حينما يصبح الوطن منفى!

حينما يصبح الوطن منفى!
  • 16 أغسطس 2017
  • لا توجد تعليقات

حليمة عبدالرحمن

رغم أن الموت أكثر الأنباء فظاعة، هناك أناس باقون فينا إلى الأبد. فاطمة أحمد ابراهيم واحدة من هؤلاء.. العزاء إلى أسرتها الصغيرة، وإلى الشعب السوداني قاطبة في ابنته أيقونة الاستنارة.

(1)قبل البدء: الغربة ليست نزهة في حديقة هايدبارك او (ترطيبة) في الخارج، كما درج السودانيون على اختصار وصف حال المغتربين، المحسودين بما هم منه باكون. هناك عوامل تدفع إلى الخارج كانعدام فرص التقدم الوظيفي، وارتفاع معدلات البطالة، وانتهاك حقوق الإنسان، والصراعات الداخلية والكوارث الطبيعية أو الناجمة عن سوء التخطيط.

وهناك عامل جذب كحاجة البلدان النامية، أو التي في طور النمو إلى الأيدي العاملة الرخيصة، فضلاً عن توافر المناخات الآمنة، واحترام حقوق الإنسان بمختلف توجهاته الفكرية والعقدية والأثنية، مع يسر وسهولة الحصول على فرص هجرة او اغتراب.

على كل حال لا يعرف هم الغربة إلا من كابده. فعلى المستوى الشخصي هي تجربة مريرة مهما كانت محصلتها المادية أو الثقافية أو السياسية، ففاتورتها غالية الثمن، تدفع من العيش على هامش المجتمعات الجديدة، أو الاندماج الكامل فيها، أو العزلة عن المجتمع الأصل، واعتزال النفس عن هويتها والشعور بالانطواء، ليتفاقم الأمر، وتصل غربته إلى ذروتها حين انتقال هذه الصراعات من الخارج إلى الداخل، فتصل إلى مرحلة الاغتراب عن الذات، وهو الأخطر، رغم أنه ليس موضوعنا.

(2)هذه المقدمة سقتها لعكس إحساس المغتربين السودانيين هذه الأيام، بصفتي واحدة منهم، خاصة وأن بواكير العائدين من المملكة العربية السعودية فجرت الإحساس الرسمي بعدم الرضا عن عودتهم. فعبارة “الدولة ليست جمعية خيرية” المنسوبة إلى الأمين العام لجهاز المغتربين السفير كرار التهامي، والتي تم تجييرها بأن الخريجين هم المقصودون بها، يفاقم من المرارة ويشي بأن بلد الـ666 ألف كم، التي أضحت “بلا خجلة” مفتوحة لبعض الجنسيات، لم يعد للمغترب العائد فيها موطئ قدم.

الغريب في الأمر أن يأتي هذا التصريح من الجهة نفسها الموكلة إليها جباية الضرائب والأتاوات. يعيد هذا التصريح إلى الذاكرة تصريحات شبيهة من السخرية، والاستهزاء من كبار مسؤولي الدولة، سمعتها أركان الدنيا الأربعة، من شاكلة “اتحدي أي زول كان بيعرف الهوت دوق قبل الإنقاذ”، و”الشعب السوداني قبل 89 ما كان فيهو زول عندو قميصين”، و”الشعب السوداني قبل الإنقاذ(حكم الرئيس عمر البشير) كان زي الشحاتين” والقائمة تطول.

أن يطاطئ المغترب رأسه عند كل عاصفة حتى تمر، هذا أسلوب أملته الظروف التي قذفت به إلى الغربة، أما أن يتم تصنيفه بأنه غريب في بلده فهذه هي المصيبة! غربة تقذفه إلى أخرى، وأمَضَّها غربة الوطن!

(3)لا يختلف اثنان على أن عودة السودانيين بالخارج، تصب مزيداً من الزيت على نار الاقتصاد المترنح، وتزيد من الضغط على الخدمات الشحيحة، كالطبية، والسكنية، والتعليمية، والتجارية، وجميع البنى التحتية. لكن “جقلبة” الدولة ومحاولة نفض يدها من واجباتها تجاه شريحة العائدين لا تعفيها من مسؤولياتها التي نص عليها الدستور.

