غَفْلَةُ الجَّنَرَالِ نِجيِّين !!

غَفْلَةُ الجَّنَرَالِ نِجيِّين !!
  • 10 سبتمبر 2020
  • لا توجد تعليقات

كمال الجزولي

روزنامة الأسبوع

الإثنين

خصَّص الدِّبلوماسي الموريتاني محمَّد الحسن ولد لبَّات، مبعوث الاتِّحاد الأفريقي الوسيط في معالجة الأزمة السِّياسيَّة التي أعقبت الإطاحة بنظام البشير في ثورة ديسمبر 2018م، عدَّة صفحات من كتابه الصَّادر حديثاً «السُّودان على طريق المصالحة»، روى من خلالها، بأسلوبه الأدبي الجَّذَّاب، تفاصيل المشكلة التي نشبت، خلال النِّصف الأوَّل من العام 1919م، بين فصيلي الثَّورة، المدني والعسكري، حول تكوين «مجلس السَّيادة». ولمَّا بدا له أن تلك المشكلة بسبيلها إلى الحل، غادر الخرطوم، مطلع يونيو، إلى مكَّة المكرَّمة، مصاحباً لموسى فكي، رئيس مفوَّضيَّة الاتِّحاد الأفريقي، للمشاركة في قمَّة منظَّمة التَّعاون الإسلامي، ثمَّ من هناك إلى جدَّة، ومنها إلى باريس، مساء الثَّالث من الشَّهر، قاصداً التَّوجُّه لقضاء عيد الفطر مع أهله في نواكشوط. سوى أنه ما لبث أن تلقى، وهو في باريس، عدَّة رسائل، قلقة مقلقة، من فكي، تحثُّه على العودة، فوراً، إلى الخرطوم، حيث الأمور قد تدهورت بصورة مأساويَّة، في إشارة لفضِّ الاعتصام الذي كان قد وقع، وقتها، أمام مقرِّ القيادة العامَّة للجَّيش، وراح ضحيَّته مئات القتلى، وآلاف الجرحى والمفقودين، وتعقَّدت، بسببه، أوضاع التَّغيير الثَّوري، وعلاقات أطراف العمليَّة السِّياسيَّة برمَّتها!
خفَّ ولد لبَّات عائداً إلى الخرطوم، دون تأخير، وطلب، فوراً، مقابلة البرهان، رئيس المجلس العسكري الذي كان قد أعلن مساراً «أحاديَّاً» مشؤوماً، فحواه نفْض يده، نهائيَّاً، من أيِّ تفاوض مع قوى «الحريَّة والتَّغيير»، بينما أعلنت الأخيرة، بالمقابل، تخليها، نهائيَّاً أيضاً، عن أيَّة نيَّة للتَّفاهم مع المجلس العسكري، متَّهمة إيَّاه بكلِّ المساوئ! في الأثناء كانت المدينة تغلي بأنباء تعيين وشيك لحكومة تصريف أعمال، وعن تنظيم انتخابات عامَّة خلال أشهر معدودات، كما راحت تتعالى نداءات محمومة للإطاحة بالمجلس العسكري، ودعوات متشنِّجة للجوء إلى السِّلاح، والاستعداد للانخراط في مقاومة عسكريَّة، و .. كان المشهد، بوجهٍ عام، يعكس تَّحطم كلِّ جسور التَّلاقي بين الطرفين!
في السِّياق، وتحت تلك الأجواء الملبَّدة بغيوم المجابهة الدَّاكنة، دلف الوسيط الأفريقي، بعد منتصف الليل، إلى مكتب البرهان في القيادة العامَّة، حيث أدار معه نقاشاً صريحاً مباشراً، في حضور رئيس القطاع السِّياسي للمجلس، وعسكريِّين آخرين، سائقاً له حججاً تتساوق، وتحزُّ، على حدِّ تعبيره، كالسَّاطور في المِفْصل، وفي مقدِّمتها ثلاث على النَّحو الآتي:
الحُجَّة الأولى: ضرورة الإعلاء من شرف العسكريَّة، فقد سبق للجَّيش أن اعترف بقوى «الحريَّة والتَّغيير» شريكاً حصريَّاً في التَّفاوض المتوقِّف، ولن يكون النُّكوص عن هذا الاعتراف، الآن، سوى وصمة عار تناقض، أبد الدَّهر، قيم هذا الشَّرف الفكريَّة والأخلاقيَّة لدى كلِّ جيوش العالم!
