الكلام المباح عن بيوت الأشباح وسر الزنزانة( 16)!!

الكلام المباح عن بيوت الأشباح وسر الزنزانة( 16)!!
  • 13 فبراير 2021
  • لا توجد تعليقات

عبدالرسول النور


(واصبر وما صبرك إلا بالله.. ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون.. ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) صدق الله العظيم..
كان أكثر ما يقلق قادة الانقلاب 1989م.. هو الروح المعنوية العالية التي واجه بها المعتقلون من الوان الطيف السياسي والنقابي والعسكري والاجتماعي كافة كل تدابير التمويه والكيد والمكر التي ابتدعها الانقلابيون.. فقد حولوا السجون والمعتقلات الي مهرجانات صمود وكرنفالات فرح وسخرية من النظام وسياساته..والتي لخصها الدكتور الشاعر ادريس عبدالله البنا.. نائب رئيس مجلس رأس الدولة في الديموقراطية الثالثة.. حين كشف التمويه وفضح الخدعة..
مما شفتا سلاحك شاكي
وبومك راكي.. ما شكيت وما غبيت..
وما كنت شاكي.. ديل الكيزان لابسين كاكي!!
والتي قُدم بموجبها الي المحكمة العسكرية.. التي برأته.. عندما طلب من الاتهام قراءة القصيدة حتى يقرر هل هذه قصيدته ام لا لان نظره ضعيف ولا يستطيع القراءة!.. فطلب القاضي من الاتهام تلاوة القصيدة على الملأ.. فصعب عليه الأمر وتلعثم فشطبت القصيدة اللاذعة وهي اول قصيدة هجاء للنظام وقد قام الشاعر بترجمتها الي اللغة الانجليزية.. كما كانت ليالي السمر في فسحات السجن الضيقة والاهازيج الكورالية تهز اركان السجن العريق فيتجاوب معها سجناء السرايا.. والاقسام الاخري..
نغني ونحن في اسرك
وترجف وانت في قصرك!ٰ!
كانت السجون وعلى راسها شيخها الوقور (كوبر) قد اضحت جزرا محررة وواحات للديموقراطية وسط جحيم الدكتاتورية و الطغيان.. فتفتقت عبقرية الطغاة عن وسائل للنيل من صمود المعتقلين وكسر انفتهم وعزتهم.. فبداوا بعزلهم عن بعضهم البعض في حبس انفرادي قاسي.. تمهيدا لارهابهم وتعذيبهم نفسيا وبدنيا وعائليا.. بحرمان اسرهم من زيارتهم او تلقي اخبار عن أحوالهم.. بل يعمدون الي اللعب علي اعصابهم بنقل اخبار زائفة عن اسرهم..
مثلا.. لما احسوا ان احد المعتقلين يظهر الاهتمام الزائد باخبار عائلته.. لعبوا علي هذه العاطفة الزائدة.. فيسألونه في شفقة وبراءة.. انتو عندكم زول عيان؟ فيجيب بالنفي ثم يضيف منزعجا ليه؟ فياتيه الرد.. شايف في خيمة عزاء جنب البيت.. ما عارف الحصل شنو؟ فيزيد انزعاجه وقلقه فيحاول ان يجد مزيدا من المعلومات.. والي هنا يختفي المخبر ويتركه في ظلمات من الحيرة والشك المريب ََثم تطور التفكير الجهنمي الي انشاء سجون ظلام.. لعلهم أخذوا الفكرة من دول لها القدح المعلي في فنون التعذيب و إذلال المعارضين.. فبدأوا ببيوت داخل الأحياء خصصوها لكسر الصمود او كسر الرقاب.. فمن استعصي كسر صموده كسروا عنقه..
كان من بين هذه البيوت سيئة الصيت.. مركز الانتخابات في قلب الخرطوم.. ولعله هو المنزل الذي تم فيه تعذيب د. علي فضل نقيب الأطباء وقتها علي ايدي زملائه الأطباء الذين استوصوا به شرا..حتي مات بدق مسمار صدئ في رأسه والصقوا التهمة بالملاريا..
