النقش على الحجر .. في الزمن الجميل

النقش على الحجر .. في الزمن الجميل
صلاح أحمد إبراهيم
  • 29 يناير 2024
  • لا توجد تعليقات

العالم أحمد دقاش

نحن في المرحلة المتوسطة بمدينة تلودي الجميلة في أقاصي جيوب كردفان جنوباً.. هذه المدينة كانت يوماً ما عاصمة لمديرية جبال النوبة، فالمدينة تحمل عبقاً من تاريخنا الوطني السياسي. فقد مر منها الإداري الانجليزي الشهير مستر جيلان، واضع ومهندس نظام إدارة النوبة (Nuba policy ( لإدارة منطقة جبال النوبة، للتعامل معها كمحمية مقفولة بخصائص أثنية متفردة (As a unique negro colony ) لإبعاد التأثير العربي والإسلامي عنها. وفي ذلك كان يعارضه التفكير بروف نادل Nadelصاحب كتاب “النوبة The Nuba”. حيث يرى إنه لن يحدث الإسنقرار والتطور إلا بتزاوج اندماج النوبة والعرب. حيث سيأخذ النوبة بعض المظاهر العربية، بينما في نمط الحياة والمعيشة وأدواتها فالنوبة سيكونون الأكثر تأثيراً. كانت تلودي أول من تصدت لهذه السياسة، فرفعت أول مذكرة من أعيانها ترفض سياسة المناطق المقفولة في 1936م. وتبعها في الرفض أماكن أخرى، حتى سقط نظام “الابارتيد” الذي حاول أن يفرضه الانجليز دون مشورة المواطن. لقد مر من عند تلودي أيضاً العديد من القادة الوطنيين فأرضعتهم الوطنية، وزرعوا فيها، وأخذوا منها فسائل الحرية وآمال المستقبل ليزرعونها في مواقع أُخرى.

حمد الريح

فانطلقت انتفاضة تحت عصبة من قبيلة تلودي ، قُتل فيها المأمور التركي /المصري أبو رفاس ومجموعة من القيادات 1906م. وخرج من سجنها الثائر الفكي علي الميراوي، ليُهربه الحوازمة عند قرية الحمرة أم سرايح، فحاكمهم الإنجليز، وتحملوا ضريبة أن يساندوا ثائراً من الوطن ضد الظلم في البلاد سجناً ومطاردة. عاش في هذه المدينة قادة ثورة اللواء الأبيض على عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ وآخرون من الوطنيين، وفيها عقدوا اجتماعاتهم التخطيطية الباكرة، قبل الإنتقال إلى المواجهات الفعلية مع المستعمر بالخرطوم. كما كانت بها عائلة زوجة الزعيم الازهري، وعائلة خليل أبتر وأظنه من جهة الحلاوين أو رفاعة والذي قام ابنهم بقتل الضابط الإنجليزي بتلودي، الذي أساء لعمه وأذله، فترك عروسته تنتظره لزفاف كان على وشك، ولم يتم وأصبحت فيما بعد أظنها جدة لآل بابكر بدري. نعم يرقد ذلك الضابط في قبر مجلد بالرخام، كنا نشاهده عند الجهة الغربية من سور معهد تلودي العلمي، الذي تحوّل لاحقاً ليكون المتوسطة (أ).
يلفت الإنتباه ويزيد من دهشتنا، أن أغلب من يتحدث عن منطقته يقول إنها سودان مصغر، يتعايش فيها الناس بتنوعهم الاجتماعي والثقافي جنباً إلى جنب في وئام. مما يجعلنا نتساءل عن اللعنة التي أصابة هذا البلد ليتصاعد اليوم خطاب العنصرية والكراهية في كل جنباته. فتلودي كان فيها القبطي حليم أمين والذي ما زال ولاء أولاده (أمين وأنيس وإدوارد) لتلودي أكثر من أي جهة أخرى. كما كان بها كوستي طيارة الإغريقي “كلام واحد”. وجُرجي، والمصري الصعيدي/ تامر صاحب المطعم الشهير، ومصنعه لشراب الليموناده اللذيد الذي كنا نتذوقه فقط في موسم بيع منتجات القطن، حين تتوافر السيولة أو يكافئنا ذوونا بتحقيق بعض النجاحات في المدرسة. تلودي فيها الدناقلة عائلة طلب والجعليون عائلة النصيح وآل بُحبُح والشايقي عائلة المقبول، ومحمد ود الفكي من مروي القرير، وهم أصهارنا حيث تزوجوا منا كريمة عمنا الكنان من وجهاء الحوازمة في تلودي والأبيض، فكان نسب رحمة وتعارف مع آل وقيع الله عبدالله رئيس قضاء مدينة مدني الشهير، له الرحمة، وله اسرة ممتدة في الهلالية.. تلودي فيها الفولاني الذين عمًروا المدينة وزرعوا أطرافها خضر وفواكه. فيها الحازمي الذي يُزودُ المدينة باللبن. ومنهم البدوي الذي يزور المدينة على عجل ليببع ثيرانه، ويشترى بثمنها السكروالشاي، وما تبقي له من فلوس يحفظه عند أولاد المقبول أو خمجان من جوامعة بارا وهو مطمئن. تلودي فبها النوبة تسومي وطمطم وطاطا وتيرا. تلك بانوراما مدينة تلودي الاجتماعية، والتي كان على رأسها إدارة أهلية، عبر عدة أجيال لآل قمر حسين رحمة، الشهير بهلال رمضان / والدابي الأزرق، كما تصفه الحكامات. وآل إبراهيم شمشم أبو يوسف الهاوية البتاكل جب ..هم أوتاد تلك المدينة.