الحُجَّة الثَّانية: استحالة تمرير «الخيار الأحادي» دون اللجوء إلى السِّلاح. لكنَّ استخدام السِّلاح سيصطدم، دون شكٍّ، بحرب عصابات يقودها شباب الأحياء الشَّعبيَّة الذين هم قوام الثَّورة! وعندئذٍ لن تكون طائرات الجَّيش، ولا دبَّاباته، ولا أسلحته الثَّقيلة ذات فعاليَّة، لتعذُّر استخدامها في حرب الشَّوارع!
الحُجَّة الثَّالثة: ارتفاع كلفة «الخيار الأحادي» المبهظة؛ حيث سيكون ثمَّة قتلى في صفوف المحتجين، مثلما سيسقط قتلى، أيضاً، بين العسكريِّين. ويا له من سيناريو «مثالي» لكلِّ مَن لا يكترث للعواقب!
هكذا كان الوسيط الأفريقي يسوق نصائحه للبرهان بشأن «الخيار الأحادي»، في ذلك الوقت المبكِّر، وفي ذهنه شبهة «الانقلاب»، محذِّراً إيَّاه من أن مزاياه المنتظرة مجرَّد وهم، فالثَّمن الذي سيترتَّب عليه يفوق، بما لا يُقاس، المكاسب التي يمكن تحقيقها عن طريقه، مِمَّا يجعله مساراً عبثيَّاً عديم الفائدة تماماً، والعاقل من يفكِّر مرَّتين في «مئال» كهذا .. قبل أن يقدم عليه!


الثُّلاثاء
قد يرتكب جنرال ما عشرات الجَّرائم، ولكنها تظلُّ، أجمعها، طيَّ الكتمان، بينما خطأ وحيد قد يرتكبه، ربَّما عن غفلة، وينكشف لاحقاً، ولو بالصُّدفة، ولو بسوء الحظ، يتكفَّل بتدمير مستقبله كله!
عام 1961م، أثناء حرب فيتنام (1 نوفمبر 1955م ـ 30 أبريل 1975م)، قام العميل الأمريكي الجَّنرال نجيين لوان، بتسديد فوهة مسدَّسه إلى رأس أسير من ثوَّار الفيتكونغ، وهو مقيَّد اليدين خلف ظهره، ثمَّ ضغط على الزِّناد .. بدم مثلج! كانت تلك، يقيناً، واحدة، فقط، من بين آلاف الجَّرائم التي ارتكبها الأمريكان وعملاؤهم في تلك الحرب. لكن، ولأن شقيَّ الحال يقع في القيد، كانت هي الوحيدة التي جرى توثيقها، بتفاصيل فوتوغرافيَّة مفجعة، إلى حدِّ أن الإحساس بها ظلَّ يسري إلى كلِّ مَن تقع عينه عليها، منذ ذلك الوقت وحتَّى الآن، ناقلاً ارتعاشات أدقِّ خليَّةٍ في جسد ذلك الأسير، من شعر رأسه حتَّى أخمص قدميه! فأثناء تنفيذ الجَّنرال الغافل لجريمته، كان يقف، بالمصادفة، على مرمى حجر من مسرحها، المصوِّر الصَّحفي البارع إيدي أدامز، من الآسوشيتد برس، فلم يتوان في اهتبال الفرصة لالتقاط الصُّورة الأكثر شهرة، والتي اعتبرت أندر صور تلك الحرب، ووصفتها التَّقارير الحربيَّة بأنها غيَّرت مسارها نهائيَّاً، بل لعلها من أندر الصُّور النَّاطقة ببشاعات كلِّ جرائم الحـروب عبر التَّاريخ الإنساني على الإطـلاق!
