إنَّ بعد الصَّومِ فِطرا

إنَّ بعد الصَّومِ فِطرا
  • 21 أبريل 2021
  • لا توجد تعليقات

فتحي الضَّو


faldaw@hotmail.com

إن الوضع القائم خطيراً جداً، ذلك لأن ما نعلمه من أسباب يشكل هاجساً قلقاً. فالذي يجري ببساطة لا يُعبِّر عن ضمير ثورة عظيمة ملأت سيرتها الآفاق. ولأن المتربصين بها كُثر، فنحن نكاد نراها تتسرب من بين أصابعنا كما الماء القراح. وعوضاً عن الالتفاف حولها وحمايتها، اصطرع الثوار مع جنرالات قوم (هاروت وماروت) وفلولهم، فاختلط الحابل بالنابل.. إلى أن وصلنا لمشهد سريالي يعوزه السند والمنطق. ولا تسألن كيف حدث هذا يا صاح؟ فقد حدث ما حدث يوم أن (حدس ما حدس) يومذاك كان الثوار الحقيقيون منهمكين في استكمال أهداف الثورة المجيدة وعيونهم مصوبة نحو فلول نظام مندحر. فجأة هبط عليها أرباب (الخلايا النائمة) وطفقوا يملؤون الفضاءات زعيقاً وضجيجاً وعجيجاً!
كان فيهم من يتحدث بلسان سقيم تستحي الثورة من سماع صكوكه، وبعضهم بات يضع الشروط أمام صُناعها وهم صامتون تأدباً، وآخرون شرعوا يبحثون عن الغنائم كدين مستحق، وبغاة كانوا يقهقهون من فرط النشوى ودواخلهم تمور حقداً وتشفياً وكراهية. وجاهل يتوهم أنه وارث الوطن الوليد. وغافل يتنطع ويظنَّ أنَّ (الأشياء هي الأشياء) كما قال الفيتوري. إلى أن جاء (ياقوت العرش) من أقصى المدينة يسأل: هل تظنون أن ما حدث كان بين غمضة عين وانتباهتها؟ إذن أين الدماء التي زيَّنت بوابة القيادة العامة؟ وأين الفرعون ساكنها الجديد؟ بل أين الوطن والدين والجراح التي تغوَّرت؟ وتداعت تساؤلاته وما تزال تترى إلى أن فاض النيل كله وحاضت أمة بأكملها!
قل لهم يا ياقوت العرش: أين كنتم عندما كانت سنابك خيول المغول تنتهك حُرمات الوطن الذي تذرفون عليه الدموع اليوم؟ أين كنتم عندما كان الأباليس يذلون العباد قسراً، ويعوثون الفساد جهراً؟ هل أصابكم وقر حال دون أن تسمعوا أنين المكلومين وآهات الموجوعين؟ هل كنتم صمٌ عميٌ بكمٌ عندما كان الوطن يئن وأنتم في طغيانكم تعمهون؟ أين كانت تلك الكرامة التي تتباكون عليها وقد رأيتم المروءة تُنحر في عرصات الطرقات والشجاعة تنتحر في أقبية المنازل؟ أين كنتم عندما كان عزرائيل ينشر أشرعة الموت الكئيبة في سماء دارفور والناس يذبحون من الوريد إلى الوريد؟ يومذاك خرجت للملأ سيدة ماجدة اسمها عائشة البصري، ركلت وظيفة الهيئة الأممية وملذاتها عندما رأت الدماء تجري مدراراً أمام عينيها، وحينها كان التيجاني السيسي وصحبه الميامين يسألون عن حرمة دم البعوض؟
تأمل حولك يا ياقوت العرش، ستجدهم كُثر.. سياسيون داسوا على القيم والمبادئ، لو رأيتهم تعجبك أجسامهم ولكنهم خُشب مُسندة. برعوا في ممارسة خديعة (الملوص السياسي) بلا وازع أخلاقي. يصلون خلف (جنرال) تزلفاً، ويرتادون موائد (جنرال آخر) تقرباً. كانوا يخرجون للملأ ويقولون لهم نذرنا للوطن صوماً وهم الكاذبون. وكلما تطاولت سنوات الديكتاتورية البغيضة، انكفأوا على أنفسهم يتوسلون هبوطاً آمناً. وما إن لاحت رايات الثورة من بعيد حتى هرعوا إلى ميدان الاعتصام ليخالطوا الثوار ويلطخوا ملابسهم بدماء الشهداء. ثمَّ تقدموا الصفوف ونصبّوا أنفسهم أوصياء على الثورة يسألونها أن تكون شفيعاً لهم يوم التلاق!
يا ياقوت العرش هل ما يزال في الكأس باقٍ.. فثمة صحافيون لوثوا بلاط صاحبة الجلالة بتمرغهم في بلاط سُرَّاق السلطة. سودوا صحائفهم تملقاً للطغاة، انبطحوا على بطونهم وهم منتشون. فوجئ بعضهم بسقوط النظام فذهبوا معه إلى مزبلة التاريخ، وآخرون كابروا وغالطوا وصمتوا ريثما يغيرون جلودهم، ثمَّ دخلوا خلسة إلى سوح الثورة بوجوه تحسبها من فرط نعومتها كأنها وُلدت للتو، أما أصحاب السوابق في صناعة الطغاة فقد شرعوا في تزييف التاريخ الذي لم يجف حبره بعد، وادَّعوا أنهم كانوا يجهرون بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر. وظنوا أن الشعب الصابر أصحاب ذاكرة سمكية، لا تعي ما ترى ولا تتذكر ما جرى!
