عند الكرمك (1987م) نذود عن حياض وطن تلتحم فيه الحرية بالعدالة الاجتماعية (3)

عند الكرمك (1987م) نذود عن حياض وطن تلتحم فيه الحرية بالعدالة الاجتماعية (3)
  • 10 يوليو 2023
  • لا توجد تعليقات

د. علي عبدالله إبراهيم

يعتزل دعاة “لا للحرب” من غالب صفوة الحرية والتغيير القوات المسلحة بزعم أنها مليشيا أسوة بالدعم السريع. فنزعوا عنها بهذا صفتها المؤسسية في الدولة وساووها بجيش خلاء. بل ويزيد بعضهم بالقول بأنها قد زجت السودان في حروب عوان منذ الاستقلال. وينسى هؤلاء يوماً كانوا فيه مع القوات المسلحة تحت الرئيس نميري بطوائفهم من شيوعيين واشتراكيين وحداثيين ومستقلين وحجزوا لشبابهم المواقع في كليتها الحربية. واختار بعضهم أن يغادر النميرية في توقيته الخاص وبقي منه من بقي حتى مصرع النظام.
أما النقطة التي رأيت بها إعادة نشر هذه الكلمة الراجعة إلى 1987 فهو للتذكير بأن اعتزال القوات المسلحة عند دوائر الحرية والتغيير عادة. فاعتزلوها حتى حين كان الظرف مواتياً للإحسان لها. وفي المقال القديم هذا قيمت المعني السياسي والرمزي لاستعادة مدينة الكرمك بجنوب شرق البلاد من قبضة الحركة الشعبية في ديسمبر 1987. وهي المعاني التي غابت عمن سميتهم ب”اليسار الجزافي” الذي اصطف مع الحركة الشعبية. فأخذت على الحركة الشعبية تصعيد الحرب بلا ضرورة بعد اضرابها الغرير عن المشاركة في ديمقراطية استعادتها الجماهير بشق الأنفس في ثورة 1985 لتمنينا بديمقراطية أخرى في سودان جديد ورتنا في اليوم العلينا منه”جديد ما كان على بال” في جنوب السودان. وقلت في كلمتي أن المدن في الديمقراطية تسقط ببطاقة الاقتراع لا بفوهة البندقية. ولم يتفق معي الجزافيون بل شهلوا أنفسهم زرافات ووحدانا للانخراط في جيش الحركة الشعبية لقتال القوات المسلحة.
فليس توقف قوى الحرية والتغيير إجمالا دون الجيش حرباً له، أو عزوفاً عنه في حربة، بجديد. لم تحل بينهم ديمقراطية 1986 التي جاء بها الشعب عنوة من الانخراط في حركة ضل بها غرور السلاح وأضغاثه من أن ترى نفسها وقضاياها فيها حتى وصفت الثورة بأنها لم تنتج إلا “مايو 2”. وعليه فلا أرى حدثاً في تعلل قوى في الحرية والتغيير بأن القوات المسلحة هي مليشيا أخرى ليعتزلوها ويرموا مع جيش خلاء من أي نوع إيجابياً مع مثل قرنق والحلو وعقار وخليل إبراهيم وأركو مناوي وعبد الواحد والعشرة الكرام، أو سلبياً كحالهم مع الدعم السريع. فعقيدة هذه الجماعة منذ حين أن تنظر أين تقف القوات المسلحة وأن اتخذ موقع الضد منها).
وننظر في الحلقة من المقال إلى المسألة الاجتماعية والثقافية من وراء الدعوة إلى استعادة الكرمك من قوات الحركة الشعبية في 1987. وأرغب في تنبيه القارئ إلى التوقف قليلاً عند معالجتي لموضوع سبيل تسرب الشعار الديني الجهادي إلى القوات المسلحة بعوامل أخرى غير تأثير الحركة الإسلامية وحده.

تدور الخطة الإعلامية العامة لاستعادة مدينة الكرمك من قبضة الحركة الشعبية لتحرير السودان حول الفكرة الوطنية. وقد لاحظ كل من الريفي ومحمد الحسن محمد سعيد ضعف الاستجابة لنداء الوطن في حال استعادة الكرمك بالمقارنة مع الذي جرى حول استعادة حلايب من مزاعم مصرية بملکيتها عام ١٩٥٧. وقد ارتاب كتاب جنوبيون من الجهة الأخرى من حجم الشعور الوطني (الشمالي) الذي فجرته الكرمك وهو حجم لم يلمسه أولئك الكتاب حين سقطت الجيكو وغيرها من مدن الجنوب لقوات قرنق. وهذا الخلاف عينة فقط في الشقاق الكبير حول تعريف ما هو الوطن؟ لمن؟ وبأي محتوى؟ وهو خلاف ترتب على ولوج قطاعات سكانية متباينة الأعراف والثقافات دائرة السياسة السودانية حديثاً. وهو دخول هز هذه الصورة وحيدة الجانب للوطن التي حملتها الجماعات العربية الإسلامية بمعاناة طويلة، وبنجاح كبير، وبتقصير كبير.