كان المعتقلون معصوبو العيون يلتحفون الأرض ويتغطون بسقف الغرف المظلمة الرطبة كريهة الرائحة من العرق والدم وبقايا الطعام.. وكان الجلادون القساة منقبون حتى اذا ما تمكن احد المعتقلين من الأبصار لايرى الا اشباحا تسعى.. المعتقلون اشباح وكذلك الجلادون.. لهذا جاءت التسمية.. (بيوت الاشباح) والتي لا يعلم ما جري بداخلها الا الله.. فقد حدث بداخلها كل ما يخالف الشرائع السماوية و الأرضية والضمير الانساني وحقوق الإنسان..كل ذلك كان يتم باسم الاسلام دين الرحمة والعدالة والتسامح والاسلام برئ منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.. انهم كانوا لانفسهم يمهدون.. و شعارهم الغاية تبرر الوسيلة كما قال بذلك الفيلسوف الايطالي ميكيافللي الذين يلعنونه جهرا ويسيرون على هداه!
كانت سمعة بيوت الأشباح قد بلغت الافاق..
فسار بها من لم يسر مشمرا.. وغنى بها من لم يغن منشدا..
وقد بلغ سوء سمعة بيوت الأشباح وما يجري فيها مبلغا عظيما مما اضطر النظام الي اغلاقها وانكارها.. لان الشينة منكورة.. بعد أعوام من مماراساتها السيئة.. و إلحاق القائمين عليها من الشباب الذين غسلت ادمغتهم وشحنوا بالكراهية والبغضاء بالمتحركات القتالية عسى ان تغسل (ما ظنوه وهما..شهادة) سوء ما فعلوا! وعلمنا ان كثيرين منهم لم يعودوا ابدا.. فقد كانوا يعملون مع نظام لا يرعى فيهم الا ولا ذمة يقذف بهم قذف النواة اذا ما اكملوا مهمتهم.. مثل ضحايا محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك فمن لم يقتله الاثيوبيون والمصريون في المعركة.. قتله من ارسلوه خوف افتضاح الأمر..
خرجت عام 1994م من بيت الاشباح الاشهر المعروف استهتارا بالواحة.. بعد ان ظن الجلادون ان ايامي صارت معدودة بعد ان هدني الجوع المرض وسوء الحال.. ولا يريدون ان اموت عندهم فحملوني وانا في غيبوبة ووضعوني علي باب منزلي بالحتانة.. ورجعوا.. ولما تعافيت كان الزوار يعجبون من تدهور صحتي..وسوء حالي.. وكان من بين الزوار احد اقاربي رجل شهم كريم شجاع وما ان راني.. فقد تماسكه وبكى.. ثم قال والله السجن بيت الرجال.. معروف.. ولكن انا زعلان شديد كيف يودوك بيت( الاحباش)!!
كانت الزنازين التي بناها الحكم الثنائي في السجون كافة وفق المواصفات الدولية من حيث المساحة والتهوية و الأرضية.. وكانت ابوابها من القضبان لمرور الهواء واشعة الشمس.. ولكن الانقاذيون راوا في تلك الزنازين فخامة لا يستحقها خصومهم.. فانشاوا زنازين اضيق مساحة واصغر حجما واخشن بلاطا وبابها تغطي قضبانه الواح من الصاج الا فتحة صغيرة (منور) لاتسمح بمرور الهواء في صيف غائظ.. ويحدث الصاج عند الضرب عليه صوتا يطرد الهدوء. والنوم والراحة بالإضافة إلى انه يحجب الرؤية والهواء..
وبيت اشباح الواحة والذي عشت فيه حبسا منفردا اكثر من عام.. يقع في قلب الخرطوم.. شرق عمارة ستي بنك.. وقد كان سجانونا يمتنون علينا باننا نسكن معهم في قلب الخرطوم بعد ما كنا نسكن في اطراف المدن!
