(1)لا للحرب في السُّودان: الرأي والرأي الآخر

(1)لا للحرب في السُّودان: الرأي والرأي الآخر
  • 21 يونيو 2023
  • لا توجد تعليقات

أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

أفرزت الحرب الدائرة بين القوات المُسلَّحة وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وبعض المدن الولائية تباينًا حادًا في مواقف السُّودانيين، إذ نادى فريق منهم باستمرار الحرب دون قيد أو شرط، وطالب آخر بإيقافها الفوري؛ واستند المروجون في المعسكرين إلى ثنائية “نحن” و”هم”، الاقصائية في قاموس السياسة السُّودانية، دون أن يفككوا المسوغات الكامنة وراء الحرب والمحركة لها محليًا وإقليميًا ودوليًا، ويسألوا أنفسهم إلى أي مدى يخدم استمرار الحرب أجندة الوطن، الذي يفترض أن يسع الجميع، ويتجادل المتنافسون في إدارة شأنه العام ديمقراطيًا، بعيدًا عن منطق القوة العسكرية، الذي حكم السُّودان قرابة الخمسة عقود، ولم يلبي تطلعات بناته وابنائه المشروعة، والدليل على ذلك أنهم ثاروا على الأنظمة العسكرية في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وديسمبر 2018؛ لكنهم لم يفلحوا في إدارة عملية الانتقال الديمقراطي بكفاءة سياسية؛ لأنهم شغلوا أنفسهم بالمحاصصات الحزبية، الناقضة لغزل التحول الديمقراطي. نحاول في هذا المقال أن نجيب عن بعض الأسئلة المفتاحية، التي ربما تفتح آفقًا للحوار الإيجابي الجاد وسماع الرأي والرأي الآخر: من هم المؤيدون للحرب والداعون لاستمرارها، ولماذا؟ ومن هم الذين ينادوا بإيقافها الفوري، وما المبررات الإنسانية والسياسية التي يستندون إليها، وما المشروع الذي يطرحونه لتجاوز الأزمة الراهنة؟ وهل من قواسم مشتركة بين الفريقين يمكن استثمارها في معالجة الأزمة وتداعياتها تحت شعار “الكل يكسب”؟ والمقصود بالكل هو الشعب السُّوداني الجريح.

(2)
من هم المؤيدون للحرب؟
لا يهم في هذه المرحلة الحديث عن الذي أطلق الرصاصة الأولى؛ لكن كل المؤشرات تشير إلى تنامي قوات الدعم السريع عددًا وعدةً وعتادًا وتمركزًا داخل العاصمة الخرطوم خلال الثلاث سنوات الماضية، الأمر الذي جعلها طامعة في الاستيلاء على السلطة، أو المشاركة الفاعلة في إدارة الدولة إذا وفر لها الاتفاق الإطاري حاضنة سياسية، أو على أقل تقدير أن تظل منافسًا قويًا للقوات المُسلَّحة. وهنا مربط الفرس، حيث تصاعدت حدة الصراع بين المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع التي نشأت وتطورت تحت رعاية قياداتها العليا، وتجسَّدت ذروة الصراع بين الطرفين في اندلاع الحرب الدائرة اليوم في الخرطوم وبعض المدن الولائية، وتداعياتها على المشهد السياسي وانعكاساتها السالبة على النسيج الاجتماعي في الأماكن المتأثرة بنيرانها وعصابات سلبها ونهبها المرافقة. وفي ضوء هذه الخلفية ينقسم المؤيدون لاستمرار الحرب إلى ثلاث مجموعات. تفترض المجموعة الأولى أن الحرب ستقضي على قوات الدعم السريع “المتمردة” دون النظر إلى كلفتها المادية والبشرية وطول أمدها واتساع أفقها؛ تعللًا بأن القضاء المبرم على قوات الدعم السريع و”الخونة” من جنرالات الجيش لاحقًا ربما يفسح المجال لعودة النظام القديم. وترى المجموعة الثانية إن استمرار الحرب ربما يدمر مرتكزات دولة السُّودان القديمة، ويكسر شوكة النخبة النيلية المسيطرة على مقاليد السلطة والثروة في المركز منذ الاستقلال والمهمشة للأطراف تهميشًا ممنهجًا. ويمثل المجموعة الثالثة الغاضبون على قوات الدعم السريع التي أخرجتهم عنوةً من ديارهم، وجعلت ممتلكاتهم عرضةً للنهب والسلب والإحراق. ومن الشواهد الدالة على ذلك التسجيل المتداول لرجل الأعمال محجوب يحيى الكوارتي، الذي أجبرته قوات الدعم السريع على مغادرة دياره، وعاثت فسادًا في ممتلكاته وممتلكات غيره من الأقارب والمعارف، ولذلك ساند معسكر استمرار الحرب، ونادى بضرورة القضاء المبرم على قوات الدعم السريع عن طريق القوات الجوية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير كل البيوت والمرافق العامة التي تتخندق فيها.

