الفصل السادس من كتاب “ما وراء السودان الحديث”: من الحرب إلى السلام (1-2)

الفصل السادس من كتاب “ما وراء السودان الحديث”: من الحرب إلى السلام (1-2)
  • 27 يونيو 2021
  • لا توجد تعليقات

د. بدر الدين حامد الهاشمي

الفصل السادس من كتاب “ما وراء السودان الحديث Behind The Modern Sudan”
من الحرب إلى السلام (1-2)
Henry Cecil Jackson هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشم
ي
مقدمة: هذه ترجمة للجزء الأول من الفصل السادس من كتاب “ما وراء السودان الحديث Beyond the Modern Sudan”، للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون. نشرت دار نشر ماكميلان الكتاب في لندن عام 1955م.
عمل جاكسون في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرَّخَ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد ترجمنا من قبل بعض فصول هذا الكتاب، ومقتطفات من بعض كتب ومقالات مختلفة لهذا الإداري الكاتب.
المترجم
****** ******** *********
دمر سير هيربرت كتشنر في الثاني من سبتمبر 1898م الجيوش التي اصطفت ضده في أم درمان، وأنهى بذلك عهدا مأسويا كان قد تواصل قرابة ثمانين سنة. كان الأتراك والمصريون قد حكموا السودان بين عامي 1820 و1885م، وأذاقوا السودانيين خلال تلك السنين الأمرَّين. ثم أتى عهد الدراويش بقيادة محمد أحمد المهدي، الذي أطاح بالحكم التركي – المصري وطغيانه، وطردهم من البلاد. غير أن أحوال الناس لم تتحسن. وتوفي المهدي بعد شهور قليلة بعد انتصاراته الكبيرة، وخلفه في الحكم عبد الله التعايشي، الذي لاقى صعوبات لا حصر لها. فقد كان مواجها بتهديد من الأحباش بالقرب من القلابات، ومن الإيطاليين في أريتريا، وكانت هناك مناطق في السودان لم تقع تحت سيطرة المهدويين. فقد بقيت في الجنوب حامية مصرية صغيرة يقودها أمين باشا. وأحتل البريطانيون والقوات الإمبريالية سواكن، وفي الشمال كانت هناك قوات بريطانية بوادي حلفا. وإضافة لتلك الصعوبات الخارجية، كانت هناك أيضا مشاكل داخلية. فقد كان الخليفة من عرب البقارة في غرب دارفور، ولم يكن الكثير من السودانيين يرضون بحكمه. وقام الخليفة، من أجل الحفاظ على سلطته، بجمع عشرات الآلاف من رجال قبيلته بغرب السودان. وكان عليه أن يطعم كل تلك الجحافل المتبطلة مما يحصل عليه من غارات عشوائية على كل ما يمكنه الوصول إليه من محاصيل المزارعين. وتحت مثل تلك الظروف لم يكن هناك أي حافز للسكان لزراعة ما يزيد عن حاجات عائلاتهم الأساسية. لذا فقد بدأت مخزونات الحبوب بالبلاد في النفاد تدريجياـ إلى أن حل عام 1889م، حين لم تهطل الأمطار الموسمية، وأتَى الجراد على الذرة، وأفضى ذلك لمجاعة (المقصود هو مجاعة عام 1306هـ. المترجم).
عند حدوث مجاعة دائما ما تجد المجتمعات المتقدمة نفسها غير قادرة على التعامل بفعالية معها قبل أن يستفحل أمرها. وبما أن الدراويش كانوا منقطعين عن العالم الخارجي، فليس بإمكان أحد لومهم على فشلهم في التعامل بنجاح مع تلك المجاعة. فقد كانت البلاد منذ أن ظهر المهدي في حالة اِحْتراب لا يتوقف تقريبا. وظلت نيران الحروب متقدة بالبلاد لسبعة عشر عاما متصلة، حتى اختتمت تلك الحروب بمعركة أم درمان. فقد حارب المهدويون في الجبال، وتخطوا المستنقعات المسامية، واقتحموا مسرعين المزارع المسالمة دون أن يعترضهم أحد. ولا يمكن أن يقاس الخراب الذي أحدثوه فقط بالمحاصيل التي دُمِّرَتْ، أو بالماشية التي أَضرَّ بها الجوع، أو بالمنازل التي هُدِمَتْ، أو بمن بقي من السكان جائعا يتضَوَّرَ. فقد مات من جراء تلك المجاعة قرابة ستة ملايين من الأطفال والنساء والرجال.
