بئر الترك (الأتراك)

بئر الترك (الأتراك)
  • 06 ديسمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

اللواء شرطة (م) عثمان صديق البدوي

تتداول وتتناول وسائط التواصل الإجتماعي في شرق السودان وغربه ووسطه سرّاً وجهراً بأنّ الشمال يستأثِر بالسلطة والثروة دون غيره من أهل السودان. وأحكي هنا مأساة واحدة من عشرات المآسي التي شهدتُها بأم عيني من خلال عملي في الشرطة عن ذلك الشمال المكتوي بين نارين…… نار بريق سلطة نخبة من أولاده، ونار غضب وحقد بعض أهل السودان عليه. لذلك كنت أتمنى دائماً أن تُنزع هذه السلطة من نخبة أبناء الشمال ليجرّبها غيرنا، حتى تنتفي عنّا تهمة استئثار السلطة والثروة، بالرغم من أنّ ثروة الذهب عندما وهبها الله لأهل نهر النيل لم يستأثروها على أنفسهم، بل فتحت أبو حمد أبوابها لكل أهل السودان،

وحتى الأجانب ومازالوا ينقْبون وينهلون ، في الوقت الذي فيه عندما ظهر البترول في مناطق أخرى من السودان طالبوا بنسبتهم فيه ومُنِحت لهم، وعندما ظهر ذهب جبل عامر فما كان من نهر النيل إلّا ” وتسمع به سمع”.

أعود للموضوع :

في العام ٢٠٠٤ كنت مديراّ لشرطة محلية شندي ….وفي نهار يوم حار من رمضان يدخل مكتبي خمسة من سكان الريف الجنوبي لمحلية شندي قبالة النقعة والمصوّرات ،يحكون بأسي بالغ عن نفوق ستمائة من ماشيتهم بسبب شربها من ماء بئرهم الوحيدة بالمنطقة ، وهي بئر أثرية عمقها مائتا متر ، لإخراج الدلو يُربَط الحبل في عنق الجمل ويقوده صبية من البئر مسافة مائتي متر ثم يخرج الكبار الدلو ليُصَب ماؤُه في حوض ترابي حول البئر يشرب منه الإنسان والحيوان معاً ، في رضا تام عن هذه الحياة البدوية .

 اتصلت على الفور بالمدير التنفيذي للمحلية الأخ عبد الله كاكوم أمدّ الله في أيامه للتحرك  وممثل الفرقة الثالثة مشاه ومندوب الأمن  للوقوف علي ما حدث وبعد ساعة ونصف وصلنا قرية الكفنجة ..وكانت المأساة ..ستمائة ونيف  من نعجة وخروف نافقة منتفخة  منتشرة علي امتداد حرم البئر .

يا لتلك المأساة ….ومن خلال “عويدات ” بيوت العرب و”بروشها” المتهالكة المتهاوية المتطايرة، كان النساء والأطفال يسترقون النظر والسمع، يتطلعون ويتشوّقون في انتظار القرار وعودة الماء والحياة سيّما ولهيب الشمس و”سموم “الصحراء يكاد ” يلفح ” الوجوه و”يَصُر” عين ويفتح الأخرى.. والصيام…. الصيام الذي يتطلّب (كوريّة موية بحلو مر) تطفئ الظمأ.

 بعد التشاور كان  القرار هو إغلاق البئر وعدم الشرب منها وارسال عينة منها لمعمل استاك لمعرفة سبب التَّسمُّم، ثم تحريك تانكر مياه يومياً للقرية لتوفير الماء مع إعداد كمية من براميل المياه توزع قرب كل منزل .

غادرنا القرية والألم يعتصرنا علي مأساة شعب يبلغ من شندي (بلد الرئيس)و (زمرة) السلطة مرمي حجر . جاءت نتيجة معمل استاك بعد ثلاثة أيام بأنّ التسمم ناتج عن جسم غريب وقع داخل البئر ، وأنّه يجب إغلاقها فوراً وحفر أخري تصلح لشرب الإنسان والحيوان .

تم عكس ذلك للسلطة المحلية مع مواصلة التانكر في سقي اهل القرية . عندما تباطأت السلطة الولائية في حفر بئر جديدة شد نفر من أهل تلك القرية النائية الرحال للخرطوم ، قاصدين قريبهم المسئول الرفيع بالدولة الذي يملك مفتاح القرار والخِزن للمصادقة لهم بحفر بئر جديدة .

  قابلت أحدهم بسوق شندي بعد أيام من حادثة البئر ، وعن حالهم قال : ( يا زول ركبنا أنا وعبد العاطي وأُمحُمّد ود جلي وود النصيح ....مشينا الخرتوم ....وحاتك إتْ راقدين قِدّام بيت قريبنا المسعول  أربعة أيام  .....العسكور يقولوا  في اجتماع في اجتماع ...آخرتها جانا "وِليد" قال "بابا" خارج السودان ....قلنالو بجي متين ...قال والله ما عارف ....طوالي يا زول قبّلنا بي وشينا لي حلّتنا ....وطوّالي علي البير ....تانكر الحيكومة ما بدوم ...يوم عطلان ويوم السوّاق عيّان  .....والله يا جنابو اتوكّلنا علي الله ودخّلنا عبد الله  ود موسي بالحبال ،ونزّلناه جوّ البير .. .....نطلّع في الموية الكعبا يومين....لامن نضّفناها تب  .....وجابت موية صاافية وحلوة  ...ونحن والحيوان نشرب منّها لينا تلاتة يوم ..الحبّة دي ما جاتنا ....ها زول، الله ما شقّالو حنكاً ضيّعو).

كان يقف بجانبي في تلك اللحظة أحد الضباط وتأثّر جداً من ما سمع وقال للرجل (بُكْرة التِصويت بيجي… وبجوكم جارين، وبتدّوهم أصواتكم )، فقال الرجل بكل هدوء (عاد ما ياهم أولادنا يا عشاي، حرّم كان دخلوا الفريق من تيراب الماتن ديل نضبح لهم )

 ياااا  الله.... لحظة ووقفة مع نفسي...أحداثها:

“أي خُلق هذا الذي لا يتعامل بردّة الفعل.. أي صنف من البشر هؤلاء الذين لم يجدوا المسئول لحظة الضيق والشّدّة، وبعد ذلك كلّه إن دخل ديارهم يذبحون له” “الشايل” .!!”

قال وشخصي “مشدوه” :(ولا يهمّكم يا جنابو.. العليكم سويتوه ) …..قلت في نفسي 🙁 نحن السّوينا ؟!……..انتوا السّويتوا… انتوا الحافظتوا علي ثروتنا القومية من الضأن رغم الضنك رغم العطش رغم المأساة) .

هل تصدقوا أنّ أهل تلك القرية حتى غادرت شندي  يشربون من تلك البئر الأثرية ؟! وما زالت مواشيهم تغزو الأسواق مع حرص الدولة علي تحصيل ضريبة القطعان و(بعين قويّة؟!! ).

 نقلا عن مساءات منتدى النيل 

التعليقات مغلقة.