التدبير الذي انقلب تدمير

التدبير الذي انقلب تدمير
  • 28 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

د الطيب حاج مكي


في مثل هذا التاريخ وفي يوم جمعه 27 مارس 1970 وقف الامام الشهيد الهادي المهدي يلقي خطبة الجمعه في مسلمي السودان. وقال كلاما يشبه دلق ماء بارد في نار موقده. لم يرسل الامام اي اشاره بالتحدي او يطلب المواجهة ضد نظام مايو بقياده الشيوعيين. بل كرر مطالب الشعب السوداني في عودة الديمقراطيه وعودة الجيش لثكناته وكف التوجهات الحزبيه الشيوعيه وإطلاق سراح السجناء السياسين واعادة الاعتبار للدستور الاسلامي.

وكان موقف الامام الهادي رحمه الله وكلماته هو الإطار العام الذي ظل يحكم تحرك الانصار وهو في ذلك ينطلق من ان حرية الراي بالذات والجهر بها في مفهوم الاسلام واجبه وليست مجرد حق انساني. وذلك استنادا لنصوص قطعيه. وعندما يوجد نص ديني يكسب اعلان المرء الراي صفة الوجوب فان من يصمت عن أمر واجب عقديا يؤثم. فقضيه اعلان الراي المعارض عند الامام الهادي واجب ديني محمل ببعد عقدي. وهو جانب يفسر مكان حرية الراي والجهر به في تصور الانصار.


علق الشيخ محمد صادق الكاروري رحمه الله على ذلك الموقف بان الامام الهادي كان واضحا وسلميا الى ابعد حد وحاول حقن الدماء ما استطاع الى ذلك سبيلا ..وقال الكاروري (كنّا وتوقعنا تصعيدا من الامام في خطبة الجمعه).
ولكن امام الانصار كان محكوما بموقف فكري وديني وانه يرى الامور ببصيرته لا ببصره فحسب. وبان تصفية الحسابات التي يخطط لها معسكر ستالين ستصبح بمثابة وضع قطارين في سكة واحده فليس ثمة نتيجة سوى التصادم المحقق مما سيبدد طاقات قد يجب ان تدخر وقد عبرت خيارات الحبهة الوطنيه عن هذه المعاني في مقابل شعارات( وان لا صلاة ولا صوم ولا خرافات ولا دجل. )

ولاشك في حسن ظن الامام وطيبة معدنه وهو ما اخفى عنه معدل طبائع الأشرار الشيوعيين وهكذا فوجئت حلقات الراتب بالجزيرة ابا بالطائرات وهي تمطر المسجد وسكن الامام بقنابلها ولم تسلم من القصف المقابر التي ارسلت لها الصواريخ وصوبت نحوها مدافع الدبابات الدانات والقنابل الانشطارية وقنابل الصوت.


واستشهدت في التو الاميرة ثريا بت الزاكي وكانت تحمل ماء لاطفال الامام واطفال الدكتور عبد الحميد صالح. فهرعت السيده رقيه عبد الله الفاضل المهدي رحمها الله لحمل حبيبتها ثريا بت الزاكي لإسعافها ولكنها ارتقت الى بارئها ومع انتشار الجثث في الساحات شرعت الأذاعة والتلفزيون تلفق اخبار الانتصارات وبرقيات التأييد وتبارك هزيمة المسئولين من التخلف الاقتصادي والسياسي والتنموي والمانعين الناس من التعليم والتنوير والحاجبين عن السودان اللحاق بالدول الاشتراكية.