إنتهت حرب فيتنام، لكنَّ تلك الصُّورة التَّعيسة الملتقطة بمحض الصُّدفة، والتي جرى نشرها على أوسع نطاق، حوَّلت حياة الجنرال نجيين إلى جحيم، وتسبَّبت في القضاء على مستقبله كله طوال ما كان تبقَّى له من عمر! ومن أبسط نماذج تلك المعاناة أنه نُقل، مثلاً، بعد الحرب، ليتلقى العلاج في مستشفى أسترالي، غير أن إدارة تلك المستشفى رفضت استقباله! فتمَّ تحويله إلى الولايات المتَّحدة، إلا أن حملة شرسة قامت هناك لطرده منها! وعندما حاول، متخفِّياً، افتتاح مطعم في فرجينيا، يكسب منه رزقه، معتقداً أن أحداً لن يعرفه، فوجئ بكتابة يوميَّة راتبة لعبارات معادية له على جدران المطعم، أخفُّها «إرحل .. فنحن نعلم من أنت»!
و .. هكذا تعيَّن على الجَّنرال نجيين أن يدفع، ليس، فقط، ثمن غفلته الشَّخصيَّة، أو عدم احترازه «المهني!»، بل ثمن جميع الآثام التي أرتكبها مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من الضُّبَّاط، والجنود، في كلِّ الحروب القذرة!


الأربعاء
أتى على السَّاحة السِّياسيَّة العربيَّة حين من الدَّهر خبرت فيه ما ظلَّ يُعرف، لسنوات طوال، بمصطلح «الأنظمة التَّقدميَّة»، وهي تلك «الأنظمة» التي تأسَّست، منذ أواخر أربعينات القرن الماضي، على شتَّى الانقلابات العسكريَّة، وفق المفاهيم الأيديولوجيَّة لبرجوازيَّة العالم الثَّالث الصَّغيرة، المناقضة، باختلاف فئاتها وشرائحها، لمفهوم «الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة»، القائمة على الإعلاء من مبادئ التَّعدُّد والتَّنوُّع، ومن قيم الحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة.
«الدِّيموقراطيَّة»، إذن، بدلالة الحريَّات والحقوق السِّياسيَّة، تتناقض، بل تستوجب القطيعة التَّامَّة مع النَّزعة البُرجوازيَّة الفوقيَّة للبناء والتَّغيِّير، مثلما تقتضي الاستمساك الصَّارم بضرورة انطلاق هذين البناء والتَّغيير من قلب حركة جماهيريَّة متمتِّعة، قبلاً، بحريَّاتها العامَّة، وحقوقها الأساسيَّة، خصوصاً في البلدان النَّامية، حيث أكَّدت خبرة العديد منها أن معظم مشروعاتها، وإجراءاتها الاقتصاديَّة، ومخطَّطاتها السِّياسيَّة، التي توصف، صحفيَّاً، بأنها «تَّقدميَّة»، كعمليَّات الإصلاح الزِّراعي، وتأميم المؤسَّسات الأجنبيَّة، على سبيل المثال، لا تعدو، في غياب المشاركة الشَّعبيَّة الفاعلة، محض الوهم، أو التَّدابير المعزولة التي يسهل إلغاؤها لدى أوَّل تحرُّك انقلابي مضادٍّ، دون أن يكون بين أيدي الجَّماهـير، صاحبة المصلحة الحقيقيَّة في البناء والتَّغيير، ما يؤهِّل لحمايتها! ذلك أن هذه «الدِّيموقراطيَّة» هي، بالفعل، الضَّامن الحقيقي للاستقرار، والتَّطوُّر، وبغيرها لن يكون لهذه المشروعات أو الإجراءات أيُّ معنى، كما ولن تشهد هذه البلدان أيَّ استقرار أو تطور، مهما نشط التَّبشير بهما، تحت أيَّة لافتة أو شعار!