وعلى الرغم من أنه بدا أن سعير نيران تلك المجاعة قد أُزِيلَ بانتصار جيوش كتشنر، وأُطْفِئَ بدماء عشرات الآلاف من المقاتلين الأشاوس الذين سقطوا في أم درمان، إلا أن بقايا تلك النيران كانت لا تزال مُتَّقِدَة وكامنة تحت الأرض، وعادت للاشتعال مرة أخرى في مناطق السودان الطرفية، كما تتسلل حرائق المستنقعات عبر جذور نبات الكلونا heather والجولق grose. وعلى الرغم من أن انتصار كتشنر كان ساحقا، إلا أنه لم يوقف القتال. ورغم هجومهم المميز الذي بهر العالم، فقد دفع جنود اللانسار 21 (the 21st Lancers) ثمنا باهظا، إذ لم يبق من جنود المهدية إلا القليل بعد أن دُحر جيشهم تماما. وأفلح الخليفة في الهرب مع ثُلّة من أصحابه، فقط بأقل قدر من هوامش السلامة. فقد كان هجوم جنود اللانسار 21 قد جعل بعض الأنصار – دون علمهم – يقربون بنحو 500 ياردة من مكان الخليفة الذي كان يراقب المعركة من على ظهر حمار (لعل الصحيح هو على ظهر حصان. المترجم). ورغم ذلك فقد نجا الخليفة. ويعجب المرء من هامش السلامة الشديد الضيق الذي كان له ذلك الأثر التاريخي البالغ. وكان اللورد كتشنر والعميد وينجت يراقبان المراحل الأخيرة من المعركة وهما يقفان على منحدرات جبل قريب اسمه “جبل صرغام” (لتوصيف المعركة من وجهة النظر السودانية أنظر (1). المترجم)، إلا أنهما لم يتنبَّأ بالأثر الذي سيحدثه هروب قائد الدراويش على تاريخ وينجت المهني. فلو كان الخليفة قد قُتِلَ في ذلك اليوم، فمن المستبعد أن كانت الفرصة ستتاح لوينجت ليقود جيشا في ساحات القتال، ولينال بالتالي ترقيةً جعلته في النهاية حاكما عاما على السودان وسردارا للجيش المصري، وليضمن لنفسه شهرة باقية.
لقد كانت السنة التي أعقبت معركة أم درمان شديدة العسر على الحكومة الجديدة، إذ لم يكن من الممكن تثبيت دعائم الأمن بالبلاد بينما الخليفة مطلق السراح. واستسلمت بعض حاميات المهدية في النيل الأزرق دون قتال للواء هنتر وجنوده. غير أن جيوش المهدية لم تكن قد هُزِمَتْ بصورة نهائية. فقد كان للأمير (أحمد) فضيل جيش مدرب مكون من 8,000 مقاتل، ولكنه لم ينجح في الوصول لأم درمان في الوقت المناسب ليشارك في المعركة. ولكنه أنضم لاحقا للخليفة ليعينه في جهاده لمقاومة الحكومة الأجنبية. وقاد وينجت الجيش المصري في 24 نوفمبر 1899م، أي بعد 14 شهرا من معركة كرري، وتمكن به من هزيمة وقتل الخليفة في “جديد”، وكانت تلك المعركة هي نهاية حكم المهدية بالسودان.
وفي يوم ذلك الانتصار رُزِقَ وينجت بمولودة. وبلغ من فرحة الملكة فيكتوريا بذلك الانتصار وتلك المصادفة السعيدة، أن أصرت على أن تصير إِشبِينَة ̸ عَرَّابَة godmother للطفلة.
******** ********
وظل الكثيرون، حتى بعد مقتل الخليفة في معركة “جديد”، يؤمنون بالرسالة الإلهية (المقدسة) للمهدي. وزعم هؤلاء أن عبء الرسالة قد وقع عليهم، أو أنهم “النبي عيسى”، وجمع غير واحد منهم بعض الأنصار المتعصبين، ورفعوا راية التمرد في مناطق مختلفة في دنقلا وغرب كردفان وسنجة. وكان على الحكومة التعامل الفوري مع مثل تلك الحالات من الهياج المنعزل العَفْوِي، وإلا فإن اضطرابا محليا ومحدودا قد يفضي إلى تمرد عام. فعلى الرغم من قلة أتباع هؤلاء الأنبياء الكَذَبة، إلا أنهم قد يستمدون الشجاعة من حقيقة أن المهدي نفسه لم يكن معه في مبتدأ أمره إلا حفنة من الأنصار غير المسلحين، وانتهى به الأمر للاستيلاء على الخرطوم، وإعلان نفسه حاكما للسودان. وتحدث مثل تلك الهبات دوما دون إنذار مسبق. ولا تتعدى الإشارة الأولى للخطر إشاعة غامضة عن رجل غير معروف يقرأ “راتب المهدي” في قرية تبعد أميالا كثيرة عن أقرب نقطة حكومية.
