دلالات ومعاني في يوميات أول أميركي زار السودان (1821م) (4): الهدوء الذي سبق العاصفة

دلالات ومعاني في يوميات أول أميركي زار السودان (1821م) (4): الهدوء الذي سبق العاصفة
  • 17 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

عبدالله حميدة

عند وصول اسماعيل باشا إلى بربر – في طريقة الى سنار – استسلم له الشايقية (كما حكينا في المقال السابق)، ثم استسلم له المك نمر زعيم الجعليين ، فنصر الدين ملك الميرفاب.
عن هذه الوقائع يقول (انجلش) في يومياته:
(جاء ملك شندي في حاشية مهيبة، يقود حصانين كريمين هدية للباشا، لم ار في حياتي اجمل ولا أكرم منهما عروبة وفحولة وعلوا وجرأة. وعندما دخل على الباشا قبل يده ثم مسح على جبينه معلنا انه جاء ليستسلم ويسلَّم بلاده – خاضعة – لنفوذ وحماية اسماعيل.
ثم :
(استقبل صاحب السعادة، ملك شندي استقبالا كريما واهدى اليه ثيابا فاخرة وحصان ذا سرج مزركش، ثم ذهب به إلى خيمة (الخازن دار) حيث تلقى الإكرام اللائق. وبعد ثلاثة ايام عاد ملك شندي إلى قومه بعد ان حاز على رضا الباشا.
هذا بالنسبة لاستسلام المك نمر، اما بالنسبة لاستسلام نصر الدين ملك الميرفاب فقد كتب (انجلش) يقول :
(حضر إلى معسكرنا نصر الدين ملك بربر لتقبيل يد الباشا تعبيرا عن ولائه الذي لم يتمكن من ادائه للغازي المنتصر – حتى ذلك الوقت – بسبب مرضه . فجاء وفي معيته هدية للباشا قوامها خمسون جوادا كريما وخمسون جملا اصيلا. وقد استقبله سعادته بالترحاب ومنحه – ردا على هديته – عطايا نفيسة.)
لإلقاء بعض الأضواء على حقيقة ما سجله (انجلش) نقول الآتي:
بالنسبة لاستسلام (نصر الدين) ملك الميرفاب هناك حقيقة معروفة اغفلها (انجلش) وقد وردت في المصادر التاريخية وهي ان (نصر الدين) كان قد ذهب إلى القاهرة – قبل حملة اسماعيل- وقابل محمد علي باشا وشرح له الاحوال المضطربة في البلاد مما اضاف الي اهداف والي مصر سببا جديدا لغزو السودان بل إن بعض المصادر تتحدث عن ان ملك الميرفاب قد صحب الحملة من مصر كضابط سياسي ضمن الطاقم العسكري لاسماعيل باشا.
ويبدو ما سجله (انجلش) في يومياته في هذا الخصوص امرا مناقضا للحقيقة.
وبما ان (انجلش) قد عاد إلى مصر ولم يحضر تطورات الاحداث التي ادت إلى سوء العلاقة – فيما بعد – بين الباشا والمك نمر فانه لم يسجل التحول الدراماتيكي الذي حدث في تلك العلاقة، وهو ما اسميته – عنوانا لهذا المقال- الهدوء الذي سبق العاصفة واعني به المحرقة التي اضرمها ملك الجعليين وقتل بها بددا جيش الحملة وقائده.
فكل الروايات التي تحدثت عن (محرقة) شندي التي حدثت لإسماعيل باشا وجيشه ، اوردت ما يدل على أن ذلك الهدوء الذي تلى استسلام المك نمر كان يمكن ان يستمر ويجنب الجيش الغازي تلك المحرقة بل ويجنب البلاد الدمار والخراب الذي حدث بعدها في شكل حملة انتقامية على الجعليين قادها صهر محمد علي (الدفتردار) وتأثرت بها اجزاء عديدة من السودان، وهي ما يعرف بـ (حملة الدفتردار الانتقامية).
لم يكن من الممكن تفادي (المحرقة) وعقابيلها في ظل الأسباب التي ارتبطت بتحقيق اهداف الحملة ومنها علي وجه الخصوص السببين الآتيين :
1/ ما حدث من اضطرابات في منطقتي الحلفايا وشندي بين الاهالي والجنود الأرناؤوط بسبب شراهة اولئك الجنود لجمع اكبر عدد من الرقيق وإرساله إلى اسوان تلبية لرغبة الباشا الكبير(محمد علي) والي مصر.
وهذا ما أدى إلى اصطدامهم مع الأهالي وتجار الرقيق الذين اعتبروا الامر نهبا لا مبرر له في ظل استسلام الناس لحملة الغزو والرضوخ لها كواقع ظنوا انه كفيل بتحقيق السلام والأمن لهم ولممتلكاتهم.
لكن اسماعيل الذي كان حتى هذا الوقت في سنار ، اتهم المك نمر بتواطئه مع مسببي تلك الاضطرابات، فجاء إلى شندي لمساءلة زعيم الجعليين وتوبيخه في وجود اهله ورعاياه.
2/ الفشل الذي حاق بإسماعيل في الحصول علي الذهب (وهو احد اسباب الحملة) وذلك لدعم الخزينة المصرية مما دفعه لانتهاز فرصة غضبه عن المك نمر لفرض عقوبة ثقيلة عليه تمثلت في حتمية ان يدفع غرامة قدرها :
1) 1000 وقية من الذهب.
2) 2000 من الرقيق الذكور.
3) 1000 من الجمال ومثلها من الضأن والبقر.
حاول المك ان يوضح للباشا صعوبة دفع هذه الغرامة ولكن الباشا اساء اليه وقذف في وجهه – كما تقول الروايات – بغليونه ، مما جعل الدم يغلي في عروق المك وأوشك ان يعلو الباشا بسيفه إلا ان قريبه (المك مساعد) اشار اليه خفية ان أصبر. فصبر الرجل ولكنه اضمر في نفسه مكيدة رهيبة للخلاص من هذا الباشا الشاب المغرور ذي السبعة وعشرين عاماً، فدبر له تلك المحرقة التي سارت بذكرها الركبان.
لقد كان من الواضح ان المك نمر كان صادقا في استسلامه للباشا كما روى (انجلش) وذلك من منطلق تقديره لقوته في مقابل قوة الغزو بما لا يقارن، ولكن تطور الاحداث بالصورة التي اوردتها المصادر، كان من المحتم ان تقود إلى موقف عنيف بين الباشا ونمر هو تلك (المحرقة) الرهيبة التي تسببت فيها رعونة الباشا وجشعه وغروره وما كان امام المك نمر إلا ان يقابل ما بدر من اسماعيل بما هو في مقدروه.. بالصبر ساعة الغضب وبتدبير مغامرة كانت هي الهدوء الذي سبق العاصفة ويا لها من عاصفة قضت على الغازي وخلفت المآسي والمحن، وأثبتت أن الاستسلام اليوم للغاصب سرعان ما ينقلب غدا إلى طغيان يستوجب المواجهة بكل ادوات القوة وبكثير من الأفعال وقليل جدا من الأقوال، فالسلام بأي ثمن لا يكون سلاما بالمرة.
(نواصل)

aha1975@live.com

التعليقات مغلقة.