غير أن ذلك لا يعني، البتَّة، علوَّ كعب الوهم المعاكس، من الجَّانب المقابل، بأن الدِّيموقراطيَّة السِّياسيَّة وحدها كافية لتحقيق مجتمع الرَّفاه، أو جنَّة الليبراليَّة على الأرض! ولعلَّ أكبر دليل على اختلال هذه المعادلة تصدُّع وانهيار التَّجربة الاشتراكيَّة العالميَّة، رغم أنها عمَّرت الثَّرى بالإنجازات «المادِّيَّة»، وارتادت الثُّريَّا، ردحاً طويلاً من الزَّمن، لكن تحوُّلها الدراماتيكي إلى الليبراليَّة الاقتصاديَّة سرعان ما فضح، بالمقابل، عجزها عن تحقيق الجَّنة الموعودة، رغم تعاقب ثلاثة عقود، حتَّى الآن، من التَّحليق بأجنحة الحريَّة «السِّياسيَّة» وحدها. فتجربة الاتِّحاد السُّوفييتي الاشتراكيَّة، مثلاً، تقدِّم درساً بليغاً مفاده خطل التَّعويل على خطَّة تحقيق الاستقرار، والتَّطوُّر المستدام، وفق معادلة التَّضحية بالحريَّات والحقوق “السِّياسيَّة” ثمناً لتحقيق الرَّخاء “المادِّي” للمواطنين! فلقد حققت تلك التَّجربة، بالفعل، مستويات مشهودة من الوفرة في الغذاء، والسَّكن، والصَّحَّة، والتَّعليم، والثَّقافة، والرِّياضة، مثلما راكمت إنجازات هائلة في مجالات العلوم، بما في ذلك علوم الفضاء، والفلك، وما إليها. ومع هذا فقد آل كلُّ ذلك البنيان التَّاريخي الضَّخم إلى انهيار مدوٍّ بسبب اختلال معادلة الحقوق “المادِّيَّة” على حساب الحقوق “السِّياسيَّة”! ثمَّ ها هي الأزمات، الآن، تحتوش روسيا الرَّأسماليَّة، أيضاً، بسبب نفس المعادلة المختلة، حيث توفَّرت للمواطنين حقوقهم “السِّياسيَّة”، لكن على حساب حقوقهم “المادِّيَّة”!
هكذا ينبغي أن يرسخ في وعي القوى الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة الحقيقيَّة، في بلدان العالم الثَّالث، وفي الخط الدِّعائي لهذه القوى، أن برامج ما يسمَّى بـ «الأنظمة التَّقدُّميَّة»، تحت عنوان «الرَّخاء مقابل الحريَّة»، وهمٌ كبير، وأن نشدان التَّطوُّر الحضاري، والتَّقدُّم الاجتماعي، لا يكون بالانجازات «المادِّيَّة» وحدها، كما ولا يكون بالانجازات «السِّياسيَّة» وحدها، وإنَّما بالجِّديَّة في ترسيخ «الدِّيموقراطيَّة ذات المحتوى الاجتماعي»، مِمَّا يستتبع بذل الجَّهد، ابتداءً، لبناء أوسع تحالف للقوى الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة، شاملة تيَّاراتها السِّياسيَّة، ومنظماتها المدنيَّة، وروابطها المجتمعيَّة، واتِّجاهاتها الفكريَّة، ورموزها العامَّة، في مسيرة قاصدة، لا لبناء ديموقراطيَّة شكليَّة «عرجاء»، وإنَّما لتحقيق وتعزيز «الدِّيموقراطيَّة» المعنيَّة بضمان «الحقوق السِّياسيَّة» و«العدالة الاجتماعيَّة» معاً، وفي آن واحد، تحمُّلاً لمشقَّات هذه المعادلة، وقبضاً على جمرها، ثمَّ حشداً للقوى الشَّعبيَّة المشار إليها كافَّة، كلما حزب الأمر، وكلما اقتضت الضَّرورة، لمنازلة الشُّموليَّة، والمظالم الاجتماعيَّة، وإلحاق الهزيمة بها، دون الاضطرار للتَّورُّط في أيَّة «مؤامرة انقلابيَّة»!


