الحزب الشيوعي والجذرية الوطنية فيما بعد الحرب العالمية الثانية: في ميلاد عبدالخالق محجوب الخامس والتسعين (7)

الحزب الشيوعي والجذرية الوطنية فيما بعد الحرب العالمية الثانية: في ميلاد عبدالخالق محجوب الخامس والتسعين (7)
  • 06 أكتوبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي إبراهيم

عبد الخالق محجوب “الإخوان المسلمون قد لا يصدقون مسألة دافعنا الروحي هذه لظنهم في ماديتنا”

نواصل هنا عرض من أين جاء عبد الخالق محجوب للماركسية من ممكنات الجذرية الوطنية التي اجتاحت السودان بعد الحرب العالمية الثانية كما أدلى هو بها في خطبة دفاع له أما محكمة عسكرية عليا لم تنعقد في 1959. ولا أعرف من أوجز مسألة هذه الرحلة إلى الماركسية من فوق الوطنية وبلّغ مثله بقوله إن الماركسية: ” “دخلت السودان استجابة لدوافع الحركة الوطنية لتوسيعها ولإعطائها مضموناً اجتماعياً. واستجابة لعطش نفر من المثقفين والأقسام المتقدمة من العمال للاتساق الروحي الثقافي”.

قال عبد الخالق محجوب:
إنني أنتمي لذلك الجيل من الشباب الذي تفتحت أذهانه، وتنبهت آذانه على صوت الوطنية السودانية في الأربعينات. في تلك الفترة، ونحن في ميعة الصبا نتلقى العلم في المدارس الثانوية، اتسع نطاق تفكيرنا من محيط جدران قاعدة الدرس إلى نطاق وطننا بأسره. فعرفنا أن الجو الخانق الذي كنا نحس به في المدرسة، والقحط الثقافي الذي نعيشه، والتعليم المبتسر الذي نتلقاه، والتزييف الفاضح لتاريخ بلادنا الذي كنا نطالع في الكتب الإنجليزية، كل هذا لم يكن سوى حلقة واحدة من سلسلة يشد بعضها بعضا، ويحكم وثاقها المستعمر الدخيل فيكبل شعبنا بأسره، ويذل وطناً بأجمعه.
وعندما يصل الشباب إلى هذه الحقيقة البسيطة في معناها المروعة للخيال والعاطفة والعقل فلن تحده الحدود، أو تقف دونه السدود. فانطلقنا نكون الجمعيات ونتجاوب مع الحركة الوطنية الناشئة. وساهمت بجهدي المتواضع في بناء حركة الطلبة التي كان لها الفضل في تنظيم أول مظاهرة ضد المستعمرين في أول ١٩٤٦. وكانت تلك المظاهرة الأولى من نوعها بعد الضربة العنيفة التي وجهها الاستعمار لشعبنا عام ١٩٢٤، والشرارة التي ألهمت الحماس الوطني. فانتظمت البلاد على أثرها حركة وطنية مستمرة ضد بقاء الاستعمار حتى نالت ابلاد استقلالها في مطلع عام ١٩٦٥.
إن النشاط الوطني الذي قام به شباب الطلبة في مطلع ١٩٤٦ كان لابد أن يُكسب كل المشتركين فيه تجارب جديدة لأنه احتكاك مباشر بالحياة العملية. وقد كنت ضمن مئات الطلبة الذين يراقبون في الصفوف الخلفية المحاولات المستميتة المخلصة التي بذلها قادة الطلبة من أجل توحيد الأحزاب السودانية، واتفاق كلمتها، لتشكل وفداً للسودان يواجه المفاوضات الإنجليزية المصرية الجارية في القاهرة في تلك الفترة من عام ١٩٤٦. وقد كانت التجربة مذهلة ومدهشة لعقولنا المتفتحة. عَلِمنا، والأسف يغمر أفئدتنا، أن بين الأحزاب السودانية من لا هم لهم غير خدمة المستعمرين. فقد تجردوا من الغيرة الوطنية، ونزعوا جذروهم من ثرى هذا الوطن، وربطوا مصيرهم بالمستعمر الأجنبي، وأصبحوا أدوات له يسخرهم في حرب بني وطنه، وفي عرقلة سير الحركة الوطنية. لقد تَبَين لنا هذه الحقائق المريعة من سير المفاوضات التي كان يجريها قادة الطلبة مع الأحزاب الأخرى، وإصرار ذلك النفر على وجوب النص في وثيقة الأحزاب الشهيرة على مبدأ التحالف مع بريطانيا إلى درجة التهديد بتكوين وفد آخر منفصل عن وفد الأحزاب الوطنية.
لماذا هذا الإصرار؟ وأية مصلحة وطنية يخدم؟ أسئلة دارت برؤوسنا وبددت أفكارنا الخيالية واستقرت في خيالنا نقلبها. إذاً ليس كل من يشمله الوطن السوداني يعتبر وطنياً راغباً في استقلال بلاده! إن هناك مصالح أخرى تدفع بأربابها للتنكر لمصلحة المجموعة. ما هي تلك المصالح؟ ومن ضمن مئات الطلبة قَلّبت هذه التساؤلات في ذهني فلم أجد لها تفسيراً معقولاً قائماً على المنطق والحقائق. وكيف نجد التفسير وكل مفهومنا للحركة الوطنية لم يتعد كونها حرباً بين السودانيين والمغتصبين. مثل تلك النظرية تفشل في تفسير ما يشذ على قاعدتها. وما أكثر الشذوذ. وفي هذه النقطة الحرجة وقفت كثيراً وفكرت كثيراً فرجعت أقرأ كل ما وقعت عليه يدي من تاريخ النضال الوطني في الهند ومصر وأروبا، فما وجدت ما أصبوا عليه من حل. ثم كنت سعيداً حينما عثرت على كتاب عند صديق. كتاب بسيط في طباعة متواضعة اسمه “المشكلة الوطنية ومشكلة المستعمرات” بقلم جوزيف ستالين. هنا لمحت الحل. ووصلت إلى رد حاسم سريع لتساؤلي. فعرفت كنه الاستعمار وأنه لا يعني فقط احتلال الجنود لبلادنا، بل يعني سيطرة رأس المال الأجنبي على مقدرات وطننا، وأن هذا الأخطبوط من شأنه أن يحيط نفسه بطبقات من داخل البلاد بوساطة بنوكه وشركاته، طبقات تشمل الإقطاعيين وكبار الرأسماليين، وأن هذه المصالح هي التي تحرك تلك الطبقات وتقتلع جذورها من أرض الوطن. وكانت تلك الأفكار النيرة فاتحة لنافذة كبرى نطل بها على العالم ونتبصر بها طريق حركتنا الوطنية.
وقد تداول هذا الكتاب وقتها عشرات من الطلبة كل يتطلع لإيجاد حل لمشاكل الحركة الوطنية السودانية، ويتلمس فيه أنجع الطرق لحرب المستعمرين، وتحقيق الحرية والاستقلال. ومنذ ذلك التأريخ وأنا أتطلع كل صباح لمعرفة المزيد من النظرية الماركسية اللينينة التي اتخذتها منهجاً لحياتي محاولاً تطبيقها على ظروف بلادنا وفق تقاليدنا السودانية وما تتطلبه مصالح شعبنا الحقيقة.

