الصيف والفردوس (5)

الصيف والفردوس (5)
  • 22 أغسطس 2022
  • لا توجد تعليقات

تاج السر الملك

أوقفنا سيارتينا متلاقصتين، و دخلنا معا دون أن ننبس ببنت شفة، تأكد لي تلك الليلة عشق الأمريكيات للطعام، فالطعام يا صديق، قاسم مشترك في كل احوال القلب الأنثوي الأمريكي، طعام ساعة الفرح، وطعام في سويعات الحزن، كان المطعم مزدحماً بالزبائن، وروائح الأكل و موسيقى تهبط من سماعات السقف، ولكنني وسط كل هذه الفوضى لمحت بطرف عيني الآنسة (ماري) وهي تتفحصني بنظراتها بوعي سافر، كانت كأنما تراني للمرة الأولى في حياتها، أحسست بحرارة رسائلها الملغومة، في مكان ما في عقلي الساكن، لم نتحدث عن (جيمي) وأمرأته ولو للحظة، وهي لا تني تواصل زحفها الى بركان خامد كسول في دواخلي، بركان ساكن يقطنه وحش خرافي بليد متقلب المزاج، وحش من فصيلة كلاب الجحيم، صادفتها في ظلمة الرماد تحاول عبثاً الأهتداء الى موقع الفتيل لتشعل الحمم وتوقظ الوحش من مرقده، اشتدت رائحة عطرها فزكمت أنفي، وعلى وجهها مكياج مرتجل، ونظرات منكسرة، وعلى قوامها الفاتن رداء الخوخ الذي رأيتها فيه أول مرة، وعلى سمرة لونها يحترق التين البري ببذاءة ودون حياء، عقب العشاء خرجنا معاً متماسكي الأيدي دون أن نتقصد ذلك، تحدثت أصابعنا ملياً، تحرك الكائن من سكونه، وحين أدركنا موقع السيارات، دق الكائن بيديه على جدران عقلي بعصبية، فأدركت بأنه لا محالة منفلت من أسره، ثم عوى، فعويت معه بوحشية وبرود، نظرتها فابتسمت الى عوائي في استسلام كامل، أومأت الى المقود، فتبعتها ونحن أسرى في قبضته، بقيت سيارة واحدة لحملنا، وشقة واحدة تطل نافذتها على مشهد الطائرات المقاتلة، المتوشحة بضباب الصبح الباكر، الرابضة في صمت، ولجنا الغرفة فانطفأ مصباحها، وسكن روع الكائن الى عطرها،ساعة مضت، فتوقف عن الدق على جدران عقلي.. مصمص شفتيه، بعد أن افرغ حممه وتشظى، ثم خاطبني وانفاسه تتردد: (ياله من تين بري شهي)، ومضى دون أن يعنى بشرح.
من يومها و هي تتفحصني بعينيها، فأنهض الىها بحرفية ذئب، حتى تتلاشي صورة (جيمي) من مخيلتها والى أن تصعد الشمس كبد السماء، سقط من مشهد مدنها العامرة مثل سقوط تمثال السيد (حسين) رأساً على عقب في الساحة البغدادية مرة والى الأبد، لا ادري من اين اتني ببزة عسكرية فضفاضة أغوص فيها، حتى أدخل معها الى القاعدة العسكرية، دون أن اثير الإنتباه، وفي نقاط التفتيش لم يكونوا يهتمون بأكثر من نظرة سريعة الى داخل العربة، ثم يصيح الجندي المثبت داخل حجرة بحجمه كلمات عالية غير مفهومة، فتنفتح البوابة التي تقع على مبعدة ياردات وراء ظهره، فنمر عبر ثلاثة من الجنود المسلحين حتى أسنانهم، و على البعد كنا نرى طائرات (الهيركيوليز) الآتية لتوها من مكان ما، تفرغ أحشاءها من حمولة توابيت الموتي، لتعود محملة بالذخيرة والأدوية والأحياء الذين سيلاقون موتهم أو جنونهم في مكان آخر، بعيداً عن المسيسيبي ونورث كارولينا، بعيدا عن حلمهم بحيازة الجواز، بعيداً عن أحضان أمهاتهم، سيقتلون باحتراف ويموتون باحتراف، سيتعلمون أشياء وستغيب عنهم أشياء، طائرات مقعية ككلاب اسطورية او حيتان تحمل اكثر من (يونس) في جوفها، تتمدد على مدرجات داكنة ملساء، وتحتها يتحرك رجال الخدمات والصيانة ، يبدون كالأقزام في أطار مشهد ميثولوجي مدهش.
يتبع

التعليقات مغلقة.