فضيلي جماع

في مدرسة تلودي الوسطى كنا أول دفعة تفتتح بها مدرسة وسطى، بعد أن كانت أبو جبيهة هي الوحيدة التي تمتحن فيها نحو أكثر من ثماني مدارس أولية بالمنطقة الشرقية ليقبل منها (45) طالباً فقط. إضافة الى خمسة طلبة إضافيين من كبار السن والحجم، ليرسلوا الى الأُبيض الصناعية. تلك الدفعة كنا أول من لبس زي المدارس الوسطى في المدينة (الرداء + القميص الأبيض) فكنا نجوب شوارع المدينة متبخترين بهذا الزي الجميل والتلفظ بكلمات من الانجليزية. مع لبسة رياضة إلزامية أُخرى، هي شورت رياضة بلون أسود، وفانيلة بيضاء لزوم رياضة المساء في ميدان المدينة الواسع.
في المتوسطة بالسنة الثانية جاءنا أُستاذ منقول أعتقد من شندي أو الدامر. كان عربيّاً ولونه أبيض، ذو شنب أسود كثيف أسمهُ ” شبيكة ” نسيت أسمه كاملاً ( لا أدري أين هو الآن ربنا يطيل في عمره مع العافية، فقد بحثت عنه كثيراً ولم أتمكن من الاهتداء اليه). كان يُدرًسنا اللغة العربية والتاريخ. أُستاذ شبيكة كان مهذباً محترماً لدرجة الحياء واللطف حتى في التعامل مع طلبته. ونحن الذين نقدس الأساتذه ونتهيبهم في ذلك الزمن الجميل، كنا نحس في تعامله معنا أنه شخص مشحون بعلم غزير، يريد أن يعطيه للطلبة. رجل عميق الفهم لمهنة التدريس والتربية، مثقف واسع الاطلاع يعرف مسؤوليته تجاه طلبته. كُل سُلوكه يُوحي أنه عدة فضائل تمشي على ساقين، ويستطيع أن يُعطي الكثير. أحياناً يداعبنا، أثناء أو في نهاية الحصة ونحن طلبته فارغو الذهن عن الثقافة والأدب والشعر. فيحدثنا عن الجمعيات الأدبية وأنشطتها في المدارس العريقة ويحثنا على ذلك. يحدثنا عن ثورات التحرر الوطنية ورواد الاستقلال، والمبدعين والإبداع منهم الشاعر/ صلاح أحمد ابراهيم / على المك وآخرون. بقي بذهني كلامه عن الاديب الدبلوماسي صلاح أحمد ابراهيم، ولكي يقرب لنا الصورة، أخذ يسألنا أستاذ شبيكة، هل تعرفون الفنان حمد الريح؟ قلنا جميعاً في الفصل نعم..وهو الذي زارنا في تلودي ضمن جولات الفنانين للأقاليم. ثم سأل هل سمعتم عنه أغنيته ” يا مريا” فصمتنا ونحن الذين نعرف من أغانيه فقط أغنية “نحن راجعين في المغيرب وطير الرهو”. فقرأ علينا جزءًا من قصيدة ” يامريا”. انظروا كيف كان اختياره البديع، فبقيت عالقة في ذاكرتي حتى اليوم، أدعوكم أن تتأملوا معي بعض أبياتها:
يا مريا ..
ليت لي إزميل فدياس وروحاً عبقرية … وأمامي تل مرمر
لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالاً مُكبر
وجعلت شعرُك كالشلال بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر.. وعلى الأهداب ليلاً يتعثر..
وعلى الأجفان لُغزاً لا يفُسر… وعلى الخدين نوراً يتكسر.. وعلى الاسنان سكر ..
وفماً – كالاسد الجوعان زمجر… يرسل الهمس به لحناً مُعطر
وينادي شفة عطشى .. وأخرى تتحسر..
وحزاماً في مضيق كلما قلت قصيرُ.. هو كان الخصر أصغر