الخميس
على كلِّ مَن يتشدَّق بالحرص على الثَّورة، وبالوفاء لأرواح الشُّهداء، أن يضع نصب عينيه حقيقة أساسيَّة، وهي أننا، الآن، بإزاء لحظة تاريخيَّة يتكثَّف فيها التَّآمر لإرجاع عقارب السَّاعة إلى الوراء، فلا تعني ترجمة أقلِّ القليل من هذه «الشِّعارات» غير التَّشبُّث بـ «الحكومة الانتقاليَّة»، و«الاستماتة» في الدِّفاع عنها، إلى حين إشعار آخر بانفجار .. ثورة في الثَّورة!


الجُّمعة
السَّادس من سبتمبر 1987م. قبيل منتصف الليل هبطت بنا الطائرة في مطار جنيف. كان حضوري إلى هذه المدينة السُّويسريَّة الباذخة مرتبطاً بتلبية دعوة وصلتني للمشاركة، باسم اتِّحاد الكتَّاب السُّودانيين، في مؤتمر الأمم المتحدة الرَّابع للمنظمات غير الحكوميَّة حول القضيَّة الفلسطينيَّة، بقصر الأمم ـ Palais des Nations، بين 7 ـ 9 سبتمبر.
كان أبو عمَّار شديد الثِّقة في النُّفوذ المدني لاتِّحادنا، على أيَّام الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، أيَّام كان «جماعة المراسم» بالخارجيَّة يوقظوننا، بعد منتصف الليل، ليبلغونا بأنه وصل الخرطوم فجأة، و«عايز يشوفكم حالاً»! وكان يحتقب، دائماً، مشروعات ملهمة، كمشروع «جامعة القدس بالخرطوم»، كما وأنه، لدى ترحيبه الحفيِّ بوفدنا على هامش مؤتمر الجَّزائر «التَّوحيدي» للاتِّحاد العام للكتَّاب والصَّحفيِّين الفلسطينيِّين، كلفنا بأن نتلمَّس إمكانيَّة إطلاق مبادرة تحتضن، من خلالها، منظمات المجتمع المدني السُّودانيَّة مؤتمراً للعمَّال العرب كان «البعض» يسعى لعرقلته، بينما كانت منظمة التَّحرير في مسيس الحاجة إليه لدعم «انتفاضة الحجارة» التى كانت قد أطلقت، للتَّوِّ، شرارتها الماجدة. واستطراداً، فقد كان يحلو لـ «الختيار» أن يطلق على «أطفال الحجارة» اسم «جنرالات الثَّورة الفلسطينيَّة الجُدد»!
فى الصباح كانت ردهات الفندق وأبهاء القصر تغصُّ بأصحاب «العُرس»، وأوَّلهم «الختيار» نفسه الذى انعقد المؤتمر، خصيصاً، بالمقرِّ الأوربِّى للمنظمة الدَّوليَّة، كي يتمكَّن من مخاطبته. كان برفقته أبو مازن، وشفيق الحوت، وأحمد عبد الرحمن، وريموندة الطويل، وعشرات آخرين. لم أستغرب حضور توفيق زيَّاد، عضو الكنيست «الإسرائيلي»، وعمدة النَّاصرة، وقتها، من «داخل الدَّاخل»، فقد ألجمتْ استغرابي قامتُه التَّاريخيَّة المديدة كأحد المؤسِّسين، منذ النِّصف الثاني من ستِّينات القرن المنصرم، لشعر المقاومة، الصَّائغ الأكبر لوجداننا، نحن جيل العاطفة الجَّيَّاشة تجاه «القضيَّة». لكنَّني استغربت غياب صديقي درويش، سيِّد الشعر العربي الحديث، وعضو اللجنة التنفيذيَّة لمنظمة التَّحـرير، ورئيس الاتِّحاد الفلسطيني، لا سيَّما وقد كان يقيم، وقتها، على مرمى حجر بباريس، فلِمَ، تراه، لم يحضر، والحدود السُّويسريَّة ـ الفرنسيَّة تقع، مباشرة، داخل مطار جنيف؟!
