حول أزمة نقص الغذاء

حول أزمة نقص الغذاء
  • 13 أكتوبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. نازك حامد الهاشمي

اعتمدت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015م أهداف التنمية المستدامة، وهي دعوة عالمية للعمل على إنهاء الفقر، وحماية كوكب الأرض، وضمان تمتع جميع سكانه بالسلام والازدهار بحلول عام 2030م. وسعت أهداف التنمية المستدامة عبر أهدافها السبعة عشر المعلنة لخلق توازن بين مختلف أوجه الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، والتعهد بعدم افتقاد أي شخص لثمار تلك الأهداف. كذلك التزمت البلدان بتسريع التقدم لأولئك الذين تخلفوا عن ركب التقدم بعد إنهاء الفقر المدقع والجوع، وكذلك التقدم في مجالات التكنولوجيا للتسريع في تحقيق تلك الأهداف.
كذلك معلوم أنه مرت على العالم العديد من الأزمات التي خلفت وراءها العديد الأثار الاقتصادية، ولم تسلم من تلك الأزمات حتى الدول التي لم تحدث فيها أزمة اقتصادية. غير أن المؤسسات المالية الدولية اكتسبت خبرة واسعة في التصدي للأزمات منذ حدوث أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمية في عام 2008م، عبر معالجة إنشاء عدد من المشروعات الزراعية في عدد من الدول. كذلك نجح البنك الدولي في بناء أدوات جديدة للتصدي لأزمات الأمن الغذائي، بما في ذلك نافذة التصدي للأزمات التابعة للمؤسسة الدولية للتنمية. غير أن الوسائل التي أُتبعت في بعض مناطق الشرق الاوسط وشمال أفريقيا في التصدي للأزمة آنذاك تمثلت في التركيز الشديد على دعم السلع الاستهلاكية، مثل الغذاء والطاقة بغرض دعم وحماية الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً، غير أن فعاليتها في الحد من الفقر كانت محدودة. كما ثبت أن إعانات الدعم لا تعود بالنفع على شرائح المستهدفة أصلاً.
ويواجه العالم حاليا أزمةً جديدةً نتيجة لتوالي عدد من الأسباب في السنوات القليلة الفائتة من جائحة الكورونا، وتغيرات المناخ، وثم أخيراً الحرب الروسية الأوكرانية، والتي من شأنها جميعاً تقويض أهداف التنمية المستدامة، أو حتى تعطيل تحقيق أهدافها المنشودة في عام 2030م. لذلك أعلن البنك الدولي في مايو 2022م عن حزمة من الإجراءات في إطار الاستجابة العالمية الشاملة لأزمة الأمن الغذائي المستمرة. ومعلوم أن زيادات أسعار الغذاء تنعكس بصورة أكبر على الفئات الأشد فقراً. لذا يرى بعض الاقتصاديين أنه ينبغي على الدول الأقل نموا تعديل سياستها تبعاً للتغيرات الجديدة التي طرحها البنك الدولي مؤخراً والمتمثلة في طرح تمويل لمشروعات تتركز على قضايا الأمن الغذائي والتغذوي، وتغطي الزراعة والموارد الطبيعية والتغذية والحماية الاجتماعية وقطاعات أخرى ذات صلة. وإجمالا سيصل هذا المبلغ إلى أكثر من ثلاثين مليار دولار، وسيكون متاحاً للصرف على مسألة التصدي لانعدام الأمن الغذائي على مدار الخمس عشر شهرا المقبلة. وتركز الاستجابة العالمية التي تتخذها مجموعة البنك الدولي على أربع أولويات تتمثل في:

  1. مساندة الإنتاج والمنتجين باتخاذ إجراءات من شأنها تعزيز الإنتاج الزراعي، وإزالة الحواجز القائمة أمام تجارة المستلزمات الزراعية وتقديم دعم أفضل للمزارعين والإنتاج الزراعي.
  2. تسهيل زيادة التجارة وبناء توافق دولي في الالتزام بتفادي القيود على الصادرات التي تزيد من أسعار الغذاء العالمية والقيود المفروضة على الواردات التي لا تشجع الإنتاج في البلدان النامية.
  3. مساندة الأسر الأكثر احتياجاً عبر توسيع مظلة برامج الحماية الاجتماعية الموجهة وللأمن الغذائي.
  4. الاستثمار في الأمن الغذائي والتغذوي المستدام.