والقصيدة طويلة رائعة، حيث انتهت ببيت شعر مُلتهبُ .. فيقول شاعرنا المبدع صلاح أحمد ابراهيم فيه.
يا مريا .. فتعالي وقعي اسمُك بالنار هنا في شفتي … ووداعاً يا مريا..
كان ذلك هو أستاذنا شبيكة في الزمن الجميل.. وهكذا كانوا يحاولون تلقيننا الإبداع نقشاً في نفوسنا البريئة، التي لا يزيد تمددها بعيداً عن دائرتها المحلية، فيرتقي بها مثل هذا المعلم المربي بثقافته الواسعة لينتج جيلاً من المتلقين لنماذج الابداع فيصنعهم مستقبل.
نموذج آخر يحدثنا عنه أساتذتنا في المدرسة، كنموذج لطالب مبدع كان يقرض الشعر ويمارس الإبداع وهو في الثانوي حيث خورطقت العريقة. إنه فضيلي جماع.. نعم فضيلي جماع ذلك البدوي القادم من بوادي المسيرية بغرب كردفان حيث الابداع صناعة شعبية يمارسها الناس في مختلف النواحي، ومن معالم هذا الإبداع، تفنن وارتقاء العلاقة الاجتماعية بينهم ودينكا نقوك في ابي إلى مستوى السودانوية ( Sudanism) عقيدة السياسي فرانسيس دينج الاجتماعية والسياسية، التي ظل يدعو لها. فكنا نتعجب لطالب شاعر!! يقرض الشعركضرب من المستحيل .. فضيلي جماع إبداعاته كثيره لكن أجد نفسي معجباً حد الانبهار عندما أقرأ قصيدته “جيناك زي وزين هجر الرهيد يوم جفا” التي تغني بها الفنان الكردفاني المبدع عبد القادر سالم، التي تقول مفرداتها :
جيناك زي وزين هجر الرهيد يوم جفا ..
ضاع من بلاد لبلاد ما أظن عاجبو بُعاد ..
جيناك زي وزين عاد فاري جناح ..
شالو الحنين يسبق رياح ورياح..
والغرية ليل طويل لمتين يجينا صباح..
جيناك زي وزين لاح البرق نادا … وهكذا تتوالى أبيات القصيدة إن لم أُسقط منها شيئاً..
كثيراً ما يسوقني الشوق والحنين لتنفيس وتجديد أحاسيسي الذابلة أحياناً، من خلال هذه القصيدة والسماع لمغنيها الفنان الكردفاني العظيم عبدالقادر سالم. فالقصيدة هي مناحة عاطفية حزينة مليئة بالمشاعر التي تهيجها الغُربة والبُعد والحرمان، التي تجسدها مفردات القصيدة .. والقصيدة لا يتذوقها ويكتمل جمالها إلا عند إبن البيئة التي حملتها المفردات ، فذلك رهيد أخضر ملئ بالماء والخضرة ووزين مهاجر وبرق ومطريستهديه، في لحن يشوبه الشوق والحزن ليجمع المتناقضات من المشاعر والاحاسيس بلا رابط منطقي لبعض المفردات التي تساءل البعض عن تضادها. وألم يكن ذلك إبداع في ذاته.. إنها مفردات والحان ومكونات الطبيعة التي يُحسن الريط بينها ويفسرها ابن تلك البيئة في الصعيد والرُقُاب جنوباً في كردفان، الزاخر بمفردات الجمال في مكونات الجغرافيا والطبيعة. لذلك كنت كلما صدأت نفسي في الغربة وشعرت بالحنين إلى الوطن غسلت ذلك الكدر بكلمات هذه القصيدة ولحنها الرائع.. فتفردها بالجمال كلمة ولحناً وصورة يتجدد عندي دوماً.
