الإصلاح الإداري بين القصور المعرفي والعجز الفني

الإصلاح الإداري بين القصور المعرفي والعجز الفني
  • 18 نوفمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. نازك حامد الهاشمي

تختلف التحديات الاقتصادية التي تواجه الأقطار المختلفة من قطر إلى آخر، وفق عوامل منفردة أو مجتمعة، حيث تواجه بعض الدول ضعفاً في توازن الهياكل الإنتاجية وعدم أو قلة التنوع في الموارد؛ بينما يسود في دول أخرى سوء إدارة الموارد وعدم وجود استقرار في معدلات النمو؛ بالإضافة إلى الإفراط في وضع القيود والتعقيدات الإدارية، وينعكس كل ذلك على منظومة العمل في الدولة المعينة. ودائماً ما يتأثر القطاع العام وبشكل مباشر بهذه التعقيدات لارتباطها بعوامل أخرى في الدولة، سواءً أكانت اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، أو حتى تاريخية. وهذا ما دعا الكثير من دول العالم للاهتمام بدور الحكومات وآليات عملها عبر نظريات ومفاهيم جديدة. وأصبح علم الإدارة يستخدم معياراً لإعادة تقييم الأداء الحكومي ومنظومة القطاع العام، ولأغراض إرساء أسس الإصلاح الإداري عن طريق العمل على تطوير الأداء من خلال زيادة الفعالية والكفاءة وتقليل التكاليف. ويأتي دور الإصلاح الإداري كعنصر أساسي في عملية مواجهة هذه التحديات، حيث يؤدي القطاع العام دوراً أساسياً في عملية التخطيط للتنمية وفي تنفيذ السياسات التنموية بكفاءة وفعالية. وبصورة عامة يمكن أن يعد القطاع العام هو القطاع الأشد تأثيراً ، وبشكلٍ مباشر، في تحقيق تقدم أو تراجع الجهود التنموية في أي بلد (خاصة في البلدان النامية).
وتعددت مؤخراً المفاهيم العامة لمفهوم الإصلاح الإداري باختلاف مدارس الإدارة العامة والباحثين في علم الإدارة. غير أن المفهوم الشامل لتعريف الاصلاح الإداري يعبر عن الأدوات القوية الفعالة عند الحكومات، والتي تهدف إلى تطوير عملياتها وسياساتها بما يحقق أهدافها، مع العمل على التخلص من السياسات القديمة أو السلوكيات المعيقة للتطوير المهني وتطوير المورد البشري. وفي مدارس أخرى، يُعرف الإصلاح الإداري بأنه عملية إعادة هندسة العمليات الإدارية، عن طريق تطوير نظمها وإتباع المناهج والأساليب العملية لتحقيق مستوى عالٍ من الكفاءة والابتكار، بما يتناسب مع المتغيرات الداخلية والخارجية.
ويتطلب الإصلاح الإداري داخل أي مؤسسة أو دولة وجود أهداف مرتبطة بالاستراتيجية العامة على مستوى المؤسسات أو الحكومات؛ حيث أن تحديد الإطار المهني يُعد من أولويات عملية الإصلاح، يحد من الانخراط في خطط وعمليات غير مدروسة، أو حتى غير مناسبة، للمرحلة الحالية. ودائما ما ترتبط الاصلاحات الادارية وتتوائم مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلد المعين. كما يجب أن يكون ذلك متسقاً مع رغبات المواطنين سواء أكانوا من العاملين أو من الجمهور المستهدف. وتتركز هذه الإصلاحات على تعزيز حزم من القيم والمبادئ في العمليات الإدارية وصولاً للأهداف من دون تعقيدات. كذاك تركز هذه الإصلاحات على الأداء الجماعي لمنظومة العمل لتحقيق العدالة وتعزيز الإنتاجية والتطوير الشخصي الذي يبرز الإبداع والمبدعين، ويعتمد نهج المرونة والتقليل من البيروقراطية، إذ أن الإصلاح في أساسه يستهدف منظومة العمل ككيان متكامل، يعمل على بسط أدوات تحمل المسئولية، ويرفع من الالتزام بالأداء الوظيفي، ويقوي الولاء المؤسسي، مما ينعكس مباشرةً على جودة الخدمات المقدمة للجمهور المستهدف. ومعلوم أن الجهود الإصلاحية تتطلب إصدار العديد من الأنظمة والقواعد التي تقنن شؤون الدولة والمواطن، وتحدد كيفية تشكيل المجالس واللجان والمنظمات الإدارية والمهام المحددة و ترجمة هذه الأنظمة إلى واقع حقيقي. وفي الإطار الإصلاحي تسعى كثير من الدول إلى الاستفادة من خبرة وتجارب الشعوب والمنظمات الدولية الأخرى التي كان لها تجارب ناجحة في هذه المجالات.