وعرض عبد الخالق في محاضرة لطلاب جامعة الخرطوم في دار اتحادهم في محاضرة لطلاب جامعة الخرطوم في دار اتحادهم لاستدباره شاباً القيادات الوطنية من فرط السقم في أدائها ورؤيتها لما هو بين يديها من شأن الوطن. ونشرت جريدة الميدان ملخصاً لها (2 أبريل 1965)

قال عبد الخالق إن الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) تكونت في ١٩٤٦ من نفر من جناح الاتحاديين اليساري لأنهم لم يجدوا “في قيادات الأحزاب الاتحادية ارضاء لطموحهم الوطني ولما يعتقدونه من أنه لابد لكل حركة وطنية من مضمون اجتماعي”. ونسب قيادات الأحزاب تلك للتقليد الزغلولي (سعد زغلول) الذي اقتصر بالمناداة بالحرية الوطنية دون الحرية الاجتماعية في وقت اشتد عود مثل الربط بين الحريتين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ثم ميز عبد الخالق الدافع الروحي أو المثالي الشبابي في هذا التكوين الجامع بين الحريتين. “وكنا طلبة . . . ونحس احساساً عميقاً بالفراغ الفكري والروحي للحركة الوطنية آنذاك” المتنازعة بين وحدة وادي النيل وبين الاستقلاليين بعاهتهم. “أما عدا ذلك فكنا لا نسمع بأفكار جديدة، ولا بما يجذب الإنسان روحياً وثقافياً وفكرياً.” وقال إن الإخوان المسلمين قد لا يصدقون مسألة دافعنا الروحي هذه لظنهم في ماديتنا. وبناء على هذا “شقت الماركسية، الفكرة الاشتراكية، طريقها استجابة لرغبات اقسام من الجناح اليساري في الأحزاب الاتحادية ورغباتهم في الاتساق الروحي والثقافي”. فالفكرة الاشتراكية “دخلت السودان استجابة لدوافع الحركة الوطنية لتوسيعها ولإعطائها مضموناً اجتماعياً. واستجابة لعطش نفر من المثقفين والأقسام المتقدمة من العمال للاتساق الروحي الثقافي”.
ثم عرج إلى سنته الأولى بالمدارس العليا. “كنا نطل على فجر الحركة الوطنية ولكنا ندخل في قاعة المحاضرات ولا يقدم لنا أي شيء. مثلاً في الأدب الإنجليزي كان يدرسوننا الإنشاء المرنة وحاجات من هذا القبيل”. وضحك الطلاب وصفقوا حين سألهم إن كان حالهم هو حالهم قديماً. “وعندما نتطلع مثلاً في ميدان الأدب إلى مبادئ النقد الأدبي الحديث يقدم لنا “برادلي وغيره . . . وأكثر شيء يقدم لنا وليام هاردي. هذه كل القصة التي كانت موجودة. فكان هناك تمرد على الثقافة البريطانية وقتها”. وقال إن الناس انقسمت جماعتين: واحدة دعت للتمسك بالثقافة العربية. فكثير من الطلبة أعجبوا بمصطفى صادق الرفاعي. ومال آخرون للمدرسة الغربية وقدوتهم العقاد. وحار الكثيرون بين القطبين. فالمدرسة الأولى خلت من حلول لمشاكل مجتمع خارج من الحرب العالمية الثانية وسط أمواج متضاربة من التفكير الحديث. ورأى جيله في الثقافة الغربية قيماً ومبادئ، ولكنها مما حمله أساتذة وموظفون بريطانيون حكموا السودان. فوضح لهم التناقض الكامن في هذه الثقافة: تناقض في العمل والتفكير، حرية في التفكير وبين قهر واضطهاد لنا في العمل”
لم تكمل الميدان العرض في اليوم التالي 3 إبريل.
(حضرت المحاضرة وأذكر اعتذاره الذي سجلته الميدان لحديثه الذي سيكون قصيراً لمرضه وقد سبق له الاعتذار عن تقديم الندوة مرات).

نرى في الحلقة القادمة كيف جاء الجنيد على عمر من حقول الجذرية الوطنية إلى الماركسية

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.