ومثل تلك الاضطرابات الدينية هي عَرَض لاضطراب عام. لقد عاشت أجيال من السودانيين في جو من الحرب والشائعات عن الحرب، ولم ينعم بالسلام (حتى وإن كان منقوصا أو غير مستقر) إلا لفترات قصيرة جدا. فقد جعلت الرزايا (الغارات) التي كان يشنها العرب على السود، والغارات المستمرة والغارات المضادة، وما وقع حديثا من معارك ضد الأتراك والمصريين، الأهالي يعتادون على حياة ملئها العنف والريبة، وغدا سلب ما يحتاجونه من العُزْل شيئا طبيعيا وعاديا.
وفي مثل ذلك المجتمع الخارج عن القانون يمْتَعَض الأقوياء من أي محاولة لمنعهم من سرقة الرقيق والماشية من جيرانهم الضعفاء. وكان النوير، بخاصة، يقاومون بشدة أي نوع من السيطرة الإدارية عليهم، بينما كان الدينكا، الذين قاسوا أكثر من غيرهم من القبائل الأخرى من تخريب واغتصاب الخرطوميين Khartoumers (2)، يمقتون منظر أي وجه لونه أفتح من لونهم. وكانت بعض القبائل (مثل الشلك والنوبة) قد أصابت قدرا من النجاح في تحدي الحكومات السابقة، ولذا لم يكن ينون أن يستسلموا بسهولة لشكل جديد من أشكال الإدارات الأجنبية. وكانت هنالك قبائل أخرى مثل الهدندوة (الذين سماهم الشاعر كيبلنغ “فيزي ويزي”، بعد أن كسروا المربع الإنجليزي في تاماي) كانوا قد هُزموا في غالب معاركهم، بيد أنهم لم يقهروا قط. ولم تتم عمليات السيطرة التامة على المناطق الجبلية الوقعة على البحر الأحمر التي يقطنها الهدندوة إلا بعد سنوات. وكانت هناك قبائل تسكن على الحدود مع الحبشة لم تتم في أي وقت من الأوقات السيطرة التامة عليهم، وظلوا مصدرا دائما للمشاكل مع الحكومة. لذا كانت الدوريات ̸ الحملات العسكرية تجوب جنوب السودان بصورة منتظمة كل شتاء.
وفي عام 1908م أُرْسِلَتْ قوات كبيرة لإخماد حوادث تمرد في غرب كردفان ومنقلا وجبال النوبة. ولم تسلم حتى أطراف الخرطوم من الاضطرابات. وقام الدينكا في بحر العرب بالهجوم على عرب الرزيقات، وأسروا أربعين من رجالهم ونهبوا الكثير من ماشيتهم. وفي منقلا قام البير Beir بهجوم وحشي على الدينكا. وفي كردفان أرسلت الحكومة دورية ضد النوبة الذين كانوا يهاجمون جيرانهم لاصطياد الرقيق والماشية.
وفي عام 1913م تحركت ما لا يقل عن 14 دورية عسكرية لمحاربة حاملي السلاح، ولإيقاف الغارات (بين الأهالي) والصراعات القبيلة، ولتأكيد سلطة الحكومة. وبين عامي 1914م و1917م نُفِذَتْ 12 عملية عسكرية ضد المتمردين في منطقة اللاتوكا بمديرية منقلا.