(3)
مَنْ المنادون بإيقاف الحرب؟
ينقسم معسكر الذين ينادون بإيقاف الحرب إلى ثلاث مجموعات. ترى المجموعة الأولى أن إيقاف الحرب ربما يعيد عجلة العمل السياسي إلى فترة ما قبل 15 أبريل 2023، فلا جدال في أن هذا المطلب الطموح مطلب بعيد المنال؛ لأن اندلاع الحرب قد غيَّر قواعد اللعبة السياسية وأفرز مناخًا جديدًا، يجب التعامل معه بطريقة مختلفة. وتمثل المجموعة الثانية حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السُّودان (2020)، التي لم يعلن أعضاؤها في المجلس السيادي (الطاهر حجر، والهادي إدريس، ومالك عقَّار)، أو مني أركو ميناوي، حاكم دارفور، أو جبريل إبراهيم وزير المالية والتخطيط، موقفًا صريحًا ومناهضًا لقوات الدعم السريع، ولم يصفوا قوات الدعم السريع بأنها “قوات متمردة، أو ميلشيات خارجة عن القانون”، كما نعتها نظراؤهم في الحكومة والقوات المُسلَّحة، بل آثروا التقية، وأعلنوا أنهم وسطاء لإيقاف الحرب. والدليل على ذلك البيان الذي أصدره مالك عقَّار، بعد تعيينه نائبًا لرئيس المجلس السيادي، حيث قال: إن تعيينه في منصب نائب رئيس مجلس السيادة “ليس بديلًا لأحد ولا انحيازًا لأي طرفٍ غير السُّودان ومصلحة مواطنيه أولًا وأخيرًا”. وذكر أنَّ أولى أولويات شركاء السلام (أي حركات الكفاح المُسلَّحة الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السُّودان)، هو العمل على إيقاف الحرب بصفة دائمة، وأنه سيسخِّر كل خبراته السابقة، ومعرفته “بتفاصيل النزاع والخلاف بين القوات المتقاتلة”، ويتعاون مع كافة أبناء الشعب السُّوداني وأصدقاء السُّودان في المجتمع الإقليمي والدولي؛ لتحقيق هذه الأولوية. وذكر أنَّ الأولوية الثانية تتجسَّد في “استكمال مسار التحول المدني الديمقراطي، الذي رفعت راياته ثورة ديسمبر المجيدة، على أُسس تضمن مشاركة جميع السُّودانيين دون إقصاء”، مع “استصحاب تجارب وخبرات السُّودانيين العديدة”. كما توجه برسالةٍ إلى قيادة القوات المُسلَّحة مفادها أنه “لا بديل للسلام إلا السلام” و”لا مدخل للسلام إلا من باب الحوار”؛ ورسالة أخرى إلى قائد قوات الدعم السريع مقصدها أنه “لا بديل لاستقرار السُّودان إلا عبر جيش مهني واحد وموحد، يراعي التعددية السُّودانية.”
وتحاول المجموعة الثالثة أن تضع مشروعًا سياسيًا مكملًا لرسائل مالك عقَّار، يستند إلى المرتكزات الآتية:
أولًا: يجب أن يخاطب المشروع الأسباب التي قادت إلى اندلاع الحرب، ويجردها من مشروعيتها، ويعيد إحياء مطالب ثورة ديسمبر 2018، الداعية إلى الديمقراطية والحرية والسلام والعدالة بضروبها المختلفة.
ثانيًا: أن تكون عملية إعمار ما دمرته الحرب ذات شقين. يقوم شقها الأول على معالجة سؤال كيف يُحكم السُّودان على المستويين المركزي والولائي؟ ويُؤسس الشق الثاني على مفهوم التنمية المتوازية ورفع المظالم التاريخية في الولايات المهمشة. ويجب أن تكون عملية إعادة إعمار الخرطوم فيها نوع الابتكار والاستئناس بتجارب الدول الأخرى الناجحة، ويأتي في مقدمتها إخلاء وسط الخرطوم من المؤسسات العسكرية والمؤسسات الصناعية (الخرطوم بحري) والمطار الدولي، الذي أضحى غير مواكبٍ لحركة الملاحة الجوية. ويرافق ذلك البحث عن عاصمة إدارية وتنفيذية جديدة، بمعنى أن تظل الخرطوم عاصمة سياسية (أو دستورية)، حيث تحتضن مؤسسات رأس الدولة والبعثات الدبلوماسية.
ثالثًا: مراجعة اتفاق جوبا لسلام السُّودان في ظل المتغيرات التي أحدثتها الحرب، وأن تكون المراجعة بمشاركة شركاء السلام والحركات المُسلَّحة التي لم تُوقِّع عليه (الحركة الشعبية شمال-جناح عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السُّودان-جناح عبد الواحد نور)، وبعض الخبراء في مجال فض النزاعات وتسوية الخصومات السياسية.
رابعًا: تأهيل القوات المُسلَّحة من حيث الدور الوظيفي والتكوين الذي يراعي التعددية السُّودانية، وبموجب ذلك يتم تسريح قوات الدعم السريع وجيوش الحركات المُسلَّحة، ودمج أفرادها المؤهلين وفق إجراءات ومعايير متعارف عليها دوليًا.
خامسًا: محاسبة كل الذين ساهموا في اندلاع هذه الحرب، أو قادوا حملات التشريد والنهب والتخريب المنظمة، وبموجب ذلك يجب ألا يكونوا جزءًا من الحلَّ المستدام.