بنيت الزنازين في شكل( shape( u
ابوابها الي الشمال
والغرب والجنوب وهي في الركن الشرقي للبيت الكبير.. وفي الساحة التي تفصل بين الزنازين والغرف الرئيسة للمنزل والتي خصصت للاعتقال الجماعي.. تمارس كل وسائل التعذيب والإهانة نفسيا وجسديا.. و الزنازين تبدأ من الغرب الجنوبي وتتوسطها اشهر الزنازين 13 و14و15 وانتهاء ب 16وهي في الركن الشمالي الشرقي وغربها الزنزانة الاكبر حجما وكنا نسميها الصين الشعبية حيث يحشر فيها المعتقلون حشرا وهم صاغرون.. وبما اني تنقلت بين زنازنتين.. 13و15 كنت اختلس النظر واسترق السمع لما يدور في الموقع.. وبحكم طول اقامتي فقد دبرت امري واستملت بعض الحراس بوسائل تجيزها الضرورات التي تبيح المحظورات.. وكنت سعيدا بالحبس الأنفرادي مقارنة بتكدس الاخرين في زنازين ضيفة يتوسطها طست للبول الجماعي! والنوم والجلوس بالتناوب..
كنت في زنزانتي أرى بوضوح زملائي يغدون ويروحون الي الحمام ولكن لا استطيع التحدث اطلاقا الا ايماء.. كانت الاعداد كثيرة و متعددة.. وكان الصمود سيد الموقف فلا شكوي او انين او ضعف ولين.. من الوان الطيف كافة ومن الاعمار كافة.. نسمع سخرية الحاج مضوي محمد أحمد وغضبة الحاج نقدالله المضرية.. وهرشات الاستاذ سيد أحمد الحسين وصمود وصبر بكري عديل وصلاح سمعريت وثبات يوسف حسين وإصرار فضل الله برمة على عدم الاستجابة لتعليماتهم وهيبة الامام الصادق وهو رابض ارضا في الزنزانة 16 والتي سنعود لها في حديث منفصل باذن الله تعالى وتوفيقه.. كان هناك في بعض المرات حبيب سرنوب الضو والزهاوي ابراهيم مالك ومولانا الوقور ابوزيد محمد حمزة وعثمان عمر الشريف وعبد الرحمن فرح ود. حماد عمر بقادي.. وفاروق زكريا.. وعلي حمدان واسماعيل بلول وياسر النعمة و د. ابراهبم الأمين.. وعبد المحمود ابو..و منصور مصطفى ومحجوب شريف ومحجوب عروة وعثمان ادريس هباني.. وعوض الجيد..والفاضل آدم اسماعيل ود. احمد ابراهيم دياب وغيرهم كثيرون صبروا وصمدوا حتى يئس الذين ظلموا من ان ينالوا ضعفا او انكسارا من المعتقلين الابطال.. ليعلم ابناؤنا الشجعان انهم وجدوا ارضية قوية ومنصة ثابتة للانطلاق لتقويض النظام الظالم.. انها ثورة النضال التراكمي الدؤوب المتواصل وقد اكرمهم الله بان كانت نهاية الباطل الذي ظن اهله من طول البقاء انهم خالدون.. علي ايديهم بعد ما قدموا رتلا من الشهداء.. الشهيد تلو الشهيد لم تتراجع جموعهم الهادرة حتي اقتلعوا نظام الظلم القاهر من جذوره.. فلهم منا الشكر والتقدير والعرفان..الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للجرحى والعودة السريعة للمفقودين والمرضى..
اما الزنزانة( 16) ببيت الاشباح الواحة.. والتي تعاقب عليها.. الراحل الزهاوي ابراهيم مالك وحبيب التونسي.. والشاعر محجوب شريف.. والصحفي محجوب عروة والامام الصادق المهدي وابو محمد الفلسطيني ومحمد الجزائري.. (قرد الطلح) واليهودي (محمد) .. فيليب البلجيكي.. واخرون ..فسوف نقف عندها لاهمية الاشخاص والوقائع التي تمت فيها..باذن الله..
نزيل الزنزانة (15)
عبدالرسول النور اسماعيل

التعليقات مغلقة.