الكمنجة

الكمنجة
  • 05 أبريل 2022
  • لا توجد تعليقات

تاج السر الملك

لعبد الرحيم المرضي، اذنين بارزتين، وكان قصيرا، فسمى تندراً، بكاس العالم، ولكنه لم يكن يغضب لذلك، بيد أن اذنيه، كانتا مخلوقتين لغرض، اسمى من مجرد بروزهما الذي يقربه، من أبطال فلم (حرب النجوم)، فقد كانتا موسيقيتين خالصتين، من النوع الذين يسمع دبيب النمل، في سطح صخرة ملساء. فبرع في عزف الأكورديون، واتخذ موقعه، وراء كبار الفنانين في مدني، في السبعينات وحتى الثمانينات. جايل في مركز شباب مدني، (بلحة) و(عشيري)، و(محمدابو بكر) ومحمود ابو الكيلك، و(الرشيد) والذي كان رساماً بجانب كونه عازفاً، وقد لا نبالغ، إن قلنا أن كل اسرته، فنانون بالفطرة، فيهم المعلمون والبياطرة والطلاب، واللعيبة، فيهم المقل في الحديث، والفكه، والفطن، وكانوا كرماء، فإن كان لك نصيب من السعادة، دعوك لإفطار الجمعة في بيتهم، جلوس حول مائدة من المحبة، بجلابيبهم النظيفة، والوانهم غامقة السمرة، يتوسطهم الوالد، فكأنه أخاهم الأكبر، كان فكهاً، وإليه تعود الجينات السماعية، سمعته مرة، وقد (كرّ)، البنقز في اغنية، لعبد الله محمد، يصيح بأعلى صوته
ابو الزفت، الزول ده بدق في قرعة؟
في بيت آل المرضي، تعرفت على محمدية.
في صالون بيتهم، في مزاد (ود مدني)، علقوا صورته، ولعلها صورة الغلاف الخلفي، لمجلة الإذاعة والتلفزيون، منتزعة بصبر وحرص، بورتريه من الأبيض والأسود، صورة عميقة الظلال، ثلاثية الأبعاد إن شئت، يبدوفيها (محمدية)، سابحاُ في اتجاه مصدر ضوء يتيم، يمرر القوس، فوق سطح لامع، إن تحسسته بالعيىن الغير مجردة، عرفت أنه الكمنجة، فإن أعملت المجردة، كان حدثاً سريالياً، بين واقع متخيل، وخيال واقع. لم أكن أعلم حتى تلك اللحظة، بأنه (يجوز) لك أن تعلق صورة عازف، مثلما تعلق البنيات، صور ابن البادية، وصلاح مصطفي، وابراهيم عوض، فعدا كونهم مطربون من الدرجة الاولى، إلا أنهم، (كشفة) بلغة تلك الأيام، و(كسارون) بلغة الألفية الثانية.
محمدية؟ معقول؟.
كانت تلك البداية، ومن يومها، سلكت الطريق، الذي أوداني إلى، حرقل، وود الحاوي، وأميقو، وصلاح خليل، والنعام، وبشير عباس، واسامة بيكولو، وتدربت على تمييز الأساليب، والتعرف على التفرد، ومكامن الابداع، عند العازفين وامتدت رحلتي لتشمل، (مايلز ديفيس) والحفناوي والشريعي، وجون كولترين وفوستو بيبيتي وهندريكس وجيمي بيج، وغيرهم.
كان علمي وتفقهي، بالكمنجة، لا يتجاوز إعجابي بالعازف منسترلي، والذي قال (أبو اللمين)، بأنه عزف مقدمة، (وحياة ابتسامتك)، في نسخة الإذعة السودانية الأولى، والذي تدرب على يديه (محمدية)، و( بدر التهامي)، وطريقة ملبسه (الفلامبويانت)، وشاب من جيلنا، او يسبقنا قليلاً، (أصفرانياً) نحيفاً، إسمه (عشيري)، وكان مثله في تلك العهود، يسمى بالطفل المعجزة، وكان في السودان في زماننا، طفلين معجزتين
أزهري الامين ، وعبدو الصغير.
لم أكن أعرف علم (المنجرة)، حتى تعلمته، في بيت آل المرضي، وحينما بلغت الحلم في العلم، تبعته في أغنية (إني أعتذر)، يحلق بي حيث لا امنيات تخيب، ولا كائنات تمر، حيث لا حيث. وفي (الود)، وفي مقدمة (يقظة شعب)، كان صدى (محمدية)، يتردد في كل الأغنيات السودانية المسجلة، إن شئنا الحق أم المبالغة، كان صوت( الكمنجة)، ميسورا للسمع، لا تكاد تخطئة الأذن. وبانتشار التلفزيون، قدر لنا رؤية محمدية، لايف، باسماً مشرق القسمات، يعزف دون أن يبذل جهداً، فكأنما هو والكمنجة وحدة واحدة، فكأنما يكتمل بها، وتكمل به، وكان بفضل من اسلوبه في العزف، ان خضعت الكمنجة للخماسي، فغنت،
بنعيش انحنا بكلمة طيبة …لذكرى حلوة وعيون حبيبة….دمعتنا ياما للعين قريبة….كتر الحنية كيفن تتداوى..
وغنت ..خوفي منك، خوفي تنساني..وغنت (الساقية)، وألفين سلام يا يمة، يا بحر المحنة …ولم تسكت عن الشدو بعد ذلك ابدا.
واصبحت أعماله مرجعاً، في كتالوج الموسيقى السودانية المعاصرة، لا يقاسمه في ذلك الفضل، إلا قلة. حدثني وردي فقال، بأنه التقى محمدية لأول مرة في بروفة، لأغنية لا أذكرها، كان وردي حديث عهد بالغناء، وكان للإذاعة عازف معروف، يؤدي السولو، في كل الاغنيات، وكان (متعنطظاً)، لم يكن يحضر البروفات، برغم توسلات وردي، حتى جاء يوم التسجيل، قال وردي، ان العازف الكبير، جاء يحمل كمانه ( وقفت في باب الاستديو، وقلت ليه ما بتخش، أنا اديت السولو لمحمدية، والشكلة قامت، أنا رفضت نهائياً أن الراجل ده يعزف في أغنيتي)، وكان لوردي ما أراد، فخبا نجم في ذلك اليوم، ليسطع نجم (محمدية)، ويمتد في لمعانه لعدة عقود، حتى توفاه الله، فذهب في صمت ابتسامته، التي لازمته، حتى آخر لحظة في حياته، كان محمدية ثورة، بيد أننا لم ندرك ذلك.
له الرحمة.
ليتنا نسعى لإدراج إسمه في كتاب (الغينيس)، باعتبارالرقم القياسي للاغنيات التي شارك فيها بالعزف، داخل الاستديو وخارجة.

التعليقات مغلقة.