدة ، تعلمت هي الأخرى شيئاً جديداً . 

” هذه الضفاف تعرفني ”  لم تكن سوى أهم أدوات فضيلي جماع  لتشخيص خيبتنا الجماعية كأمة . رواية طرحت عدداً من الأسئلة الجريئة حول جدليات أثقلت بوطأتها تاريخنا الاجتماعي و الثقافي لتمتد بسطوتها لإرث سياسي عريق من الصراع والإقتتال و الفشل .

علامات استفهام عميقة بعثرها فضيلي هنا و هناك  . صراع عنيف  بين متضادات شتى ترقص حوافرها على جسدنا الإجتماعي  كخيل لا ترحم مواضع العصب منه . لغة القبيلة والإنتماء العشائري ما زالت تنقش أحرفها على جدار الحاضر  ، تشكل ببأسها  طلائع المستقبل .كألهة الشر عند الكوشيين ، ظلت – بكيدها-تحبط  جحافل الأمل و تعبث بكل قوانين التمازج .

 ليل ٌ  من الترهات استحلكت  من ورائه التفاصيل . برغم ذلك كله ، أبقى فضيلي على باب النهايات  موارباً  نحو اجابات مفتوحة لكل ما طرحه من أسئلة . اجابات مبعثرة قد تجدها في كلمات وضعها الكاتب على أفواه ابطال روايته كفارس و مجاك وسناء الفوراوية .

 وقد تجدها تتوسط حوارات عميقة جدا في مضمونها الفلسفي كتلك التي أُجريت على ألسنة  العمدة بقت أجينق و كوال دينق  ذلك الأبنوسي النبيل وكذلك بابكر محمد الحسن و الشيخ  جاموس .  صفوة ما أردنا الذهاب إليه ، أن فضيلي جماع قد حفر بعمله الرائع  هذا نقشاً عميقاً في جدار الرواية السودانية . وفتح بالأغوار العميقة التي سبرتها ” هذه الضفاف تعرفني”  .. فتحاً مهماً  من  أجل توظيف الأعمال الإبداعية لكي يقرأ المجتمع ذاته قراءات نقدية عميقة تخاطب منابت المشكلة السودانية و بذور نشأتها الأولى من خلال إسقاطات الثقافة والتاريخ والسياسة .

التعليقات مغلقة.