واضح أن فكرة الوطن المجردة كأداة للتعبئة قاصرة على نحو ما. فالأسئلة التي تأتي في أثرها أكثر من الاسئلة التي تعد بحلها. فقد سأل نفر من الجنوبيين، كما رأينا، أين يبدأ الوطن ذاته ليصح أن يرتفع ما أسموه بالشعار الشوفويني حول سقوط مدنه. ولهذا تحاول الجبهة الإسلامية القومية أن تطبع الوطن بالإسلامية لكي يكون الدفاع عنه تقوى وجهاداً. فقد قال الشيخ حسن الترابي معلقاً على واقعة الكرمك أن الشريعة الإسلامية وحدها هي التي ستعطي لأهل السودان في الشمال والجنوب ما يفيدهم ويلبي حاجتهم ويوفر لهم الحياة الكريمة. ولا أحسب أن الشيخ الترابي غافل إنه هذا إنما يقدم وجهة نظر حول مستقبل السودان هي في أصل منشأ حركة العقيد قرنق، وأنه بتكرار وجهة نظره هذه لا يغير من الأمر شيئاً. وقد فاجأتني كلمة الشيخ الترابي هذه لأنني كنت أظن من خلال قراءتي لميثاق جبهته الجديد عن الجنوب واجتهادات فقهية جديدة لجماعته (مثل جواز تولي غير المسلم لأمر المسلمين) أن الشيخ الترابي راغب في تقديم مساومة تاريخية يلتفت فيها بجدية إلى تضاريس الوطن الدينية والثقافية المتباينة. ويعلم الشيخ الترابي أن هذه المساومة هي قدر جماعته الخاص لتحسين البيئة السياسية في السودان، وأنه إن لم تبادر جماعته بها تخطتها الأحداث وارتدت إلى حجم المتطرفين الصغير. وهو الحجم الذي يناسب كل متطرف ملحاح.
ليست جهاداً:
إن علينا أن نحذر جيداً من أن يتسرب إلى جسد قواتنا المسلحة الاعتقاد بأن موقعة الكرمك “جهاد” في المعنى الديني للكلمة وقد نبّه الصحفي الفرد تعبان إلى عدد من المظاهر تبنت فيها قواتنا المسلحة صيحات الجهاد الإسلامي المعروفة في التدريب والحرب. ومؤخراً أخذت بيانات القيادة العامة الداخلية والعامة تتضمن آيات قرآنية جهادية معروفة. وينبغي تأكيد القول إن قواتنا المسلحة ليست جماعة من المرابطين المسلمين على أن غالبيتها ربما كانت من المسلمين. فقواتنا المسلحة مدعوة في هذه المواجهة للدفاع عن الوطن الديمقراطي الذي تفرهد فيه العقائد السودانية، بما فيها الثقافة الإسلامية، إلى أقصى تجلياتها ومنتهى سدادها. غير أنه لا مهرب من الاعتراف بأن الجند المسلمين في قواتنا (مثلهم في ذلك الجنود من الملل الأخرى) ربما نشأت لهم الحاجة إلى طائفة من الرموز الدينية المتجاوزة لتشد من عزمات روحهم في حومة الوغى ولقاء الموت المهول. وسيتطلب هذا أن تدرس قيادة القوات المسلحة هذه الحاجات الروحية بدقة، وأن تستجيب لمقتضياتها بأناة شريطة ألا تترك الانطباع أو القناعة بأن قواتنا المسلحة قد تحولت إلى عناصر من المرابطين المسلمين وحسب. وستحقق القوات المسلحة نصراً استراتيجياً وسياسياً على المغامرين يوم يأتي جندها من كل فج عميق يصبون في حومة الدفاع عن الوطن أفضل ما فيهم من التصميم على العدل والخير والمحبة، وليدافعوا بذلك عن الوطن الذي أصبح حقاً وفعلاً حفل تعارف كبير للشعوب والقبائل التي تسكن فيه وإليه.