(4)
خلاصة
أثبتت هذه الحرب أنَّ دولة السُّودان الموروثة من المُسْتَعمِر وأنظمة حكمها التي نشأت بعد الاستقلال (1956-2023) لم تكن قادرة على إدارة الشأن الوطني العام برشدٍ وكفاءةٍ مهنيةٍ؛ ولذلك يجب التغيير والبحث عن بديل أفضل لحكم السُّودان. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا اعترفت النخب السياسية بفشلها المتراكم وتنازلت عن مصالحها القطاعية الضيقة، وأعطت الأولوية للشأن العام الذي يخدم مصالح الجميع، وفق رؤية ورسالة وأهداف ومبادرات مقصدها الأول بناء سودانٍ جديدٍ؛ يلبي طموحات الأجيال الصاعدة التي خرجت في ديسمبر 2018، مناديةً بالحرية والسلام والعدالة. وعليه يجب أن تدرك كل الأطراف المتصارعة أن استمرار هذه الحرب أو إيقافها الفوري يقتضي في المقام الأول تفكيك جذور الأزمة التاريخية وفهم تداعياتها الراهنة، لوضع حلول موضوعية مستدامة، يشترك في صنعها كل أبناء وبنات السُّودان حسب مجالات تخصصاتهم المعرفية والمهنية وخبراتهم السياسية والإدارية، للخروج من نفق هذه الأزمة المظلم، وبذلك يستطيعوا أن يحوِّلوا الأزمة إلى انتصار، قبل أن يصبح السُّودان أثرًا بعد عين. وكذلك يجب أن يعلم الجميع أنَّ فترة ما بعد الحرب ليس من المتوقع أن تعيد عقارب الساعة السياسية إلى الوراء؛ بل يجب أن يفكر أبناء وبنات السُّودان بطريقة جديدة؛ لتأسيس نظام حكمٍ راشدٍ، بعيدًا عن تجاربهم السابقة وتجارب أسلافهم، التي قادت السُّودان إلى هذا الدرك السحيق من المعاناة. ومن الناحية الإجرائية والتنفيذية يحتاج الأمر إلى تشكيل جبهةٍ وطنيةٍ عريضةٍ، من كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي السُّوداني، التي تؤمن بضرورة إيقاف الحرب الفوري، والبحث عن حلولٍ إيجابيةً، تنقذ البلاد من أزمتها الراهنة. وتشكيل الجبهة الوطنية يقطع الطريق أمام المفاوضات الثنائية-التقليدية بين طرفي الصراع، والتي أثبتت التجارب بأنها لا تنتج سوى الحلول الترقيعية المُؤجِلة لإنتاج الأزمة؛ لأنها في جوهرها تصب في أوعية صُنَّاع الأزمة أنفسهم على حساب السواد الأعظم من الناس. ودخول الجبهة الوطنية كشريك أصيل في حل أزمة السُّودان، يفسح المجال لحلول مستدامة، تقدم المصلحة العامة على حساب المصالح القطاعية والحزبية الضيقة. وإذا تشكلت هذه الجبهة الوطنية يجب أن تبادر بوضع أجندة المفاوضات، التي تنص على إقرار الديمقراطية أداة لتداول للسلطة السلمي، ووحدة القوات المُسلَّحة لحفظ الأمن القومي للبلاد، والتنمية المتوازنة لتضيِّق الفجوة بين المركز والهامش، وإدارة التنوع لتوظيف التعدد الثقافي والاجتماعي والأثني توظيفًا إيجابيًا. فالسُّودان بلد غني بموارده الطبيعية والبشرية؛ لكن يعاني من سوء الأداء الإداري والتنفيذي؛ ولتجاوز هذا الفشل المتراكم، يجب أن يتسلح أبناء وبنات السُّودان، الذين يمثلون الحاضر والمستقبل، بمأثرة “على أهل قدر العزم تأتي العزائم”.

ahmedabushouk62@hotmail.com

التعليقات مغلقة.