انفلونزا الخنازير: لماذا كبرت الحكاية؟

انفلونزا الخنازير: لماذا كبرت الحكاية؟
  • 14 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

د. عثمان أبوزيد


قال أحد الإعلاميين الغربيين ذات مرّة إنه حينما انتقل من الكتابة السياسية إلى الكتابة الصحية ، كان أول حدث (يغطيه) عملية زرع قلب، فاضطر إلى أن يقضي (48 ) ساعة بلا نوم ليكتب خبراً صغيراً!
قد يتكلم الأطباء والعاملون في المهن الطبية لغة سرية، في حين أن اللغة المطلوبة للإعلام نثر واضح وشفاف. الشهادة لله أن كثيراً من أطبائنا يتكلمون في موضوعات طبية عويصة بلغة الناس العاديين، كما يفعل البروفيسور مأمون حميدة مع ضيوفه في برنامجه الصحي الناجح بتلفزيون السودان.
المبالغة الإعلامية التي نعايشها في حكاية أنفلونزا الخنازير وعايشناها قبل ذلك في أنفلونزا الطيور، مردّها إلى أسباب ذات علاقة بطبيعة الموضوعات الصحية نفسها وكيفية تغطيتها في وسائل الإعلام.
هنالك موضوعات تتسم في طبيعتها بعدم اليقين. في حلقة مختصة بتغطية أخبار الأوبئة عقدت في العاصمة الأمريكية واشنطن مؤخراً ، أشار بعض المشاركين إلى أنه بسبب عدم القدرة على (التنبؤ) بفيروس الأنفلونزا فإن القاعدة الأولى التي يجب على الصحفي أن يتبعها هي أن يمتلك خطة إضافية عند تغطيته للوباء. «يكون التخطيط مبنياً على الافتراضات» التي يمكن أن تتغير في أي وقت.
في الأيام الأولى لانتشار المرض في المكسيك، عانى الصحفيون من نقص المعلومات، ومنعوا من دخول المكسيك ولم يحصلوا إلاَّ على معلومات محدودة ، فكان اعتماد وسائل الإعلام على ما تنشره منظمة الصحة العالمية وعلى النشرات الحكومية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وزاد من عدم اليقين أنه خلال خمسة أيام فقط رفعت منظمة الصحة العالمية مستوى التحذير من الوباء من مرحلة (2) إلى (4) وبعد يومين من ذلك، ارتفع مستوى التحذير إلى (5) إشارة منها إلى أن وصف المرض بالوباء «أصبح وشيكاً».
وفي منتصف شهر يونيو، قامت المنظمة برفع مستوى التحذير إلى (6) معتبرة إياه بالوباء، حسب المناطق التي ينتشر فيها.
وانتقد البعض مستوى (6) الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية بأنه مضلل، لأن مستوى الوفيات هو أقل من نصف الواحد بالمائة من المصابين بالمرض.
واضح أن التغطية الإعلامية للمرض لم تكن متوازنة، بمعنى أنها لم تقدم تقديرات واقعية مبنية على الحقائق. لذا وصفت تلك التغطية بأنها كانت «كبيرة، بل مرعبة أيضاً».
إن انتشار ما يسمى الإعلام الجديد وصحافة المواطن عبر الانترنت يضع الناس في هذا الوقت أمام طفح إعلامي. ويحتاج الناس أن يكونوا على حذر معين إزاء المعلومات التي تقدمها شبكة الانترنت عن الأمراض وقضايا الصحة. كثير من المواقع غير مخوّلة بالحديث في شؤون الصحة العامة وتستغلها شركات الأدوية لتقديم معلومات غير محايدة، بل ربما وقعت حرب دعائية بين الشركات يقع المستهلك ضحية لها.
وهناك القنوات الفضائية التجارية التي تبث خلال ساعات اليوم دون توقف، ولا بد أن تغطى ساعات إرسالها بالحق وبالباطل. هذه القنوات تحاول أن تقدم مادتها بالإثارة الكافية لجذب الاهتمام أمام منافسة طاغية. وهي تتعمد أحياناً أن تقدم لغة طنانة. ومثال ذلك أن اسم أنفلونزا الخنازير نفسه (اسم إعلامي) صاغته إحدى المحطات التلفزيونية الأمريكية بحجة أن اسم «أتش ون أن ون» لا يجلب اهتمام الناس.
أخبار أنفلونزا الخنازير بدأت تتضاءل في الإعلام، كما تضاءلت من قبل أختها أنفلونزا الطيور واختفت. ولكن تبقى الدروس التي ينبغي الاستفادة منها:

  • إن قضايا الصحة العامة من الأهمية بألا تترك للأطباء وحدهم أو للإعلاميين وحدهم. كانت الحكومة السورية قد ألزمت وسائل الإعلام داخل سوريا ألا تنشر شيئاً عن أنفلونزا الطيور إلا بعد مراجعة طبية.
  • ينصح الإعلاميون الذين يكتبون في القضايا الصحية أن يتهيأوا قدر الإمكان بمعرفة المجال الذي يكتبون عنه، وحبذا لو تنبه بعض الإعلاميين إلى التدريب والتخصص في الصحافة العلمية. لماذا يقتصر تخصص إعلاميينا في الصحافة الرياضية والصحافة الفنية ، أين المتخصصون في الصحافة الاقتصادية والإعلام الطبي والإعلام البيئي. صدقوني هذه تخصصات (تؤكل عيش) في هذه الأيام.
  • سوف نبقى متعرضين لـ «زوابع إعلامية» من هذا النوع، كلما هدأت الجبهة السياسية والعسكرية في العالم، لأن الفراغ لا بد أن يملأ.
    لقد سمعنا الكثير المثير حول أسباب المبالغة في أخبار الأنفلونزا. قالوا إن بعض الدوائر التي تضرّرت مصالحها بأنباء الأزمة المالية العالمية أرادت أن تشغل العالم بشيء آخر فاخترعت حكاية أنفلونزا الخنازير. وقالوا إن شركات الأدوية التي تضررت من جراء الأزمة افتعلت هذه الأخبار لتغطي خسارتها.
    ذلك كله جائز، لكن المسؤولية تقتضينا ألا نتكلم بشيء لا نملك الدليل عليه. ودعنا نختم بما تقوله العامة في نجد عندما تقع مصيبة: «الله لا يبردها بأحرّ منها»!

*المقال عمره 10 سنوات مارس 2010 نشرته صحيفة الرأي العام على أيام انفلونزا الخنازير.
لو يتغير العنوان من انفلونزا الخنازير إلى كرونا…
فهل يتغير شيء؟

التعليقات مغلقة.