حمد وريتا.. وكمان أعور؟!

حمد وريتا.. وكمان أعور؟!
  • 17 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

جلال داود (أبو جهينة)


الغربة طاحونة ، وحباتها (المدقوقة والمدروشة بين رحاها هم المغتربين وضجيجها يصيب أسرهم هنا و هناك فتجعلهم يعيشون في حالة من انعدام الوزن).
أهلنا في الشمال، مارسوا الاغتراب منذ عهد الملكية في مصر، الملك فؤاد ..
ومنذ أيام الملك فؤاد والدون جوان الأرناؤوطي فاروق ، أو قيل قبل ذلك.
سألوا أحد جهابذة الاغتراب (و هو من عندينا):
ما رأيك في الاغتراب ؟ فقال: العشر سنوات الأولى صعبة.
معنى هذا أن سنوات الغربة عندنا تقاس بالحزمة (كالسنة الضوئية)، كل حزمة تساوي عشر سنوات.
يعني أن أربعين سنة غربة تساوي أربع حزم وكل حزمة اغترابية تكون حبلى بالبحث عن كفيل أو عمل أو تأشيرة للذهاب و العودة بها أو طلبات لا تنتهي إن لم تنته كل الحزم بمرض السكر أو الضغط، أجاركم الله و إيانا.
تسأل واحدة عن زوجها: متى يأتي د؟ فتقول لك: بعد نص حزمة.
لأنه لو قالت بعد خمس سنوات ، الواحد بيشوفها كتيرة، بالضبط زى (الجنيه بالقديم والجديد).
نحن أحسن شعب نختزل الزمن بصبر عجيب،
حتى أن أحد الظرفاء قال: إن المدفون في ذلك الميدان (ليس أبو جنزير) بل هو سيدنا أيوب عليه السلام، جد كل السودانيين الصابرين، فرضعنا منه هذا الصبر الجميل ولم نفطم منه إلى يومنا هذا، وتسرب إلى جيناتنا الوراثية، فانساب إلى شراييننا وتحكم في فصائل دمائنا.
كل واحد فينا شايل همو، و هم ناس تانين، وشايل قصص في رأسه ، منها المضحك ومنها المبكي ومنها المضحك المبكي.
زولنا حمد ، زول سوداني، فنجري الطباع د، فارع الطول كأجداده من سلالة تهراقا د، وسامته لا تخطؤها العين ، مشلخ شلوخاً غائرة كخطوط المحراث في أرض بكر.
عندما التحق في الرياض بعمل لأول مرة قبل كم حزمة اغترابية ، سأله بدوي: ما هذه الشرطات على خديك؟
فقال له حمد مازحاً وبهمس د: أنا حأقول ليك بس ما تقول لي زول. في بلدنا الواحد لو ما قتل ليهو أسد أو نمر يعتبر ما راجل وما بيعرسوا ليهو، أها أنا صارعت نمر و قتلته، ولكنو عمل فيني الشرطات دي.
البدوي تراجع مصدقاً وهو يفتح فمه مندهشاً و متوجساً خيفة. و لكنه لم يجهد تفكيره ويسأل نفسه: ما هذا النمر الذي يختار الجضيمات فقط و يقوم بتشريطها بهذا الإتقان الهندسي؟
أوقف القدر في طريق حمد فتاة اسمها ( ريتا )..
فتاة جنسيتها ( خاتفة بلدين .. كلون بشرتها خاتف اللونين )..
فالوالد من قلب أثينا والأم سليلة أمهرا (بت عماً لي مادلينا) فكانت للناظر متعة للعين وقلبه، و الكمال لله، كل شيء فيها بديع وجميل،
حبشية … أبوها إغريقي سليل هوميروس وأمها سليلة الأمهرا، ولدت في أثينا، و دترعرت في أديس، واغتربت في السعودية.
تتابعها بعيونك وأذنك عندما تتحدث و دهي تحاول تقليد لهجتنا الحبيبة، فكأنها تتكلم وفمها مليء بحلاوة هريسة، وخاصة عندما تأتي بكلمة بها حرف العين، فيخرج الحرف وهو شبعان من ريقها، من جوة جوة الحلق. فتتمنى لو قالت أمامك طوال اليوم (يا علوية عيونك عسلية).
أحب حمد ريتا حباً ملك عليه فؤاده ولبه وجعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون وتمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و(الساعة الـ يقولو ليها حمد ، الكلام يكْمل ويقيف).
قلنا له ونحن نظهر الشفقة و دنضمر الحسد: دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية، يعني أهلك ما حيرضو .. لم يجعلنا نكمل تعليقنا الغتيت ، فقد قال والشرر يتطاير من عينيه: و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها…
تزوجها حمد، مازحه أحدنا بغيظ مكتوم وحسد بائن بينونة كبرى:
أولادكم حيطلعوا مشلخين جاهزين وانت عامل لي شلوخك الغريقة دي.
المثل يقول (البيحبك بيبلع ليك الظلط)، ولكن كان حمد بيبلع ليها الدراب و(الكُرْكُتي) وكتل الإسمنت المرورية.
فعندما دعانا لأول مرة لوجبة غداء، قال لنا: ريتا عملت لينا أكلة سودانية بإيديها.
و حضرنا في الموعد المضروب،
و نحن نشحذ أسناننا لالتهام وجبة سودانية بأيدٍ أجنبية.
وحمد يدخل ويمرق (كأم العروس) تارة يستحث ريتا وتارة يمدح في ريتا وعمايلها السودانية، ثم أتت الصينية مغطاة بطبق سوداني، وعروق من الجرجير تتدلى معلنة أن المائدة ستكون عامرة، وانكشف الطبق عن صحن (ماكن) يمكن أن يسبح فيه طفل عمره ستة شهور بحرية تامة، و داخله شيء أشبه باللحاف المطبق أو شملة الدخان قبل أن تصير قديمة، أطلق عليه حمد تسم القراصة،
كان لونه داكناً يميل للون الكاكي الغامق، فقلنا ربما من نوعية الدقيق، وعندما سكب حمد (الملاح) الذي من المفترض أن يكون ملاح الويكة، اندلق سائل هلامي يمكن أن تحسب من خلال شفافيته عدد حبات الفلفل الأسود وحبات الويكة الناشفة وأجزاء من الماجي التي لم تذب في الحلة.
واندلق السائل بعد عدة محاولات من حمد كأنه يضع لك مرهم بنسلين في العين،
والذي غاظني و جعل الدم يصعد إلى نافوخي هو أن حمد ما انقطع عن شكر هذا الهلام وهذا اللحاف القابع في طشت الغسيل الذي أمامنا:
قال وهو يبلع بنهم وتلذذ: بالله ما شاطرة إنو الواحدة تتعلم تعمل الحاجات دي وبالسرعة دي؟
فقلت له متهكما: الكلام على الأستاذ يا شيف الهيلتون.
لم يفهم مغزى تهكمي وواصل ابتلاع الكتل العجينية ونحن نتسلى بالسلطة المليئة بالشطة الحبشية.
عند خروجنا ، قالت ريتا : الأكل عجبكم؟
قلت لها و أنا أفكر في أقرب مطعم: و دي عاوزة كلام؟ تسلم الأيادي يا مدام ريتا.
لكزني صديقي: تسلم الأيادي وتبوظ المصارين، مش كدة؟
معذور حمد ، فقد كان يرى فيها كل شيء حلو.
ثم اختفى عنا حمد، ولفترة طويلة ضاعت أخباره عنا وسط زحام الحياة وحزمنا الاغترابية تأكل لحظاتنا، ثانية بعد ثانية.
إخواننا المصريين، أطلقوا علينا إسم البرابرة ، انطلاقا من مفهوم معين. فقد قام الملك فاروق بتعيين السودانيين في مصر وخاصة النوبة في سلاح الهجانة، يركبون على الجمال وهم يجرون بالأرض سيطان عنج، كانوا يحرسون حدود الدولة، و إن حدث أي هرج أو مرج في القاهرة يطلبهم الملك فاروق فينزلون وسط الدارة ويلهبون ظهور أولاد بمبة بهذه السياط التي لا يتحملونها. فأطلقوا علينا هذا الاسم تشبيهاً لنا بالقبائل الهمجية البربرية.
المهم إنو واحد من البرابرة ، عاش في تلك الحقبة تاجراً ميسور الحال في أم الدنيا، وكان بعين واحدة ( المتشاءم يقول له أعور ، أما المتفاءل فيقول أنه بعين واحدة)،
ففكر أن (يلَغْوِس) شوية في حياته، ويعمل تحلية ويتزوج مصرية (تجعل حياته في الغربة طرية ولينة). فتزوج واحدة من باب اللوق، و عاش مبسوطاً مفتول الشاربين منفرج الشفتين، يدخل عليها كل يوم وهو يحمل أكياس الفاكهة واللحمة البتلو ، والبسبوسة، ودامت حاله هنية ورضية ، إلا أن دوام الحال من المحال، فأفلس، و صار يدخل يومياً على زوجته خالي الوفاض، فتسأله زوجته و هي تزم شفتيها (ها … ما لقيتش شغلة ولا مشغلة؟).
فيقول وهو كسير العين (لا). و إستمر الوضع لبضعة أسابيع،
و في يوم فتحت له الباب بحيث ظهر وجهها وصدرها فقط وقالت له: ها، مافيش جديد؟
فقال: لا
فقالت وهي تخبط على صدرها: يا لهوي … وكمان أعور؟
وتطايرت ملابسه وحاجياته من البلكونة، قطعة قطعة ، يلتقطها وعينه الوحيدة تذرف دمعاً غزيراً.

اللهم اختزل حزم اغترابنا .. و أرجعنا إلى أهلنا في وطن يسوده السلام والطمأنينة والرخاء.

التعليقات مغلقة.