    وبالنظر للقارة الافريقية التي تضم غالبية أفقر دول العالم، وإنعكاس تأثير أزمة الغذاء الحديثة عليها، نجد في تقرير تم نشره في يوم 15/08/2022م عن الأمم المتحدة تحت عنوان (إفريقيا تواجه أزمة “غير مسبوقة” بسبب حرب أوكرانيا)، ما نتج عن تلك الأزمة تحديداً من ارتفاع في أسعار الوقود، وبقاء أسعار المواد الغذائية عند أعلى معدلاتها. ويعود ذلك الى اعتماد العديد من الدول الإفريقية على روسيا وأوكرانيا في استيراد المواد الغذائية، وهما من أكبر المصدرين لمختلف أنواع الحبوب، أهمها القمح. كذلك فرضت بعض الدول قيودا على تصدير المواد الغذائية بسبب تلك الحرب.
    وذكر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) أن الأسعار تراجعت بنسبة بسيطة بالنسبة للسلع الأساسية مثل الزيوت النباتية والحبوب، في حين وصلت أسعار اللحوم إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، كما ارتفعت أسعار منتجات الألبان. وكان مؤشر أسعار الغذاء العالمي قد ارتفع في مارس الماضي بنسبة 13% وهو أكبر ارتفاع له على الإطلاق، وذلك في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
    كذلك نشر د.أكينومي أديسينا رئيس مجموعة البنك الافريقي للتنمية مقالا عن آثار الحرب الروسية الاوكرانية على إفريقيا بقوله: “لم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى ألقت الحرب الروسية في أوكرانيا بظلالها على أفريقيا. وفي الوقت الذي كانت فيه أفريقيا تحاول بالفعل التصدي لارتفاع التضخم وهي ما زالت تتعافى من جائحة كوفيد-19، فهي تواجه الآن نقصا ما لا يقل عن 30 مليون طن متري من الأغذية، لاسيما منها القمح والذرة وفول الصويا المستوردة من روسيا و أوكرانيا). وذكر أديسينا أن البنك الأفريقي التنمية أدرك الحاجة لإستراتيجية فاعلة لمعالجة التأثير المدمر للحرب على الأمن الغذائي لأفريقيا، منعاً للاضطرابات والمزيد من المعاناة الإنسانية. وأشار كذلك إلى أنه في شهر مايو 2022م، أنشأ البنك صندوقا أفريقيا لإنتاج الأغذية في حالات الطوارئ بقيمة 1.5 مليار دولار. وفي أقل من ستين يوما، تم تنفيذ برامج إسعافية عبر الصندوق بقيمة 1.13 مليار دولار، وذلك في 25 دولة أفريقية. ومن المتوقع أن يبدأ تنفيذ ستة برامج بحلول سبتمبر مع تقدم المزيد من طلبات الحكومات للاستفادة من هذه البرامج. كذلك ذكر أن البنك الافريقي للتنمية لديه برنامج سُمِّيَ “التكنولوجيات من أجل التحول الزراعي الأفريقي” تم إطلاقه في عام 2018م، يقدم تقنيات في شكل أصناف محاصيل مقاومة لتغير المناخ، ولها بذور مقاومة للجفاف أو درجات الحرارة المرتفعة أو الحشرات.
    وتعد إثيوبيا مثالاً جيداً لقطر أفريقي إستخدم هذه التقنية، ويؤمل أن تصبح إثيوبيا دولةً مصدرةً للقمح في عام 2023م، حين ستبدأ بتصدير أكثر من مليون طن متري من القمح إلى دولتي كينيا وجيبوتي. ووفقاً لخبر في وكالة سونا للأنباء كان بنك التنمية الإفريقي قد أعلن في وقت سابق في عام مارس2020م أن السودان مؤهل لتحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول القمح والتصدير في المستقبل، وذلك خلال ورشة العمل المتحركة للوقوف على أنشطة مشروع تقانات من أجل النهضة الزراعية في إفريقيا الممول بواسطة بنك التنمية الإفريقي لتطوير زراعة القمح في السودان في مشروع الجزيرة. وفي تلك الورشة دعت نائبة رئيس بنك التنمية الحكومة السودانية لتعزيز الاهتمام بالزراعة والصناعة، كما دعت قطاعات المزارعين لتقبل التقانات الحديثة لرفع الإنتاج والعمل على الاستفادة من برامج التدريب. ويشير ذلك التصريح لنائبة رئيس بنك التنمية الإفريقي أن مشكلة السودان تنحصر في عدم وجود سياسات زراعية أو إستراتيجية حكومية قومية تضع حلولاً عاجلة للأزمات التي تعرقل المسار التنموي للزراعة تجاه قطاع زراعة القمح، وفي اتباع المزارعين لأساليب تقليدية في الزراعة.