ومن المسلم به أن الإدارة هي المدخل الأساسي لتحقيق التنمية، وذلك بمقاييس عدة منها سرعة استجابتها لتنفيذ الخدمات، وتحسين المردود المالي من الخدمات الذي دائما ما يوصف بالضعف بالمقارنة بالموازنة والربط المتوقع منه. ويتطلب هذا إجراء حزمة من الاصلاحات مرتبطه بتقليل الممارسات الفاسدة ، أو الحد منها لأقصى درجة، عبر ترشيد صرف الموارد، وإرساء قواعد الحكم الرشيد الذي يرتبط مباشرة بالمساءلة، وتبني مبدأ الشفافية والالتزام به. كذلك للإصلاح الإداري أسس وملامح عديدة ينبغي أن تكون واضحةً لكافة الأطراف، سواءً أكانوا عاملين أو مستفيدين منها، وتفعيل قانون حماية المبلغين، وتوفير نوافذ للشكاوى، ونظام التفتيش الدوري على مستوى الخدمات المقدمة للجمهور. ومن جانب آخر هناك العديد من المتطلبات التنظيمية الأخرى التي تعتبر إطاراً عاماً للإصلاح الإداري، مثل وجود هيكل تنظيمي واضح يحدد العلاقة فيه، والاهتمام بتدريب وتأهيل الموارد البشرية، إضافة إلى تحسين النظام الأساسي في التوظيف والترقية المبني على منع ممارسة الاقصاء المربوطة بمصالح ذاتية أو عقائدية أو سياسية أو غير ذلك. ويتضمن الإصلاح الإداري إصلاح منظومة الأجور، وذلك بالحد من الفوارق الشاسعة بين الأجور العليا والدنيا، ومعالجة انعدام الرضا الوظيفي لغياب مقوماته من راتب مجزي وحوافز تشجيعية وبيئة عمل جاذبة، وتقييم صادق ونزيه وشفاف للأداء، وتوفير الاستخدام الأمثل لتكنولوجيا المعلومات وتطوير منظومة الإدارة الرقمية.
