نحن الدولة العميقة— في فساد الثقافة ومفاهيم السياسة

نحن الدولة العميقة—                                                                                               في فساد الثقافة ومفاهيم السياسة
  • 08 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

د. وجدي كامل



كثيرا ما اخشى، واجد نفسي معاديًا من الدرجة الأولى لفرضية المؤامرة ( وليس عقلية المؤامرة كما يشاع). ليس لعداء مجاني ورغبة فقط في ذلك ولكن لانها فرضية، ونزعة، وحالة من البحث السهل، المتعجل، المتسرع للقبض على الجناة والزج بهم في قفص الإتهام.
فرضية المؤامرة او الاستهداف لعبة رائجة الأدوات والميادين ولا تُرضي سوى احتياجات الإعاقة النفسية بتعظيم الانا المقموعة، ووضعها في اختيارات وتعليم الكسل الذهني وبحيث لا تعطي العقل الحرية والحق الإنساني في البحث بالمسارات المتعددة ذات الصلة بالفرضية . حديثنا الذائع الصيت والمنتشر عن الدولة العميقة حديث قد يكون واقعيا تسنده كل الأدلة المتوفرة القائلة بان الوقوع تحت حكم عضوض لفترة اقتربت من الثلاثة عقود ساهم في تدمير كل البنيات وأقام شبكة من العلاقات الفاسدة بين المؤسسات وأفراد المجتمع وبما ان كل ذلك صار هدفًا لثورة تاريخية عظيمة كثورة ديسمبر فان علاقات تلك البنيات الفاسدة تنشط (وفي عدم القضاء عليها بالشرعية الثورية المضاعة) بطرق سرية وعلنية للمحافظة على بقائها،والاستمرار عبر أشكال من الوجود الدقيق، المعقد،الغميس المتحالف مع قوى اقتصادية ناشئة جديدة.
ذلك مما لا شك لنا به وهو بالتالي ليس كل الحقيقة. الحقيقة الكاملة التي نخشى طرحها ونخاف مناقشتها تتعلق بان الثلاثة عقود وقبلها من السنوات التي اعقبت استقلال السودان قد ساهمت في ولادة ورعاية مجتمع سياسي يقوم على الاختلاف،وعلى الصراع، والأوهام المتبادلة، ان لم نقل صناعة الأساطير الطائرة بين مكوناته جميعا، وان حكم الإنقاذ في مراحله المتعددة واحتيالاته الفادحة على البقاء لم يفعل شيئا عبقريا بالمعنى، ذلك ان كل ما فعله وقام به يتلخص في اجراء حكمه وتطبيقه في علاقته بتلك المكونات كسلطة ذات جوهر استعماري لا تختلف عن السلطات الاستعمارية الأجنبية على قاعدة تفتيت المفتت، وتقسيم المقسم الذي أورثنا مكونات لم تخرج من حالة الصدمة او التعافي من المرض التنظيمي والاقتصادي والمفاهيمي الى حالة الجاهزية لللعب القانوني النزيه على ملعب الديمقراطية الوليدة المستهدفة.
ورثنا في كافة مراحل الديمقراطيات النادرة أوضاعا من ذاك الصراع والتقسيم. ولكن ما ورثناه مؤخرًا وفي هذه المرحلة الانتقالية الراغبة في احداث التحول الديمقراطي يزيد عما سبقه ويتعاظم بتوفر واقع اقتصادي كسيح، منهار تماما استهدفته الإنقاذ كمؤسسة اقتصادية بالأساس قبل ان تكون سياسية دينية او غيره.
استهدفت الإنقاذ في جوهر نشاطها الثروة والعقول بنهب الأولى وتدمير الثانية. ذلك ما كان يستوجب حالة من الشفاء اولا بالتواضع على مؤتمر ومجلس واسع للثورة يعمل بمثابة العقل رغم ثنائية الرأسين او دولة التوام السيامي التي منينا بهما.
بعد وقت قصير، شهر ونيف ستطل علينا سنوية انتصار الثورة الجزئي في ظل عاصفة، أوإعصار عاتي من المشكلات الاقتصادية والسياسية الامر الذي يستوجب قيام مؤتمر الثورة والذي ناديت به في مرة سابقة بحائطي هنا.
نحتاج الى اثارة النقد العلمي العميق والمعمق للعقل السياسي السوداني في مظانه و مطلقه، ومن ثم التوافق على برنامج بالغ الوضوح لمعالجة الموروث من المشكلات، ووضع الحلول القريبة، والمتوسطة، والطويلة الأمد عبر تنظيم عمل مؤسسات الدولة ومطالبة وزرائها بتقديم برامجهم باستعانة كل حسب مجاله بالسودانيين الموجودين بالداخل والخارج والخروج بخطة تفصيلية تفي الاحتياج العظيم وبالتالي كتابة صيرورة الثورة والقضاء على المخلفات السياسية. ان عدونا الأساسي هو العقل السياسي والثقافة السياسية المريضة التي نتوكا عصاتها منذ الاستقلال ولا نجد وقتا او شجاعة كافية لفحصها ومراجعتها نقديًا. ان اكثر ما يؤثر ويثير الألم هو عدم قراءة ومذاكرة مكونات المجتمع السياسي النشطة في العملية السياسية الحالية لمنتجات العقل النقدي الثقافي والعلمي السوداني المُزدرى، المهمش، المبعد الذي بذل جهودا مقدرة لمناقشة كل شي تقريبا عبر المؤتمرات، والورش، والمحاضرات، والمطبوعات التي غطى فيها السودانيون العيوب ومشكلات دولة ما بعد الإستقلال او كوابح تطور الدولة الوطنية المدنية. وفي مقدمة ذلك ما قام به مركز الدراسات السودانية طيلة سنوات حكم الإنقاذ من إصدارات مهمة، وفي مقدمتها اصدارة مرور ستين عاما على الاستقلال . لا احد من السياسين النشطاء وطلاب السلطة الجدد يستدعى ذلك العمل الجبار ويستهدي بنتائجه العلمية الجاهرة وفي ذلك اعادة الانتاج الصريح للدولة العميقة التي ليست هي الإنقاذ فقط بل دولة العقل السياسي الجزافي او (العنقالي) كما تصفه عاميتنا الساحرة. إننا وفي حالة المضي دون تسلح بالمعرفة العلمية والوصفات الوطنية المتخصصة سوف لن نفعل اكثر من الإشارة الفصيحة لأنفسنا بتعريف أنها الدولة العميقة نفسها لحما ودماً.

الوسوم د.-وجدي-كامل

التعليقات مغلقة.