    ووفقا للتقارير الرسمية، يستهلك السودان حالياً حوالي مليون طن من القمح سنويا، يأتي معظمها من دول البحر الأسود وروسيا، فيما يغطي الإنتاج المحلي حوالي 12 إلى 17% فقط من إحتياجات السوق المحلية. وجاء في موجز التجارة الخارجية الصادر عن بنك السودان المركزي خلال الربع الأول من العام الحالي2022م أن واردات السودان من القمح بلغت327 مليون دولار، وأن وارداته من طحين القمح (الدقيق) بلغت 39 مليون دولار. ويقوم السودان بتحمل دفع كل تلك الأموال لاستيراد القمح والدقيق على الرغم من توفر مقومات الزراعة الرئيسية والأمن الغذائي في أرضه، الذي به مساحات زراعية كبيرة، ومياه عذبة تبلغ 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، و10 مليارات من روافده، و400 مليار من مياه الأمطار، و5 مليارات من المياه الجوفية. وظل الاقتصاديون ينسبون دوماً تجذر مشكلة السودان الاقتصادية في أنه اتجه نحو الاقتصاد الريعي القائم على عوائد النفط والاهتمام بالصناعات النفطية دون الزراعية، حيث بلغ التراجع في القطاع الزراعي من 10.8% إلى 3.6% (وفق تقرير بعنوان الزراعة في السوان – الثروة الهائلة المهدرة – للكاتب الصحفي صابر الطنطاوي في 31/5/2022م) خلال حقبة ظهور النفط في التسعينيات. كذلك يعد من أسباب التراجع في الإنتاج الزراعي الإستمرار في إستخدام الطرق الإنتاج التقليدية التي تستنزف الجهود والموارد المائية وتزيد التكلفة.
    ويتصدر السودان قائمة الدول التي لا تستغل مواردها الطبيعية بصفة عامة، فهناك ملايين الأفدنة مهملة دون استغلال. فبحسب دراسة لمؤسسة “غولدمان ساكس” الأمريكية، فإن السودان يحتل المركز الأول في قائمة الدول التي تمتلك أراضٍ زراعية غير مستغلة، وذلك بمساحات تقترب من 80 مليون فدان، أي ما يعادل 47% من إجمالي مساحة البلاد الصالحة للزراعة.
    وفي أبرز ماورد في تقرير صدر في أبريل من عام 2022م عن الأمن الغذائي بالسودان (https://www.unocha.org/sudan) من المرجح أن يواجه أكثر من 18 مليون فرد بالبلاد عدم استتباب حاد للأمن الغذائي بحلول سبتمبر 2022م بسبب الآثار المشتركة للنزاعات، والأزمة الاقتصادية، ونقص المحاصيل، وذلك وفقاً لتقارير برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة. وقد تفاقم الوضع بسبب النزاع في أوكرانيا والذي تسبب في مزيد من الارتفاع في أسعار الغذاء، إذ يعتمد السودان على واردات القمح من منطقة البحر الأسود. لذا سيؤدي انقطاع تدفق الحبوب إلى السودان إلى زيادة أسعارها، وستتفاقم صعوبة استيراد القمح مع استمرار الحرب (غير أن هذا الأمر تغير لاحقاً – إذ تم اتفاق مع روسيا يسمح بتصدير القمح من أوكرانيا).
    وتبلغ الأسعار المحلية للقمح حالياً أكثر من 550 دولاراً أمريكيًا للطن – بزيادة قدرها 180 في المائة مقارنة بالمدة نفسها من عام 2021م. كذلك لاتزال النزاعات الداخلية، والأزمة الاقتصادية، وعدم استباب الأمن الغذائي، والفيضانات، وتفشي الأمراض، تشكل المحركات الرئيسية المسببة لزيادة الاحتياجات الإنسانية في السودان، إذ يحتاج 14.3 مليون شخص في البلاد إلى المساعدات الإنسانية، وفقاً لوثيقة “اللمحة العامة للاحتياجات الإنسانية في السودان لعام 2022م” التي أصدرها www.unocha.org/sudan)). ويشمل ذلك الرقم 9.3 مليون مقيم أكثر عرضة للمخاطر، و2.9 مليون نازح. وظل الوضع الإنساني في السودان مصدر قلق كبير، مع زيادة مطردة في مستويات عدم استتباب الأمن الغذائي، والمزيد من نزوح المدنيين ووصول المزيد من اللاجئين من البلدان المجاورة، لا سيما من جمهورية جنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا.