لقد أدركت البلدان الأفريقية أهمية الاندماج مع المتغيّرات الاقتصادية العالمية المتسارعة، وبناء قارة يسودها القانون وتحكمها مؤسسات رشيدة تحقيقاً للتطور والرفاه الاقتصادي. و تعتبر ” رؤية 2063م”، التي وضعتها منظمة الوحدة الإفريقية في عام 2013 م وثيقة عمل واستراتيجية مستقبلية شاملة، وخطّة طموحة لتغيير أفريقيا نحو الأفضل على مدى الخمسين سنة المقبلة. كما تهدف الوثيقة لتحسين استخدام موارد أفريقيا لصالح جميع الأفارقة، وتجديد أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتكون في خدمة المواطن الأفريقي. وتركّز “رؤية 2063م” على إشراك المواطنين في الشأن العام وصناعة القرار، وتمكينهم من أسباب المبادرة والقيادة. كذلك من أهداف تلك الاستراتيجية العمل على تحقيق الشراكة الجديدة بين دولها لتحقيق التنمية القارية، التي من شأنها أن تجعل أفريقيا قارةً أكثر قدرة على التكيف وأكثر حداثةً. وتعتبر جمهورية مصر من الدول الإفريقية التي تعمل من خلال ما يطلق عليه “أداة التخطيط والتقييم المدمجة”، حيث تعمل على الدمج والمؤامة بين رؤية الأمم المتحدة لعام 2030م، ورؤية 2063 الإفريقية، على مستوي كل من (الأهداف – الغايات- المؤشرات). ولديها تقارير منشورة باستخدام تقنية ‏”الإنفوجراف”(Information Graphics)، الذي يوضح عملية متابعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة الأممية، عبر مؤشرات قياس الأداء حيث بلغت حوالي 232 مؤشرًا، شاملة (بها مؤشرات وطنية، وأخرى عالمية). وتهدف هذه التقنية إلى تفعيل المتابعة والتقييم، بحيث تكون ضمانةً أكيدةً لتنفيذ البرامج والمشروعات، التي ‏تضمنتها الاستراتيجية في التوقيت الزمني المحددة لها. ومعلوم أن ورؤية التنمية المستدامة لعام 2030م، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015م، تستند إلى سبعة عشر هدفاً من أهداف التنمية المستدامة التي تنبثق منها أهداف فرعية تجمع 169 هدفاً، و232 مؤشراً، تغطي مجالات متنوعة من الأهداف، تتضمن ، على سبيل المثال، التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية البيئة. ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة – اللجنة الافريقية في فبراير2020م – لم يتحقق حتى عام 2019م ، سوى نحو140 مؤشراً، من إجمالي 232 مؤشراً من أهداف التنمية المستدامة لدى 8 بلدان أفريقية فقط (هي أوغندا، تنزانيا، توغو، جنوب أفريقيا، غانا، مصر، ملاوي والنيجر).

‏ ولمحاولة الإصلاح الإداري في السودان تاريخ يعود إلى أوائل خمسينيات القرن الماضي، حين أُنشئ مكتب للتنظيم وأساليب العمل في ديوان شؤون الخدمة بمصلحة المالية بوزارة المالية عام 1952م .ثم أنشئت وزارة للخدمة العامة والإصلاح الإداري عام 1971م. وبحسب ما ورد في موقع الحكومة الالكترونية تحتوي الوزارة على عدد من الوحدات المختلفة هي: المجلس الأعلى للإصلاح الإداري وديوان شؤون الخدمة والمؤسسة العامة للثقافة العمالي والمجلس الأعلى للتدريب المهني والتلمذة الصناعية والأمانة العامة للمجلس القومي للتدريب وأكاديمية السودان للعلوم الإدارية ومركز تطوير الإدارة والمركز القومي للتدريب والنظم الإدارية والجهاز القومي لتشغيل الخريجين. ثم تم إصدار قانون الخدمة المدنية القومية لسنة 2007م، وذلك بعد إنفاذ الدستور الانتقالي لسنة 2005م.
