بين الطورية والمنجل

بين الطورية والمنجل
  • 24 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

عشت بواكير حياتي في قرية ريفية ” سعدنكورتى المحس” عمادها الزراعة’ بل فتحت عيني على والدي وفي يده الطورية وفي الأخرى المنجل’ الذي قاد باقتدار المشروع الزراعي التعاوني الأنموذج ربع قرن.
بهذه الخلفية الثرية تابعت بشغف الحلقات التي نشرها صديقي د. عصام مصطفى عبد الرزاق عن حياة الترابلة في أقاصي الشمال من واقع المعايشة اللصيقة وهو ابن التربوي الموظف براتب يسيل له اللعاب ولكنه درس الهندسة الزراعية وارتقى في مسالكها في الداخل والخارج حتى صار علما.
ظلت الزراعة قلب الرحى في منظومة الحياة في ربوعنا فالأرض التي لها ملاكها في الشريط النيلي وكل المساحات الهائلة عداها حكومية لم يحتكرها أصحابها فهي تقسم على المزارعين بالتساوي ويعود لأصحابها نصيب معتاد نظير استثمارها’ ليس هذا فحسب بل يسمح للمقتدرين من غير الملاك بشتل النخيل فيها بنسبة معلومة للجانبين وبهذا الفهم العالي يتشارك الجميع في عائد الأرض.
يجني المزارعون المحصول ومن باكورته يصل ” الاير ” للجيران أي قدر منه هبة وهو يعني أن يسعد الجميع بالإنتاج الجديد ولا يحرمون منه بما في ذلك حليب البقرة التي تلد والفول الأخضر منه والجاف وسائر الخضراوات’ بل حتى لمن يخدمون مجتمعهم أنصبة مثل شيخ الخلوة وريس المركب والحداد الذي يصنع أدواتهم الزراعية ويسنها وسواق الوابور وقيادة المشروع والخولي الذي يختار بدقة.
وهنا تحضرني طرفة عمنا الظريف عثمان خيري الذي قال:
إنهم اختاروا صالح مظلوم وسري فرح وعكاشة نصر خولية لمشروع دلقو الكبير نسبة لحزمهم ولكنهم لم يختاروا شديدي الطيبة لتساهلهم وضرب أمثلة فعلا الضحك لدقة المقارنة.
يمتد العطاء ليصل من يتولون تذرية المحاصيل وهي مهمة تضطلع بها النساء عادة لكن بعض المزارعين يستعينون بعمال ذوي دراية بمعدات خاصة. ولا ننسى الحيوانات بصنوفها التي تعتاش مما يزرع ويحصد وهنا يقفز إلى الذهن إبداع إسماعيل حسن:

حتى الطير يجيها جيعان
ومن أطراف تقيها شبع

هذا التكافل المجتمعي الجميل يتمدد فمحصول التمر منه أنصبة للملقح وهو من يتولى حش التمر ايضا ولمن يساعدون على جمع المحصول ونقله لمواقع التخزين ولذوي الحاجة.
ويعد التخزين حتى الموسم التالي أسلوبا ذكيا إذ يعمد المزارعون لتخزين التمر الخاص بالبيت وهو من أجوده كالقنديلة والابتمودة ” الاسكونتة ” والبركاوي الراقي فيما يباع جله للتجار’ كما يتجهون لتخزين القصب وحتى اللوبيا المجففة ” توفيه” والتبن لتعليف حيواناتهم بها في مواسم الندرة مثل الدميرة حيث يغمر الفيضان المزروعات فيما تعمد النساء ذوات الهمة والدراية لتصنيع العجوة والعسل والمربات.
ويشمل الادخار البذور الجيدة فهم يحرصون عليها للموسم التالي بحرص قائلين:
ال محتفظ بالتيراب زي ال حافظ وضوءه في قلب الشتاء!
لا تتوقف صور التعاون والتكافل في حياة المزارعين وهي روح مستمدة من الأسلاف وتشاركية العمل الزراعي منذ عهد السواقي التي لم تكن تقبل الأحادية فهم معا في مراحل فلاحة الارض والسقي وحتى عند جني المحاصيل فقد كنا ونحن صغار نرقب ٱباءنا يصطفون على جهتين متقابلتين وكل منهم ممسك بجريد نخل غليظ فينهالون على أكوام الذرة يدقونها بتراتيبية فعندما يرفع صف رءوسهم ينحنى الٱخر بهمة وهم يجددون نشاطهم بأهازيج منغمة يرددونها في تفاعل:.
الله الله
يلا يلا
وهو ما يحدث في حصاد القمح جماعة أيضا مثل جلالات الجنود وهم يؤدون تمارينهم الصباحية الصاخبة.
أما سنام التضامن فيتجسد في مناسبات الكره والفرح فالجميع هم أهلها إعدادا واستقبالا وإسنادا وأتراحا وابتهاجا.
هكذا تمضي حياة المزارعين وزوجاتهم شريكات الكفاح في تناغم وتكافل ومسرة.
لكن رياح التغيير تفرض واقعها الحتمي فهناك محاصيل تتوارى من بينها القطن الذي كان يغزل وينسج قديما والشعير والدخن وتبرز التقنيات الجديدة كالحصادات والزراعات ومن المحدثات دخول المستثمرين برساميلهم وانصراف بعض الشباب للتعدين الخلاب..

أخيرا:
ألم يحن بعد غزو فضاءاتنا الممتدة زراعيا حتى محطة نمرة 6 وشريط السكة حديد شرقا وتخوم ليبيا غربا متحررين من قيد الشريط النيلي المحدود بدءا بغرس ٱلاف فسائل النخيل كما تفعل الجزائر وموريتانيا؟!

تلك أمنيتي

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.