قال الريفي ومحمد الحسن محمد سعيد إن استجابة الشعب لسقوط الكرمك أقل بما لا يقارن باستجابته للمزاعم المصرية حول حلايب. وقد نرد ضعف هذه الاستجابة لحس الناس بأن الخلاف الأهلي في السودان لم يكن عنصراً في حادثة حلايب على أنه عنصر هام وراء واقعة الكرمك. ومن المؤكد أن حادثة حلايب وقعت والفكرة الوطنية لم تزل طازجة ومملوءة بالاحتمالات الجمة لمستقبل سوداني فاخر. ويصعب الجزم هنا أن للوطن هذه الهالة من الثقة عند جمهرة الناس حالياً. فقد تحولت الهجرة من الوطن إلى عقيدة. وانتهت أغاني البنات، المعروف أنها ترتب أسبقيات الشباب وتوقعاته، إلى إعلان المهاجر بطلاً له الفوز بالطيبات. لقد انقسم الوطن بفعل انفلات توزيع الثروة العشوائي وغير العشوائي الى أوطان عديدة مصداقاً لملاحظة الشاعر اسماعيل حسن القائلة “بين الديوم والامتداد شارع ظلط”. وملاحظة الشاعر التي أدلى بها في آخر الستينيات تبدو غاية في البراءة مقارنة بعظم الفوارق التي تفصل بين أهل الثراء وسواد الناس في السودان. وهي فوارق يصح السؤال إن كان من الجائز أن يسعها وطن واحد، وأن يقوى على تحمل شرها بشر كلهم من آدم، وآدم من تراب.
نسي الذين سألوا النقابات أن تكف عن لجاج المطالب لتأمين الجبهة الداخلية أن يطالبوا الموسرين بشيء غير التبرع للقوات المسلحة. والتبرع حماسة ومساهمة بسيطة لن تكلف الموسرين شططاً خاصة وهناك من طالب أن تُعفى مثل هذه التبرعات من الضرائب وسنحتاج هنا إلى التأكد من أمرين. أولهما إن كانت هذه الفئة من الموسرين ممن يتضرر من الضرائب لأن غالب هذه الفئة يمارس نشاطه التجاري من عربته، أو ركنٍ في الشارع. وثانيهما ما هو الضمان ألا يفتح هذا الإعفاء باباً لن ينسد من الفساد مثله في ذلك مثل كل التراخيص من شاكلته في الماضي؟
ما من شك أن نقاباتنا مصابة بعلة “العقلية النقابية المطلبية”. وقوام هذه العلة أمران. الأمر الأول هو تركيزها على شجرة المطالب في حين تغيب عنها الغابة وهي انهيار مؤسسات القطاع العام التي من المفروض أن تلبي هذه المطالب. وقد نرد السلبية التي قوبلت بها أخيراً جوانب كثيرة في المطالب النقابية إلى شعور الناس بفساد طريقة النظر إلى الشجرة والتعامي عن الغابة. والأمر الثاني في هذا الخصوص هو نشأة هذه العقلية المطلبية من يأس الحركة النقابية من أن إصلاح جذري في الاقتصاد الوطني. وهو الاقتصاد الذي استولت عليها الفئات الطفيلية. في حين بدا أن الدولة عاجزة عن إدارته. ولذا أضحت المطالب والمكافآت المتولدة بعضها عن بعض في مطالبها هي ضمانة النقابات الوحيدة في سوق متغيرة كالرمال المتحركة. فقد أصبح عائد المطالب النقابية المتسارعة هو ما يعيش به سواد الناس من شهر لشهر في ظروف الفوضى وانفلات طبقة الموسرين انفلاتاً استعصى على الدولة. ولذا لا يصح القول أن المطالب والمزايدة فيها على هذا النحو مجرد لغط فارغ، إنها بالأحرى انتماء مؤسف لسوق العمل في اقتصاد الفوضى. وسنرتكب خطأ كبيراً إن سألنا النقابات أن تصمت عن هذا الحوار حول حقوقها في كيكة الوطن، كما يقول الغربيون، لتأمين الجبهة الداخلية. فتأمين هذه الجبهة في إطار الديمقراطية لن يتم إلا إذا أخذت النقابات الوقت لتكتشف أن العقلية النقابية المطلبية في صورتها الحالية إنما هي حلقة مفرغة يحتاج كسرها إلى هجمة فكرية وسياسية على عصب الاقتصاد السوداني. وأول هذه الهجمة أن يدار هذا الاقتصاد على معنى من معاني العدالة الاجتماعية حتى ينشأ لنا وطن يصبح في الإمكان الدفاع عنه.

وإلى حلقة أخيرة.

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.