أليس كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؟ أو ليس الاستثمار في مواطنيها تأهيلاً، ومحاربة البطالة، وجذب فرص الاستثمار ومواكبة مستجدات سوق العمل الداخلية والخارجية من صميم واجباتها؟ لماذا اصبحت سوق العمل الداخلية مفتوحة للعمالة الأجنبية ومقفولة أمام العمالة الوطنية؟

إن لم يكن تصريح الأمين العام لجهاز المغتربين تحللاً من واجبات الدولة تجاه هذه الشرحية ففيم يصب؟ أو ليس هو نفسه جزءاً من منظومة الدولة التي تجبي من المغتربين ما بين 3 إلى 6 مليارات دولار سنويا تحت شتى البنود، التي ليس للمغتربين ناقة فيها ولا جمل؟ إن لم تقبل الدولة أن تكون مؤسسة خيرية، فهل ترضى أن تكون دولة جباية؟ ما هو المردود الخدمي العائد على المغتربين جراء الأموال المقتطعة بالإكراه؟ إن لم يكن للدولة ما تقدمه له، وهو الذي كانت له إسهاماته المقدرة في التنمية العمرانية والاقتصادية وقيادة حملات النفير الشعبي..الخ، فمن باب أولى الصمت، وهو أضعف الإيمان. لماذا لم تستعد الحكومة بكل جيشها الجرار من وزراء ومستشارين لمجابهة هذه الازمة، خاصة أنها ليست المرة الأولى، فقد سبقتها أزمة السودانيين المغتربين في ليبيا عام 2011م؟ لماذا هي عاجزة عن قراءة الراهن الجيوسياسي الدولي، وأثره، والاحتياط لذلك بوضع استراتيجية للتعامل مع الأزمات أولاً بأول، بدلاً عن سياسة (علوق الشَدَّة) هذه، أو سياسة رزق اليوم باليوم، ألم يكن بإمكانها الاستفادة من سفاراتها او جالياتها المنتشرة في بقاع الدنيا في مقارنة ومقاربة حال مغتربي دول الجوار مع مغتربي السودان والاستفادة من كيفية تعامل حكوماتهم معهم، بدلاً عن سياسة “فاجأتنا الأزمات”، أو التعليق على شماعة الابتلاءات؟

(4)لنأخذ مثالين على الكيفية التي تتعامل بها الحكومتان المصرية والأثيوبية مع رعاياهما، مقارنة بحالنا. في مجال الخدمة المدنية يعامل المصري المغترب، معاملة صنوه المقيم. فيحق له الاحتفاظ بوظيفته ليشغلها متى ما عاد إليها، ومكفول له كذلك حق الترقي مع أبناء دفعته، والتمتع بالمعاش نظير مبلغ رمزي يدفعه. ويأخذ أبناؤه حقهم في التعليم المجاني كاملاَ أسوة بأبناء الداخل، دون أن ترهق الدولة كاهله بأي ضريبة. بل إن فوائد التعليم الجامعي المصري شبه المجاني طالت أبناء السودانيين فيما يعرف بأبناء الوافدين، ولا تتعدى رسومه الجامعية طيلة عهده الدراسي رسوم عام دراسي واحد لابن مغترب سوداني بالجامعات أو المعاهد السودانية.

كما أن الشهادة العربية تعد مكافئة للشهادة المصرية، فليس هناك نظام كوتة أو استقطاع درجات من شهادته كما هو الحال عندنا. لذلك لا نستغرب حين يجهر المصري بأن مصر أم الدنيا، ولا نتوقع أن ترفع الحكومة حاجب الدهشة إن لعن رعاياها السودان.