كان عدد جنود الجيش في السودان قليلا جدا بالنسبة لبلد مضطرب، وشاسع مترامي الأطراف. غير إن إخماد الاضطرابات كان يتم عادةً دون صعوبة كبيرة، رغم أن الدوريات الحكومية المسيرة تفقد في بعض الأحيان الكثير من أرواح جنودها، ويُصاب العديد منهم بمختلف الإصابات. وعادة ما يكون عامل المباغتة الأولى في صالح المتمردين الذين يهاجمون دون سابق إنذار. وتوفر الأعشاب الطويلة والغابات الكثيفة غطاءً ممتازا للمتمردين، يمكن لهم من خلاله تنفيذ عملياتهم دون أن يراهم أحد، ويمكن لهم أيضا الاختباء بسهولة في وسط تلك الأعشاب الطويلة والغابات الكثيفة. وفي بعض الأحايين كان المتمردون يهاجمون جنودنا بالحراب، ولحسن حظ الحكومة، لا يكون لهؤلاء عنصر المباغتة، وإلا لأصيبت قوات الحكومة بكوارث في مرات أكثر. وفي بعض الأحيان يتم التنبؤ بهبات الأهالي، ويتم إبطالها قبل وقوعها. غير أنه لا يمكن استبصار وتوقع هجوم لم يسبقه استفزاز أو من دون مبرر من رجل مجنون أو متعصب ديني جمع حوله بعض اليائسين الذين يودون اختصار الطريق لدخول الجنة عبر قتل واحد من “الكفار”.
وكان خلف الهجوم الذي وقع في كسلا بُعَيْدَ منتصف ليلة 23 ديسمبر من عام 1918م دوافع دينية متعصبة، وكان قائده فلاتي (من برنو) اسمه محمد الحاج سامبو ومعه 30 أو 40 من أتباعه الذين كان غالبهم من الهدندوة مع قليل من الفلاتة. وكان الحاج سامبو معروفا لدى الحكومة بسبب خطبه الغليظة ومشاعره المضادة للمسيحية. وكان الرجل مصابا بنوبات صرع وهلوسة، ولكنه كان يُعَد مجرد رجل مجنون ومسالم لا خوف منه. غير أنه في هذه المرة أصر على أن يحاول فيما يبدو تدمير سلطة القوة غير المسلمة بالبلاد، ويهاجم كسلا كمقدمة للسيطرة على القضارف والخرطوم.
ولما بلغ الحاج سامبو مدينة كسلا، اتجه نحو خلوة فكي اسمه إدريس داؤود، ثم قسم جماعته لقسمين متساوين تقريبا، قسم يذهب لساحة الجامع قبل الهجوم على الزبطية (حيث مكتب باشمفتش المنطقة)، وقسم يهاجم قلعة المدينة. ولما سمع باشمفتش المنطقة سي. اتش. طومسون بصوت إطلاق الرصاص قفز من سريره وجرى نحو فرندة بيته مرتديا ملابس النوم. رأى واحد من المتمردين تحت ضوء خافت ظل المفتش على أحد الأعمدة فصاح برفاقه: “ها هو المفتش”. هَمْهَمَ أحدهم قائلا: “هذا ليس المفتش. هذا مجرد حارس ليلي. انظر لجلابيته”. وبذا تحرك الجمع وتركوا طومسون لحاله، وهو يشكر ربه على أنه كان يرتدي قميص نوم عوضا عن البيجاما المعتادة، وصدق المهاجمون أنه الحارس الليلي. وأصاب المهاجمون لاحقا ثلاثة من رجال الشرطة في الظبطية قبل أن ينصرفوا. أما الفريق الثاني، الذي كان تحت قيادة رجل اسمه بلال محمد، من رجال البزغة بكردفان، فقد تولوا مهاجمة القلعة التي كان يحرسها جنود مصريون. ورغم أن المهاجمين لم يكن يحملون سوى السيوف والحراب، إلا أنهم سرعان ما تغلبوا على الحراس المصريين وأشاعوا بينهم الذعر، وقُتِلَ أو مات مجروحا منهم 13 من ضباط الصف والجنود، وجُرِحَ 22 قبل أن يفر الناجون من المصريين ويلجأوا للغابة. وغَرَّ المتمردون انتصارهم، فقاموا بالهجوم على مستودع لأسلحة فرقة عرب الهجانة الشرقية، غير أنهم هُزِمُوا وقُتِلَ منهم ثمانية وجُرِحَ أربعة.
وفي فجر اليوم التالي قامت دورية من الشرطة وفرقة عرب الهجانة الشرقية بتتبع أثار المهاجمين إلى أن أدركت الحاج سامبو مع اثنين من أتباعه. ولما رفضوا الاستسلام أطلقوا عليهم الرصاص، وتم إنقاذ المصريين الفارين في الغابة. وشُكِلَتْ لهؤلاء الضباط والجنود لجنة تحقيق حول هربهم من موقعهم، وأرسلوا للخرطوم.
وبهذا قُضِيَ على واحدة من هبات المتعصبين، تلك التي كانت كثيرة الحدوث في الأيام الباكرة، والتي كان علينا دوما أخذ حِذْرَنا منها.