آخرون ناشطون يا ياقوت العرش، وهي الصفة التي تندرج تحت مظلتها النطيحة والموقوذة والمتردية. كان الصمت ديدنهم عندما كان النظام يغدر بالأبرياء وهم شاهدون. وحتى يغطوا على خزيهم وعارهم، كانوا بارعين في تثبيط الهمم، تارة بالتبخيس وثانية بالتيئيس وثالثة بالتخويف، لا لشيء سوى أنهم يريدون الحياة أن تمضي بهم مثلما مضت بالأزلام عبيد السلطة. يشاركونهم ركوب الفارهات وامتلاك الأبراج السوامق والتمتع بالجواري مثنى وثلاث ورباع، وما إن سقط النظام حتى ارتدوا الملابس الأنيقة وصعدوا لمنصة المسرح الإغريقي الجديد ليقدموا فصولاً من مسرحية مستنسخة اسمها (اسبارتوكس) ثائراً!
لا تنسى أن تسأل عن الانتهازيين يا ياقوت العرش، أولئك الذين جاءوا خلسةً يبتغون صِيتاً من الثورة، ظناً منهم أنها يتيمة الأبوين.. دبجوا السير الذاتية الفخيمة وتسلحوا بحكمة سيدنا لقمان بحسبها ضالة الثورة، وقالوا إنهم القادرون على إصلاح ما أفسده الدهر والعطار معاً. وعندما تململت أجساد الشهداء في قبورهم، أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وهم يعلمون أن بينهم حواة أيضاً لا يعرفون من الثورة سوى اسمها، ومن الوطن سوى رسمه؟ ولا يعرفون في أي عهد من الحكام الديكتاتوريين نرزح الآن: هل هو عهد الجنرال عبود أم الجنرال نميري أم الجنرال البشير أم الجنرال البرهان أم الجنرال حميدتي، ناهيك عن جنرالات ارتدوا العمائم والقمصان!
ليس أنكى من هؤلاء يا ياقوت العرش سوى الذين يسمونهم (النظاميين) أي الذين ينتمون للأجهزة الرسمية المستبدة، من جيش وشرطة وأمن وأناس من وراء ستار، لا ينقصهم شيء سوى حرفي (ألف.. شين) كانوا وسيظلون أسرى شهواتهم، غاية همهم أن ترصع النجوم أكتافهم وتتزاحم الأوسمة والنياشين على صدورهم. كانوا بالأمس القريب يؤدون فروض الولاء والطاعة لنظام الإرهاب، ولكبيرهم الذي علمهم السحر، وبين عشية وضحاها ظنوا وهماً أنهم صُنَّاع الثورة، في حين أن المشهد المأساوي لم يطرأ عليه جديد سوى تغيير النبيذ القديم في قارورة جديدة. أوليس في ذلك (برهان) لذي حجر؟
يا ياقوت العرش لا تسأل عن الطبقة المخملية الدبلوماسية، فهم ما يزالون يركضون وراء ملذاتهم والناس جوعى، ويبحثون عن أمنهم والقوم صرعى؟ كانوا بالأمس يسبحون بحمد السلطة ويروجون لها في المنابر التي لا تحتاج لكفاءة سوى حلقوماً ضخماً، يقبِّح الجميل ويجمِّل القبيح. ودون ما وخزة في الضمير الغائب، صاروا الناطقين باسم الوطن والمسبحين بحمد الثورة.. فلا تبتئس يا ياقوت العرش فقد تبعهم الغاوون بقائمة تطول حتى ضاق اتساعها على مآسيها، فكثيرون لاذوا بالصمت آنذاك لدرجة تحسبهم أمواتا من أثر الخنوع. خُرست ألسنتهم دهراً بالأمس ونطقت كفراً اليوم.
يا ياقوت العرش كلهم رجس من عمل (الإخوان) لا ينبغي اجتنابه فحسب وإنما يستوجب التطهر من نجاسته. لكنهم – وآه من لكن – هم يسرحون ويمرحون بين الثوار ولا يأبهون. فقد جعلوا هذا الوطن يجلس على صفيح ساخن. قل لهم إن هذه ثورة وعي، والوعي يعني الأخلاق، والأخلاق تعني التأدب في حضرة الوطن. ولأنهم لا يعرفون ما الأخلاق وما الوطن؟ فالثورات حينما تندلع تحكم على أمثالهم (بالصمت الأبدي) وهذا أضعف الإيمان!
قل لي بربك: متى ينهض النائمون يا ياقوت العرش؟!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

الوسوم فتحي-الضَّو

التعليقات مغلقة.