(5)أما بالنسبة إلى إخوتنا الأثيوبيين فقد أثمرت خطط الدولة التنموية تجاه رعاياها في الخارج واقعاً اقتصادياً عظيماً. فقبل عامين أعلن البنك المركزي الأثيوبي أن تحويلات المغتربين الأثيوبيين بلغت خمسة مليارات دولار، متجاوزة للمرة الأولى إجمالي صادراتها السنوية. هذا النجاح لم يكن ضربة لازب، بل نتيجة سياسات اقتصادية مدروسة تهدف إلى ربط المغتربين ببلدهم، وتشغيل مدخراتهم في الدورة الاقتصادية، وزرع الثقة في نفوسهم، ومحاربة الفساد أياً كان موقعه، خاصة الرسمي منه. ومن ثم، لا تشكل العودة الاختيارية أو القسرية هاجساً لهم.
ولقد رأينا كيف كان تعامل الحكومة مع مواطنيها على قدر المسؤولية في عام 2013م، عقب تقاعس المخالفين لشروط الإقامة في السعودية عن توفيق أوضاعهم، وهذا ما أدى إلى طردهم. مقابل كل 50 ألف دولار يحولها المغترب الأثيوبي يكون بإمكانه الحصول على قطعة أرض سكنية ,و تجارية مجاناً، أو يتم إدخاله في نظام الإسكان الذي تنفذه الحكومة. لذلك لا غرابة أن فاق معدل تحويلات الأثيوبيين من السودان فقط 5 ملايين دولار شهرياً، على الرغم من هامشية المهن التي يمتهنونها.
وفي الإطار نفس يأتي تشجيع التحصيل العلمي في دول العالم الأول، فنظير حصول أي أثيوبي على شهادة جامعية فما فوق من أمريكا أو أوروبا ورجوعه واستقراره في بلده، يمنح قطعة أرض في حدود 50 ألف دولار مجاناً من الدولة (سودانايل 4 أغسطس 2015م).

(6)الجميل في الأمر أن كل هذه الإنجازات تحدث بإشراف إدارة في وزارة الخارجية على رأسها دبلوماسي بدرجة سفير، وليس بإشراف جهاز للمغتربين كما هو الحال عندنا، ودون أن يدفع المغترب الاثيوبي بيراَ واحداً كضريبة.

وفي الرياض العاصمة السعودية توجد المدرسة الأثيوبية، والتي تقدم خدماتها من الروضة إلى الثانوي، وباللغتين الأمهرية والانجليزية للطلاب الأثيوبيين والأجانب، بإشراف أساتذة من حملة شهادات الماجستير والبكالوريوس، وتحت رعاية السفارة الأثيوبية التي يحضر فريق العمل بها، وعلى رأسه السفير، توزيع الشهادات الدراسية نهاية كل عام. فرق شاسع بين دولة التنمية والاستثمار ودولة الجباية.

وفقاً للمثالين أعلاه، فإن واقع الأمر يقول إن إدارة الدولة لا تحتاج إلى إكليشيهات دينية، صدق الله العظيم في محكم تتنزيله حين قال “إن الأرض يرثها عبادي الصالحون”.

في الواقع أن هذه التسهيلات لم تقتصر فائدتها على مواطني هذه الدول حين الهجرة المعاكسة أو التحصيل العلمي المتميز، بل شجعت رأس المال الأجنبي، ليهاجر ويحط رحاله هناك. على سبيل المثال رأس المال السوداني ظل يشق طريقه بقوة نحو القاهرة وأديس أبابا، حيث استقرار ضمانات الاستثمار ووضوحها.