كان هنالك أيضاً عشرات من قادة منظمات المجتمع المدني العربيَّة، من الشَّرقاوي، وحمروش، وأبو عيسى، واليوسفي، إلى خالد محي الدِّين، وأديب الجَّادر، وخيرات عبد الهادي، ومنى مكرم عبيد، وآخرين. كما كان طبيعيَّاً وجود العشرات من خبراء القانون الدَّولي، وأعضاء الكونغرس الأمريكى والكندي، وأعضاء البرلمان الأسترالي، ووزراء خارجيَّة بعض دول الكتلة الشَّرقيَّة، وقتها، ورؤساء وأساتذة جامعات مختلفة، وكثيرين غيرهم من شتَّى الملل والنِّحل.
الشئ الوحيد الذي لم أكن مهيَّئاً له، فأربكني بحق، وزلزل كياني بعنف، وهزَّ أعماقي من جذورها، هو رؤيتي، فجأة، لمن تنشَّأنا، عقيديَّاً، وترعرعنا عاطفيَّاً، وتشكَّلنا وجدانيَّاً، نحن جيل حركة التحرُّر العربيَّة، بكلِّ دوىِّ شعاراتها، وجلجلة أشعارها، وصداح أناشيدها، على تسميتهم بـ «العدوِّ الاسرائيلي» .. دَعْ أن أجدهم محلَّ ترحيب منظمة التَّحرير نفسها، وحفاوتها! كان هنالك ماتيتياهو بيليد، عضو «الكنيست»، وأستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة تل أبيب، وعمنون زيخروني، المدير التنفيذى لمجلس «السِّلم!» الاسرائيلي ـ الفلسطيني، و«الرَّفيق» أوزى بيرنشتاين، عضو المكتب السِّياسى لراكاح «الحزب الشِّيوعي الإسرائيلي!»، وممثلو الجَّبهة الدِّيموقراطيَّة «للسَّلام!» والمساواة، وحركة النِّساء الدِّيموقراطيَّات، وحركة تضامن الطلاب اليهود والعرب، وغيرهم. حتى مدرخائى زانونو .. هل تذكرونه؟! عالم الذَّرَّة في المفاعل النَّووى الإسرائيلي الذي كشف للإعلام العالمي برنامج إسرائيل السِّرِّى لتطوير الصواريخ حاملة الرؤوس النَّوويَّة بعيدة المدى، والذى كانت محاكمته جارية، وقتها، أمام محكمة عسكريَّة سرِّيَّة، وجد سبيلاً لتوزيع بيان باسمه في المؤتمر يطالب بمحاكمة علنيَّة! لم يكن ذلك أقصى ما وقع بيننا من قرب، فقد بلغ «تلاحمنا» ذروة حميميَّته، لاحقاً، عندما دعتنا المنظَّمة إلى «مؤانسة» مع «الختيار» في صالون جناحه بالفندق، حيث تكدَّسنا، متلاصقين مع «العدوِّ الاسرائيلىِّ»، وجهاً لوجه، وكتفاً لكتف، وشهيقاً لزفير، داخل الصَّالون الصَّغير، وتحت الأضواء المتلاصفة لكاميرات التَّلفزة والصَّحافة العالميَّة!