القارئ الكريم قررت عمداً الرجوع الى مثل هذه الجماليات الأدبية لـتخفيف غُبن وغم السياسة، فأخترت أن تكون لي عدة ووقفات أُزين بها ما بدأت. نعم لي وقفة أُخرى مع نوع آخر من أبداعات أيقونات بلادي.. إنه الشاعر أبو قرون وهو ممن تغنى بتاريخيات واجتماعيات ورمزيات وفلكلور كردفان.
الشاعر أبوقرون عبدالله أبو قرون من مواليد مدينة أم درمان 1941م. درس مراحله الدراسية ما قبل الجامعة بامدرمان ثم جامعة القاهرة فرع الخرطوم . تخرج في الكلية الحربية 1963م. حاصل على درجة الماجستير في العلوم العسكرية ثم الدكتوراه في جامعة البكر / بغداد العراق. كان قبلها الماجستير في التاريخ من جامعة درم /بريطانيا. والشاعر أبو قرون يميل إلى شعرالحماسة، ربما بحكم المهنة، وله خصوصيات مع كردفان.
فقصيدته كردفان أم الرجال حديقة غنية بالزهور والعطور ومفردات التراث الكردفاني وإنسانه. مفردات تذكرنا بالتاريخ والجغرافيا، مفردات تحمل الكثير من المعاني التي تُؤصل لمنطقة هي كل السودان بتنوعه. وإليك ما قال اللواء ابوقرون ذلك الشاعر المبدع، الذي عشق كردفان وعشقته فأستنطقته هذه الكلمات الرائعة:
كردفان أم الرجال..
أنا البحر الطمح هادر … أنا الروض الجميل ناضر
أنا المثل الجميل ساير … أنا الفوله أنا الداير…
أنا كردفان أنا الغيمه … أنا المحصول ..
أنا العينة وأنا البترول..أنا الدابي البعيق الزول..
أنا كردفان … أنا أم الرجال..
أنا الزول الكتل جيش هكس في شيكان ..
أنا الزول زمان عمر رُبا أم درمان .. أنا كردفان.
عرفتك يا وليدي الفارس الغلاب..
وبيتك كلو خير مليان فريك وهشاب ..
عرفتك صبي في الحومة أسد الغاب ..
وقتين ترقص المردوم وسيم جذاب ..
أنا كردفان أم الرجال……
هذا هو السودان .. هذا هو الوطن وقولوا لي كيف أكون بدون وطن وأكتفي ببورتسودان؟ وكم شعرت بمرارة ولسان حالي يحاكي نازحاً باحثاً عن تأشيرة تدخله بلداً آخر، بعد حريق شب في الوطن والمستضيف يقول ليه حرقت وطنك وأنت يا الزول عرفناك طيب القلب.. وأقول في حسرة إنها قيادة الغفلة أشعلت حريقاً شب في كبدي جعلتني أبحث عمن يطفيه عني، وأنا الكنت طفاية الحريق..إنها الحسرة.

التعليقات مغلقة.