وهكذا خرجت مظاهرات ترفع الدلقان الاحمر يقودها التجاني الطيب والخاتم عدلان وهي تنادي برأس الامام وباستباحة دماء اَهل الجزيرة ابا . ثم شرع محجوب محمد صالح يدبج في المقالات وعلى ذات النحو تورط محجوب شريف في نجر قصيدة مسلوقه بسرعة وخفة تنادي السفّاح بان (يشق بطون الاعداء عرض وطول). ومن موسكو جاء الصدى في كلمات شاعر من ود نوباوي تشرب باللينية اسمه كمال الجزولي وراى تحقيق أفكاره بتعميم الذبح على أهله لتنظيف البلد من الإمبريالية والانصار قائلا:-
يا سيدتي موسكو…
شكرا لك يا سيدتي…
ان نقتل أصبح أسهل من إلقاء تحية…
أن نغرس في القلب الخنجر
أن نطلق في الرأس رصاصة..
أن نمسح حد السيف بحد اللحية…
أصبح أسهل من إلقاء تحية…
سأعبق من أحواض الفودكا ..
وأهتف أهتف يا خرطومي..
أهتف حتى أشرخ حلقومي …
مايو مايو مايو.

استجاب السفّاح سريعا لمطالب القتله فعمم المجازر من ابا الى الحي الذي ولد فيه. فكان ان حقق اهم إنجازاته العسكريه ًغزوة ” خلوة الامام عبد الرحمن المهدي فقتل الاطفال وحملة ألواح القران. حتى ان شوقي بدري قال انه يعرف كادرا شيوعيا طارد طفلا أنصاريا هاربا من القصف ودخل معه (بيت طهور) فسحبه من البيت وذبحه وعاد يتبختر.


ثم لم نلبث ان ظهرت الاسماء التي تولت تدبير الجريمه. فخرج فاروق ابوعيسى وهو يلوح بالموت والمزيد من الدماء واتى بملابس داخليه من الأماكن التي ربما كان يرتادها وعرضها في التلفزيون على انها دلائل ادانه ضد الرجعية. وينقل لنا صديق البادي صور وجوه اخرى ولغت في دماء الانصار منصور خالد برفقه طيار من اولاد ام درمان هل لتغطية الاستعانه بالأجنبي؟ ونقل لنا الكاتب خطبة الشيوعيه فاطمة احمد ابراهيم. ثم البيان الذي اصدره عبد الخالق محجوب و قال فيه ان هذا الانتصار اي قتل الانصار(سيفتح الطريق امام الثورة الوطنيه السودانيه) والبيان كاملا موثقا في كتاب الشيوعي عمر مصطفى المكي .
ولكن (ولا يحيق المكر الشيء الا باهله) كان عبد الخالق محجوب يعاني من (عقده سرقوسه) المنسوبه لحاكم جزيرة سرقوسه اليونانية. الحاله المرضيه اقصد عقدة سرقوسه تجعل صاحب الراي يرى نفسه انه من اصحاب السلطه الغير متوجين. والعقدة فيها محاكاة لعلاقة أفلاطون بديونيسرس حاول عبد الخالق ان يكون أفلاطون وان يجعل من مذابح ابا وودنوباوي مدخلا لرفع الدلقان الاحمر على كل ساريه وسلطان الحزب على عموم بلادنا. وبدلا من ان يفعل السفّاح نميري ما فعل ديونيسرس لأفلاطون ببيعه كرقيق قرر السفّاح شنق عبد الخالق والحزب الشيوعي وبابكر النور لانهم حاولوا الاطاحه به واعتقاله . فانتقم الله لثريا بت إلزاكي وللأمام الهادي وسيف الدين الناجي والعمده محمد احمد عمر وجميع شهداء الانصار ولم ينجو من حزب الدلقان الاحمر الا من فر والتمس حماية استخبارات عبد الناصر . لقد جعل الله تدميرهم في تدبيرهم.
وفي ذكرى شهداء ابا وودنوباوي هناك ثلاثه جوانب جديرة بالمناقشة. وهي ضرورة الاعتراف بجريمة مذابح الجزيرة ابا وودنوباوي. ضرورة الاجابه على سوْال متى تقوم محاكم العداله الانتقاليه ؟ وسؤال خطورة الحزب الشيوعي على السودان واستقراره ومدى التزامه بالتعددية السياسيه. فاستقرار السودان بعد نجاح ثورة ديسمبر صار أمرا لايحتمل الهزل والعبث . فالهامش اليوم ليس كما في نهاية الستينات.

التعليقات مغلقة.