قعدنا ساكتين، نتفرج على مشهد يستحيل نسيانه! كان «الأعداء» يتقدَّمون، واحدهم في إثر الآخر، نحو عرفات الرَّابض، كالليث، في صدارة المجلس، بقترته، وغدارته، وعيون حُرَّاسه الشَّخصيِّين الصَّقريَّة، وينحنون ليطبعوا قبِّلاتهم على جبينه، ورأسه، وخدَّيه، ويخاطبونه بإجلال، وتعظيم، وتبجيل! وهل أنسى، ما حييت، مشهد ذلك العامل النِّقابي القصير، النَّحيل، بأنفه المعقوف، وأظنُّه من «السفارديم»، يقبَّل، مبهور الأنفاس، جبين «الختيار»، ورأسه، وخدَّيه، بل كاد، لولا أن الأخير سحب يده سريعاً، يقبِّل ظاهر كفِّه، قائلاً، بنبرات متهدِّجة، وإيماءات أرسطوطاليسيَّة، وتوفيق زيَّاد يتولى التَّرجمة من وإلى العبريَّة والعربيَّة:
ــ «ليس العرب وحدهم من ينتظرك، يا أبا عمار، بل ينتظرك معهم كلُّ فقراء إسرائيل وكادحيها”!
حانت منِّي نظرة، لحظتها، إلى «الختيار»، فألفيته مصبوباً في بزَّته الحربيَّة، وعيناه تشعَّان بوميض غامض، وغموض وامض، وثغره يفترُّ، وسط أكمة شاربه ولحيته، عن ابتسامة تمزج الرِّضا بالثِّقة، والتَّحدي بالزَّهو والفخار، تماماً كنصب تذكاريٍّ من المرمر أنجزه مثَّال إغريقي قديم! فتذكَّرت وصف درويش له، على أيَّام الحصار الأسطوري الذي أحكمه شارون على بيروت، صيف 1982م، بأنه «يطأ الشَّمس بحذائه، وينقل خطوه باتِّساع الأفق»، أو كما قال! ثمَّ ما لبثت أن سطعت، في خاطري، بغتة، كنصل خنجر، أنشودة فيروز والرَّحابنة: «وستغسلُ يا نهرَ الأردن آثارَ القَدَمِ الهمجيَّة»! فرُحت أسترجع همس المساءات يسري من غرفة لغرفة، ويدور، طوال النَّهارات، في مطاعم الفندق، والقصر، ومقاهيهما، عن «حوار» يقال إنه ما انفكَّ يجري، هنا وهناك، حول إقامة «الدَّولة الفلسطينيَّة» في الضِّفَّة والقطاع! لكنَّني عندما سألت، على الغداء، صديقي النَّاشط الحقوقي الفلسطيني عمَّا إذا كان سيذهب ليعيش فى «الدَّولة الجَّديدة»، صرخ كالملدوغ:
ــ «شو أخي .. بيتنا في النَّاصرة، ومفتاحو بعدو معلق على جدار شقتنا فى دمشق، إيش اللي يودينى القطاع»؟!
ثمَّ أردف شتيمة فلسطينيَّة شعبيَّة مرحة! مع أن عينيه كانتا، صباح نفس ذلك اليوم، تبرقان، على الإفطار، بإعزاز حقيقي لعرفات ولدرويش، حين تطرقنا لتصريح الأخير عبر الصَّحافة الفرنسيَّة، قائلاً: «إنَّني على أتمِّ استعداد لمحاورة أىِّ مفكر أو كاتب اسرائيلىٍّ، شريطة أن يعترف بحقوق الشَّعب الفلسطيني غير القابلة للتَّصرُّف، وبمنظمة التَّحرير ممثلاً شرعيَّاً للشَّعب الفلسطيني»! بدت لي العبارة مركَّبة تركيباً بديعاً beautifully said، بينما كانت «أوسلو» ما تزال، آنذاك، نطفة تتخلق بعيداً بعيداً .. على مرمى ستِّ سنوات فى رحم الغيب!