ويظهر الواقع الإداري الحالي في السودان أنه يحتاج إلى تحسين وتحديث من عدة أوجه لأغراض التسيير الإداري وتحديث المؤسسات العمومية، حيث أنه ًيتسم حالياً بكثرة الروتين الذي ينعكس سلباً في الأداء العام، وبالتالي يقلل من عملية الانجاز على كل المستويات، ويهدر الكثير من الوقت والجهد والمال. ومعلوم أن القطاع العام يعتبر نواة أساسية للإصلاحات في كافة المجالات الأخرى. فالإدارة الرشيدة للاقتصاد لا تقتصر على السياسات والقوانيين المصاغة فقط، بل تتطلب وجود آلية ونظم للتطبيق السليم وفق أسس علمية ومعرفية بعلم الإدارة والتخطيط الإستراتيجي. وينبغي للسودان (وكل الدول النامية) وضع سياسة للإصلاح الإداري مبنية على أسس علمية واقعية، وأكثر فعالية لتواكب روح التجديد والتحديث والتطوير، عبر جهاز إداري قوي تقوده الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي تعمل على مراجعة السياسات الادارية التي قادت من قبل إلى التعثر والفشل. كذلك يتطلب الإصلاح الإداري وجود دوافع محددة، سواءً أكانت داخلية أو حتى خارجية. فعادة ما تكون دوافع الاصلاح الإداري الداخلية هي نتاج لعدة عوامل عدة منها الأوضاع السياسية في الدولة التي تحيطها مطالبات مبنية على مشروع إصلاحي شامل، حيث أن الاختلالات الادارية هي العثرة في تحقيق خدمة الصالح العام، باعتبارها أولوية للإصلاح الشامل وللأوضاع الاقتصادية في الدولة. كذلك ترتبط الدوافع الخارجية للإصلاح الإداري المرتبطة بمتطلبات المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، من خلال مقترحاتهما بضرورة إعادة هيكلة النظام الإداري لأغراض تطبيق برامج القروض والاستفادة منها. كذلك تشمل دوافع الإصلاح الإداري كل ما يتعلق بالاستجابة للاندماج المالي العالمي، وظاهرة العولمة وما خلفته من قضايا تهم العالم كافة ومؤسساته المالية وغير المالية، مثل الشفافية والديمقراطية وضمان حقوق الإنسان.
ومن أجل جعل الاصلاح الاداري فعالاً في السودان، ينصح الخبراء بإعادة صياغته في عدة مراحل للتنفيذ، منها التخلص من التركيز الاداري المركزي، وإزالة كافة أشكال التسلط الإداري وتمركز القرارات الادارية المنحازة لجهة على حساب جهات أخرى، ومكافحة الفساد الاداري الناتج عن ممارسات غير مشروعة خارجة عن القانون. كذلك يُنصح بالعمل على منع تمركز اتخاذ القرارات لدى جهات دون الأخرى، مما يعيق التوجهات الصحيحة الناجحة نحو التطوير المستمر، ويحول دون تحقيق الأهداف المطلوبة. كذلك يُعد التخلص من ضعف إنتاجية الموارد البشرية من الأمور الجوهرية، الذي يعود إلى نقص في الكوادر الادارية المدربة، ووسائل التكنولوجيا و الانظمة الادارية الداعمة بالطرق الحديثة. كذلك ينبغي التكيف مع التقنية والمتغيرات المطلوبة في السلوك الاداري، والعمل على الحرص على تعيين كفاءات إدارية تمتلك القدرات الإبداعية، واستبعاد تلك التي تعمل وفق رؤية مقاومة للتجديد الاداري الناجح.
نخلص إلى أن الاصلاح الاداري في السودان يتطلب النظر إليه على أنه جهد إداري واقتصادي وسلوكي مجتمعي. ويهدف هذا الجهد لإحداث تغييرات أساسية ايجابية في السلوك والنظم والعلاقات والاساليب، تحقيقا لتنمية قدرات وإمكانات الجهاز الاداري في الدولة كافة بقطاعاته الخاصة والعامة، بما يكفل درجة عالية من الكفاءة والفعالية في انجاز الاعمال؛ مع إيلاء موضوع الثقافة الإدارية والتنظيمية الأهمية المستحقة التي تكرس المفاهيم والقيم والأخلاقيات الإدارية التي تتماشى مع مصلحة المجتمع والمنظمات الاقتصادية والعاملين فيها على المدى الطويل، وذلك من خلال صياغة مراحل تهدف لتأمين الانتظام القانوني لحماية حقوق المواطن.

nazikelhashmi@hotmail.com

التعليقات مغلقة.