وهناك حادثة مماثلة أخرى – تشبه الكثير من الحوادث الأخرى – سببت الكثير من القلق للسلطات بالخرطوم. تلك هي حادثة عبد القادر إمام ود حبوبة، من رجال قبيلة الحلاوين، الذي بدأ تمردا على بعد ستين ميلا جنوب العاصمة. كانت الحكومة قد أصدرت عفوا عاما عن كل من حمل السلاح ضد الحكومة التركية – المصرية. وشمل العفو الكثير من أنصار المهدي والخليفة، وكان عبد القادر هذا وبعض أفراد أسرته من ضمن هؤلاء.
كان عبد القادر منذ سنوات مضت قد بدأ يَبْذُرُ الشَّقاقَ والنِّزاعَ بَيْنَ النَّاسِ سرا (غير أن هذا لم يكتشف إلا لاحقا) وينفق وقته في قيادة تمرد مسلح ضد الحكومة. وظن أن الفرصة قد حانت له عندما كَوَّنَتْ الحكومة لجنة لتحديد ملكية الأراضي في منطقة الجزيرة (بين النيلين الأبيض والأزرق). وتشاجر عبد القادر مع عمه العمدة (وممثل الحكومة) والمسؤول عن مجموعة من القرى بسبب خوفه من أن يستغل عمه نفوذه وقربه من السلطة ويستولى على أرضٍ كان يريدها لنفسه (3).
وفي نهاية شهر أبريل من عام 1908م تلقى كولن اسكوت – مونكريف، نائب مفتش رفاعة، أخبارا تفيد بأن عبد القادر قد جمع أربعين رجلا من أتباعه بالقرب من قرية “ود شنينة، ورفض أن يأتي للكاملين وقدم أسبابه لذلك الرفض. غادر اسكوت – مونكريف رفاعة في رفقة المأمور المصري واليوزباشي محمد أفندي شريف ورجلي شرطة للتحقيق في أسباب المشكلة. وعند وصولهم لود شنينة أرسلوا في طلب عبد القادر، ولكنه رد عليهم بالقول بأنه سيعرض عليهم مَظلَمته شريطة أن يقبل عليه اسكوت – مونكريف والمأمور دون سلاح. وطلب أيضا أن يشارك في المناقشات عمه وثلاثة من أصحابه. ورفض اسكوت – مونكريف والمأمور وبقية وفده تلك الطلبات خشية أن يكون في الأمر خديعة من عبد القادر، وسعى من كانوا مع اسكوت – مونكريف لإثنائه عن الذهاب إليه.
وجد اسكوت – مونكريف نفسه مواجها بموقف عسير للغاية، من النوع الذي كثيرا ما يواجه الإداريين البريطانيين في كثير من أنحاء العالم. كان من الممكن أن يأمر عبد القادر بالحضور لزيارته، وهو يدرك أن رفض الرجل للدعوة سيعقبه هجوم منه لا قبل له به، وقد يكون بالفعل إشارة لانتفاضة عامة. أو، كما فعل آخرون من قبل وبعد ذلك، كان بإمكانه ادعاء الشجاعة، ويدفع الثمن إن لم تنجح حيلته.
وقعت حادثة ود حبوبة بالقرب من الخرطوم، حيث كانت توجد حامية عسكرية كبيرة مكونة من جنود بريطانيين وسودانيين ومصر مُتَأَهِّبة دوما للتعامل مع أي اضطرابات قد تحدث. غير أنه لم يكن هنالك بالمناطق الأبعد من مركز القيادة العسكرية سوى حاميات مكونة من سَرِيّة واحدة أو اثنتين من الجنود السودانيين تحت قيادة ضباط بريطانيين. وكانت هنالك نقاط للشرطة في الأماكن الأبعد. وكان هذا هو كل ما لدينا من وسائل للسيطرة على أي هبة قد تنشأ عفويا بين حين وآخر، ظل ذلك مصدرا للقلق عند السلطات الإدارية لسنوات عديدة بعد قيام الحكم الثنائي.
كنت أتحدث قبل فترة قصيرة لطالب بالمرحلة الجامعية الأولى في كمبردج. وهو لا يتذكر بالطبع شيئا عما جرى بالبلاد قبل عام 1924م، عندما اُغْتِيلَ سير لي استاك. وعندما سألته عن عدد الحملات (الدوريات) العسكرية التي شُنَّتْ بالسودان في السنوات الثلاثين من هذا القرن. فكر قليلا قبل أن يجيبني: “ثلاثة”. وعندما أخبرته بأنها في الواقع 170 حملة مسجلة، دُهِشَ لذلك، ووجد أنه من الصعب تصديق ذلك.