حاولت أن أعود لمتابعة «المؤانسة»، على أن القلق سرعان ما عاد ينهش صدري، ويعصف بذهني: «مَن هؤلاء الفقراء والكادحون؟! ومَن هؤلاء الكتَّاب والمفكرون؟! هل ثمَّة من لديه استعداد، فيهم، للتَّنازل، طوعاً، عن نصيبه فى «تركة الاغتصاب!»، ليعود إلى أىِّ «غيتو» جاء منه في هذا الكون الفسيح؟! أليسوا، أجمعهم، احتياطيَّاً استراتيجيَّاً لـ «جيش الخلاص»؟! أتراهم، إذا التقي «الجَّمعان» غداً، يقولون: لا، سنحارب إلى جانب عرفات .. «المخلِّص المنتظر»؟!
الأسئلة البسيطة فى المناخ المعقَّد تورث الرَّهق! ولقد أرهقتني، بالفعل، حتَّى أورثتنى نعاساً لا يُغالَب، فغفوت برهة .. أو برهتين، قبل أن تنبِّهني الهمهمات، وحركة الأجساد، إلى أن «المولد» قد انفضَّ!


السَّبت
عجبت لمن استهجن إحياء ندى القلعة وأيمن دقلة حفل توقيع اتفاق «السَّلام» بجوبا، إذ، في ما عدا القليل من «الأشياء»، لم ألمس فرقاً يُذكر بين هذا الاتِّفاق وبين اتِّفاقي أبوجا والدَّوحة، كي أستكثر على القلعة ودقلة أن يقوما بما كان يقوم به شنَّان وقيقم!

الأحد
مؤكَّدٌ أن عنزين ﻻ يمكن أن تنتطحا على الفروق الجَّوهريَّة بين وقائع الحياة السِّياسيَّة في بلداننا النَّامية، وبينها في بلد كأمريكا مثلاً! مع ذلك فإن على مَن يتوهَّمون هذه الفروق بالضَّخامة التي تروِّج لها أجهزة البروباغاندا، وتبرزها صحف الإثارة، ويعكسها محللو التَّهاويل، أن يتجاوزوا فخامة الصُّور، وطنين الكلمات، ودويَّ العبارات، ويحاولوا إيلاء اهتمام أكثر لمشهد القواسم والمشتركات، خصوصاً على صعيد المناهج المتَّبعة في خوض وإدارة الصِّراع السِّياسي، ليكتشفوا القدر الكبير من التَّقارب هنا وهناك، بصرف النَّظر عن كون الفرق بين الحالتين لا يتجاوز فرق الدَّرجة!
من أبرز مستجدَّات ذلك ما أوردت «الشَّرق الأوسط أونلاين»، مؤخَّراً، نقلاً عن ستيفاني ونستون، صديقة ميلانيا، زوجة الرَّئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي كانت قد خدمت، ردحاً من الزَّمن، كموظَّفة لديها، بشأن المكايدات التي تكاد لا تنتهي بين ميلانيا، من جهة، وبين إيفانكا، إبنة ترامب، وكبيرة مستشاريه، من جهة أخرى، حيث لا تكفُّ الأخيرة عن مساعيها لإضعاف نفوذ الأولى في البيت الأبيض! ففي بعض المقتطفات التي نقلتها «الغارديان» البريطانيَّة من الكتاب الذي نشرته ستيفاني، مؤخَّراً، بعنوان «ميلانيا وأنا»، أوردت أن إيفانكا ما تنفكُّ تتآمر مع حلفائها لتشويه صورة السَّيِّدة الأولى، مِمَّا دفع هذه لنعتها ومن معها، علناً، بـ «الثَّعابين»! كما أوردت «الغارديان»، أيضاً، عن بعض مصادرها، أن المؤلفة كشفت، في هذا الكتاب الذي يُتوقَّع صدوره خلال أيَّام، أنها أجرت تسجيلاً صوتيَّاً لمحادثات خاصَّة بينها وبين ميلانيا، أدلت الأخيرة، خلالها، بتعليقات «قاسية» عن إبنة ترامب، بل وبملاحظات «سلبيَّة» عن ترامب ذاته!
***

kgizouli@gmail.com

التعليقات مغلقة.