    وأعلن برنامج الغذاء العالمي في السودان في الوقت نفسه في 20 يونيو2022م أنه اُضْطُرَّ إلى خفض الحصص الغذائية للاجئين في جميع أنحاء البلاد بسبب النقص الحاد في التمويل. حيث يقدم برنامج الغذاء العالمي المساعدات بانتظام إلى أكثر من 550,000 لاجئ في السودان. وابتداءً من شهر يوليو، سيحصل اللاجئون على نصف سلة الغذاء القياسية فقط، سواءً أكانت أغذية عينية أو تحويلات قائمة على النقد. وجاء في تلك التقارير ما يفيد بأن حالات سوء التغذية آخذة في الارتفاع، بما في ذلك بين النازحين قسراً.
    ونشر برنامج الغذاء العالمي في منتصف يونيو 2022م تقريرا بعنوان”التقييم الشامل للأمن الغذائي والهشاشة في السودان”. ويذكر هذا التقرير أن الآثار المجتمعة للأزمة الاقتصادية والسياسية، والنزاع، والنزوح، والصدمات المناخية، وضعف المحاصيل أضرت بشكل كبير على إمكانية حصول الأشخاص على الغذاء في السودان. وبحسب تقرير التقييم الشامل للأمن الغذائي والهشاشة، ظل 34% من السكان (أي حوالي 15 مليون شخص) يعانون من عدم استتباب الأمن الغذائي خلال الربع الأول من عام 2022م. ويمثل هذا الرقم زيادة 7 % مقارنة بالمدة نفسها في عام م2021، عندما كان 27 % من السكان (أي حوالي 12 مليون شخص) يعانون من عدم استتباب الأمن الغذائي.
    يتبين مما سبق ذكره أن السودان يحتاج لصياغة سياسة زراعية واضحة المعالم تجاه السلع الاستراتيجية، تتمثل في عدة محاور رئيسية: أولها حماية الموارد الطبيعية من خلال الممارسات المستدامة لاستخدام الأراضي، مثل استخدام الزراعة المحمية لتجنب تآكل التربة وتدهور الأراضي، والاهتمام بالتنوع الحيوي عبر منهج متكامل للأنظمة البيئية، وتطوير خدمات النظام البيئي، وتحسين إدارة المواد الكيماوية، وضبط إمدادات الطاقة والأسمدة، وإزالة السياسات التي تعوق عمليات التصدير والاستيراد، أو تحويل المحاصيل الغذائية. وعلى الدولة إجراء إصلاحات هيكلية في نظام المؤسسات الزراعية والبحثية، لتسهيل ولتوزيع المدخلات الزراعية، ولإنتاج المحاصيل بأسس علمية. ومن الواجب أيضا أن تولي الدولة اهتماما خاصا بالمزارعين بتوفير المعلومات التقنية لهم مع توفير المعارف اللازمة لتحسين الزراعة وتفعيل نظام الجمعيات التعاونية غير الربحية التي تهدف إلى توفير المدخلات والآليات، بالاستفادة من الامتيازات الواردة في القانون من الإعفاءات من الضرائب والرسوم الجمركية. كذلك إدخال نظام التأمين على القطاع الزراعي للتخفيف من آثار الخسائر المحتملة لفشل بعض المواسم الزراعية، حيث تلاحظ إنسحاب بعض المزارعين من القطاع إلى قطاعات أخرى ذات خسائر أقل.
    وغني عن القول أن السودان في حاجة ماسة إلى إستثمارات مناسبة ومدخلات إنتاج أكثر من احتياجه إلى مجرد معونات غذائية. ويحتاج السودان أيضاً لمعالجات طارئة للتحديات العالمية المزدوجة المتمثلة في الصراعات وتغير المناخ، كي تساعد في تقليل التكلفة التشغيلية، وزيادة الإنتاجية، والعائد، وإيقاف هدر المياه والمساحات المزروعة، وذلك باستخدام الطرق العلمية المعتمدة على بحوث زراعية في مختلف المجالات ذات العلاقة. وتعتبر فترة الحصاد ومعيناته بنداً في غاية الأهمية حيث يتعرض المزارعون لخطر الخسائر نتيجة لعدم وجود الدعم المناسب للحصاد قبل الزراعة وبعدها، من بناء مرافق محلية للتخزين، وتوفير آليات النقل بما في ذلك سلسلة التخزين في المبردات لحفظ الأغذية.
    وأخيراً، يتبقى على الدولة تحسين الاستفادة من “بنك التنمية الافريقي” عبر الصناديق الاستثمارية للحصول على تمويل للمشروعات الزراعية والانتاجية، الاستفادة من عضوية إتفاقية التجارة الحرة الافريقية والمزايا التفضيلية التي تقدمها للصادرات والواردات.

nazikelhashmi@hotmail.com

التعليقات مغلقة.