وكان ذلك العدد الكبير من الحملات الذي أدهش صديقي الشاب يشمل فقط تلك الحملات التي كان بها على الأقل خمسين جنديا. وكانت هناك الكثير من الدوريات الصغيرة التي يقل عدد أفرادها عن خمسين، ولم تُسَجِّلْ رسميا. وكانت هنالك أيضا الكثير من الازمات التي لا حصر لها، التي كان يتعامل معها الضابط الإنجليزي أو السوداني – أو أحد الإداريين في القسم السياسي- ومن تحت قيادته من رجال الشرطة المسلحين. ويجب أن نتذكر هنا أنه مهما يكن من القوة العددية لأي دورية، فأنها يجب أن تقبل بالريبة والشك والالتباس في أي موقف قد يواجههم، وأن يوقنوا بأن خصمهم سيفوقهم عددا إن هاجمهم.
وكانت بعض الحملات تضم ألف أو أكثر من الجنود، وهذا عدد كبير يستأهل نيل ميدالية. ومن جانب آخر، كانت هناك العديد من الحملات التي لم تدخل في أي قتال. وكانت هذه الحملات ترسل لأسباب إدارية أو وقائية: لتفرض على الأهالي طاعة الحكومة بإظهارها لقوتها ولسَطْوتها، أو لردع رجال القبائل المحبين للقتال من الإغارة على جيرانهم. ولا تلجأ الحكومة إلى إظهار قوتها إلا بعد اخفاق كل الطرق الأخرى في اقناع الأهالي بتنفيذ أوامرها غير الصارمة جدا.
ولم تتمكن الحكومة من تفادي القتال المستمر إلا بالتظاهر بالشجاعة على سبيل الخداع. وحمدا لله، فقد كانت تلك الخدعة عادةً ما تؤتي ثمارها. وبالفعل نجحت تلك الخدعة، كما سنرى لاحقا، عندما تصدى فرانك بالفور والرائد كونران للمتمرد الفكي علي، وعندما تحدى النقيب فيرقسون في مغامرته بالبحيرة المقدسة مقاتلي الدينكا. غير أن الخدعة فشلت عندما غامر كولن اسكوت – مونكريف بالذهاب للقاء عبد القادر إمام ود حبوبة من غير سلاح، وقُتِلَ. وفشلت الحيلة كذلك رفض تنينت ماكنيل في نيالا إرسال جنوده إلى أن فات الوقت، ودفع حياته ثمنا لشجاعته.
لقد كان التحول من الحرب إلى السلام بالسودان بطيئا. فقد كانت كل القنوات الإدارية (مثلها مثل قنوات الملاحة بالبلاد) مغلقة في غضون سنوات التركية والمهدية. وكانت سلطات الشيوخ والقادة القبليين قد قُوِّضَتْ تماما، وتطلب إعادة بناء الإدارة الأهلية عملية طويلة ومتدرجة.
ولم تبدأ تلك الجهود في الإثمار إلا بعد أن أقر قانون سلطات شيوخ الرحل لعام 1922م، وقانون سلطات الشيوخ لعام 1927م. وكان ذلك التشريع قد منح كل السلطات القضائية (ولاحقا التنفيذية) للشيوخ في شمال السودان. وأُقِرَّ قانون محاكم السلاطين لعام 1931م في جنوب السودان ليعطي السلاطين هناك بعض السلطات، وفي ذات العام أُصْدِرَ قانون المحاكم الأهلية (في شمال السودان) ليحل محل تشريعات سابقة متنوعة نوعا ما (4).
وكان السودانيون في طريقهم لنيل حق تقرير المصير. لقد أثمرت أخيرا سنوات الصبر على التعليم والتشجيع.
************* *********** *******
احالات مرجعية
(1). انظر المقال المعنون: “معركة كرري …” https://www.sudaress.com/alintibaha/21347
(2). ذكر الكاتب في الهامش أن “الخرطوميين” هم عصابات تجار الرقيق الذين ينطلقون من الخرطوم.
(3). للمزيد عن ود حبوبة يمكن قراءة ما ورد في هذا الرابط https://bit.ly/3xLfvjM ، ومقال آخر عن ثورته في الرابط https://www.sudaress.com/alintibaha/44563
(4). استشهد الكاتب هنا بما كتبه هارولد ماكمايكل بعنوان “The Anglo -Egyptian Sudan السودان الإنجليزي – المصري”.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.