الانْتِخَابات العَامَة في سِياق بِناء الديمُقْراطِية في السُودان: تَحليل المُمكِن والمُستَحِيل (1 – 5)

الانْتِخَابات العَامَة في سِياق بِناء الديمُقْراطِية في السُودان: تَحليل المُمكِن والمُستَحِيل  (1 – 5)
  • 11 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

د. سَامِي عبد الحليم سَعيد

على أكثر من صِعيد تم تناوُل مَوضُوع إجراء الانتخابات العَامة في السُودان، و مَدى امكانية إنعقادها في شَهر يوليو 2023. مِن ضِمن ذلك كانت تَصريحات من أعلى مُستويات الحُكم في الدولة قد أشارت الى ضَرورة إنعقاد إنتخابات عَاجِلة في السُودان، كَشرط أساس لانتقال السلطة الى حكومة مدنية، يتم إختيارها عبر الانتخابات، و تكتسب شرعيتها من إنتخابات نزيهة. جاء الوعد من السلطات العليا في الدولة بإقامة الانتخابات في شهر يوليو، على أساس أن الانتخابات ستكون محفز للاستقرار السياسي و عملية سياسية لانتقال السلطة لحكومة مدنية ديمقراطية. و لكن هل تستطيع الانتخابات تحقيق ذلك؟ و إذا كانت الاجابة بنعم!! ما هي الترتيبات و التدابير المطلوبة في الانتخابات حتى تنجز تلك الاهداف المهمة؟
لا شك إن الانتخابات الشَفافة، و النزيهة، التي يَشارك فِيها كُل مَن له الحَقْ في المُشاركة، بِدون إقصاء او تَمييز، و بِمُوجب قَانُون ديمقراطي، و بإشراف هَيئة مُستقلة و كُفؤة، ستكون بلا شك مَدخلاً للاستقرار السياسي و السلام المُستدام في السودان. إلا ان الانتخابات في كثير من التجارب في الدول النامية، و بخاصة تلك التي ظلت تعيش حُروب و نزاعات و عدم استقرار سياسي، كما هو الحال في السودان، كانت مدخلاً لعدم الاستقرار السياسي و سبباً في نشوب النزاعات المسلحة، و محفز للصراعات الاثنية. حتى تكون الانتخابات هي المدخل الصحيح للانتقال السلمي الديمقراطي في السودان، لابد من مراجعة العديد من الجوانب، من بينها مراجعة البيئة القانونية الناظمة للانتخابات، و هذا الجانب قد يشمل موضوعات متصلة بإعتماد النظام الانتخابي الأمثل للسودان، كما يستلزم إجراء إصلاحات مؤسسية سريعة، و التأكد من ن الاوضاع الامنية أصبحت مستقرة، و أن الدولة أصبحت قادرة على فرض سيطرتها في أقاليم السودان. الأهم من كل ذلك هو التأكد من ضرورة مُشاركة جميع من لهم حق المُشاركة، في العملية الانتخابية. و المُشاركة في هذا الصدد تكتسب مَضمون أكثر شمولية، فهي مُشاركة حُرة و ديمقراطية و نَاتجة عن رغبة، دون ضُغوط ، و كذلك هي مُشاركة في المُمارسة الانتخابية كناخبين و مُرشحين، و في إدارة العملية الانتخابية، و رصْدها و مُراقبتها. مثل تلك المُشاركة تتطلب تحسين مجموعة من القوانين المتصلة بتفعيل المُشاركة الشعبية في الانتخابات العَامة.
عند التحدث بِشكل قاطع عن تاريخ إنعقاد الانتخابات في السُودان في يوليو 2023، من المهم الاشارة إلى المَرجعيات القَانونية التي تَجعل تلك الانتخابات مُمكنة في ذلك التاريخ. إن الحديث عن الاطار القانوني الناظم للعملية الانتخابية هو العَمود الفَقري للانتخابات العامة، لأن الإطار القانوني سيكون هو الحَاكم للنظام الانتخابي و المَبادئ و المَعايير التي يقوم عليها ذلك، و ناظم للعلاقات بين الاطراف، و الفيصل في نزاعاتهم. و بشكل خاص يفكر فقهاء النظم الانتخابية في الاطار القانوني الذي ينظم بعض الموضوعات المهمة في أي إنتخابات مثل: نظام التصويت الانتخابي ، وتوزيع المقاعد ، وكيفية ترسيم الحدود إذا لزم الأمر، وطريقة تسجيل الناخبين، وترتيبات التصويت والفرز.
في أبريل 2010 إنعقدت آخر إنتخابات تَعددية، إستناداً على دَستُور 2005 المُؤقت، و وفقاً لِقانون الانْتِخابات لِسنة 2008، و هي الخَامسة من نوعها مُنذ إستقلال السُودان في 1956. و بِحسب تقرير صَادر عن الاتحاد الاوربي، إنخرط في آخر إنتخابات أكثر من 16000 مُرشح في السباق الإنتخابي بينهم ما يقارب 1400 مُرشح مُستقل. تم تسجيل إثنين وسبعين حزباً سياسياً إلا أن عدداً صغيرا منها فقط انخرط في الحملات الإنتخابية ولم يتم أبداً توفير الدعم المادي المنصوص عليه في قانون الإنتخابات.