(7)أما حكومتنا فينطبق عليها المثل الذي يقول (رازة ونطَّاحة). فلو أنها التزمت الصمت حيال عودة المغتربين، لعذرناها فهذا ديدنها، لكنها ملأت الإعلام وأسافيره ضجيجاً، عبر جهاز مغتربيها، فقد درجت منذ عام 1996م على عقد المؤتمر تلو المؤتمر، والفعالية تلو الفعالية بحجة رعاية مصالحهم. أحصيت ستة مؤتمرات بواقع مؤتمر كل ثلاث سنوات. آخر مؤتمر انعقد في الفترة من 19 إلى 21 اغسطس 2014م، وكانت موضوعاته “السعي لتحقيق سياسة وطنية للاغتراب والهجرة تلبي متطلبات المرحلة وتحقق مصالح الدولة والمغتربين، وربط المغتربين بقضايا الوطن، وتوفير البيئة المناسبة الجاذبة لاستثمارات المغتربين، والوصول لرؤية حول تبسيط الإجراءات، والاستفادة من الكفاءات المغتربة، والحد من الهجرة غير الشرعية، والوقوف على قضايا الجاليات ومعالجتها، وحل المشكلات ذات الصلة بالمغترب وأسرته”، إضافة إلى وضع الخطط للاهتمام بالجيل الثاني والثالث من أبناء المغتربين “(الراكوبة 08-05-2014). غير أن التوصيات تلو التوصيات تظل حبراً على ورق. مادام ليس هناك خدمات ملموسة للمغتربين، ففيم تبديد الأموال على مؤتمرات لا طائل من ورائها؟ ولماذا إنشاء جهاز يحمل اسمهم؟ وما هو هدفه؟

(8)بالواضح، فإن الهدف الرئيس من إنشاء جهاز للمغتربين هو تفويج السودانيين إلى الخارج، وقفل باب العودة أمامهم، ولذلك تنحصر مهامه الرئيسة في إصدار تأشيرات الخروج وجباية ضرائبها. ليس في الأمر تجنٍ، فأدبيات الجهاز المتوافرة على موقعه الإلكتروني تخلو من أي أفكار أو ترتيبات لاستيعاب العائدين في حالة استغناء أي بلد عن خدماتهم. بل إن الموقع استبدل كلمة الاغتراب التي يحملها اسمه بالهجرة. تحت أيقونة “استراتيجية الجهاز”، أحصيت أكثر من عشر نقاط، ركزت على الآتي: تأصيل رؤية الدولة للهجرة، وتسهيل حركة المواطنين، وإزالة العوائق عن طريقهم (نحو الهجرة)، وسن التشريعات والقوانين التي ترشد وتوجه الهجرات، واعتماد سياسات مستدامة للهجرة والاغتراب تتكامل فيها الأدوار(؟)، و الوقوف على تجارب الدول الشقيقة والصديقة في مجالات الهجرة و الاستفادة منها. هذه الأخيرة كانت لنا معها وقفة أعلاه.

ما يزيد من ضيم المغترب، أن انجازات الدولة في مجال التعليم في السعودية مثلاً تتمثل في مراكز امتحانات الشهادة السودانية، كما في مركزها بمدينة الرياض (أي والله)، أو كما في جامعة أبناء المغتربين. مهما كان دور الجامعة في خدمة أبناء المغتربين وتأهيلهم ودمجهم في المجتمع السوداني، فإن تخصيص جامعة لهم مشكلة في حد ذاته، أما أن تحمل الجامعة اسم فترة يتمنى كثير منا شطبها من ذاكرتهم، فهذه مشكلة في حد ذاتها؟ فالمغترب لم يرسل أبناءه إلى السودان لأفضلية التعليم فيه أو لمواكبته، أو لأنه الأقل تكلفة، بل لربطهم ببيئتهم الأم. ثم ما هو وضع الجامعة نفسها في ظل المتغيرات الجديدة؟ والحال كذلك لماذا لا يطالب المغتربون بكشف حساب يوضح أين ذهبت الأموال التي جبيت منهم؟ وإلى متى يعيشون ما بين نارين: نار ديار الغربة حيث يسجل الوطن حضوراً دائماً، وغربة الديار الأم حيث هم مجبورون على الغياب، في ظل غياب العدالة، والمساواة والحرية؟ فقد باعهم الوطن إلى حضن الأسى، وتركهم نهباً للحزن النبيل، أو كما قال الشاعر العظيم حميد:

آهـ يا وطني المستّف، في المطارات القصّية
آهـ يا كفني المنتّـف ، في مدارات القضّية

الكاتبة: صحافية مستقلة
halimam2001@yahoo.com

التعليقات مغلقة.