و في السِياق الانْتقالي، من المُهم أن يقوم القَانُون الذي تتأسس عليه الانتخابات العَامة، عَلى تَوافُق سِياسي بين أهم الفَاعِلين في المَرحلة الانتقالية، و كذلك يَجب أن يقُوم على أساس دستُوري تَوافُقي. و كان الفَريق عَبد الفتاح البُرهان، القائد العَام لقُوات الشَعب المُسلحة، قد قام إثر إنقلاب 25 اكتوبر 2021، بتعطيل مُعظم أحكام الوثيقة الدستُورية الخَاصة بتكوين السُلطات و مُمارستها خلال الفترة الانتقالية. و كانت الوثيقة الدستُورية هي الاطار الدستوري التي توافقت عليها القوى المدنية و المجلس العسكري الانتقالي في أغسطس 2019 لتنظم كل العمليات السياسية في فترة الانتقال بما فيها تحديد آلية صناعة التشريعات، و تكوين المفوضيات المستقلة، و تعيين الوزراء و المفوضين العموميين. في آخر أيامه في السلطة، قام الرئيس المخلوع بإجازة قانون 2018 للانتخابات، و الذي تمت صياغته على هدى مخرجات ما عرف بمؤتمر(الحوار الوطني) الذي كانت قد قاطعته معظم الاحزاب السياسية الفاعلة وقتها.
كَان وَزير العَدل السَابِق الدكتُور نَصرالدين عَبد الباري قَد إجتهد كثيراً في صِناعة قَانون، تُقتبس اهم أحكامَه من الوثيقة الدستُورية لِسنة 2019 و من إتفاق جُوبا لسَلام السُودان المُوقع في اكتوبر 2020. و كان قد إجْتهد في إجراء مُشاورات واسعة بِقصد خَلق تَوافُق عَريض بِخُصُوص القانون، و الذي من المفروض ان يساعد في عملية تنظيم و ممارسة إنتخاب ديمقراطية نزيهة. المشاورات الواسعة مهمة لبناء الثقة، و في إنتهاج اسلوب ديمقراطي في صناعة التشريعات الخاصة بالتحول الديمقراطي. على كل حال تلك المجهود تَعْطَلت هي أيضا بَعد 25 اكتوبر و لم تَعد إجراءات اصلاح التشريعات و المُؤسسات التي تقوم عليها العملية الانتخابية مَوجودة، بعد أن تم تعطيل الاحكام الدستورية التوافقية التي تنظم الانتقال السياسي في السودان.
مِن الواضِح، إنه بَعد يَوم 25 إكتوبر، و بَعد ان تم تَعطِيل مُعظم أحْكام الوثيقة الدستُورية الخَاصة بِمُمارسة الحُكم، قد تَعطَلت كَذلك أي آلية لاقتراح القَوانِين و إجازتها. و بالتَالي حَتى لو تَوفرت الارادة السِياسية لِلقِيام بإجراءات عَاجلة لاصلاح البيئة التَشريعية للانْتخابات، سيكون هذا الامر عسيراً بشكل كبير مع غياب المؤسسات و التشريعات. بموجب أحكام الوثيقة الدستوري ، كان في حال عدم تكوين المجلس التشريعي الانتقالي يقوم مجلس الوزراء و مجلس السيادة في إجتماع مُشترك بإجازة التشريعات، لكن إنقلاب 25 أكتوبر و لآحقا إتفاق 21 نوفمبر 2021 ، عَملتا على إغفال تِلك الآلية دون تأسيس آلية تشريعية جديدة. بالنظر إلى الأهمية التي يجب ان تتمتع بها الهيئة التشريعية في وضع الانتقال، فانه من المُهم جداً وضع آلية تشريعية جديدة تتمتع بالشرعية الشعبية و تحقق أهداف التحول الديمقراطي و الاستقرار السياسي و بناء السلام في السودان.
فِيما يتصل بإصْلاح التَشريعات الانْتخابية، بالقَدر الذي يَجعلها مُلائمة للاوضَاع الانْتقالية التي تَمُر بِها السُودان، من الضَروري بِمَكان إكْمال المَنظُومة التَشريعية التي تُنظم العَملية الانْتِخَابية. و بإستخدام عِبارة (المَنُظومة التَشريعية) نَقصد بِجانب قَانُون الانتخابات و قانون إنشاء مفوضية الانتخابات، كافة التشريعات التي تنظم فضاء حرية التعبير و حرية الحصول على المعلومات و حرية التنظيم و التجمع، فعملية التشريع للانتخابات لا تنفصل عن عمليات الاصلاح التشريعي الاخرى، بحيث تكون عملية إصلاح تشريعي متكاملة تجعل الفضاء السياسي مهيأ لممارسة العملية الانتخابية بشفافية و نزاهة. و في كل الاحوال يظل من المهم الإحتكام بالمعايير الدولية المتصلة بصياغة القوانين المتصلة بالانتخابات و جعلها راسخة و معلومة و مفهومة و مطبقة بقدر معقول قبل تاريخ بدء الانتخابات بما يعكس رسوخ معايير مبادئ سيادة حكم القانون. وفقاً للممارسة الدولية الصحيحة، من المهم أن تكون تلك القوانين الرئيسية موجودة على أرض الواقع، و مطبقة قبل فترة كافية، لا تقل عن ثمانية عشر شهرًا من التاريخ المحدد لعملية الاقتراع المتوقعة.
فِي خِتام هَذا الجَانب، من المُهم القَول إنه، في ظِل غِياب المُؤسسة التَشريعية، لَيس مِن السَهل إجراء إصْلاحات تَشريعية عَاجلة فِي مَنْظُومة الانْتخابات. و من جَانب آخر، لَما كَانت مَسألة التَوافُق السِياسي أمر مُهم، فَبالتالي لا يَتوقع في غِياب ذلك التَوافُق، إنْجاز إنْتِخَابات تُحقق أهْداف التَحول الدِيمُقراطِي و الاسْتِقرار السياسي و بِناء السَلام في السُودان.

advosami@hotmail.com

التعليقات مغلقة.