الشرطة السودانية ما بين الأمس واليوم والمستقبل

الشرطة السودانية  ما بين الأمس واليوم والمستقبل
  • 06 يوليو 2020
  • لا توجد تعليقات

لواء شرطة (م)/ عمر علي حسن

هذا مقالٌ للتاريخ

أكتبه وأنا رجلٌ أحسب نفسي من أعرف الرجال الأحياء بالسودان وأحداثه ورجالاته وتاريخه الحقيقي من خلال عملي في مواقع رفيعة وقريبة من صناعة القرار ووثيقة الصلة بسوادٍ أعظم من صُنَّاع القرار منذ الزعيم إسماعيل الأزهري حتى استيلاء حكم الإنقاذ البغيض على مقدرات وطني، ومن خلال مؤهلاتي الأكاديمية والمهنية في رصد وتحليل الأحداث والتدقيق في صحة حدوثها وتطوير الأفكار بشأنها ثم صنع الحلول والحلول البديلة لها ورفضي التام للإنغماس في العمل السياسي المباشر عندما عُرِضَت عليَّ وظائفه في عهد مايو شهادةً من صقور ذلك العهد على صدق بصيرتي وشرف مقاصدي.

هذه مقدمة لم يكن منها بدٌّ لمن يريد أن يطلع على هذه المذكرة التي قد لا أكتب بعدها وأطلب ممن تهمه أن يصبر على طولها ليجد ما يبني عليه رؤية سليمة في مواضيعها.

هذه الثورة قامت لإزالة نظام أربك حياة الناس وأعاد تشكيلها على فكرة مشروع حضاري قائم على قشور عقيدة لو تمسك ذلك النظام بلبها لحفظ لنا وطناً كله خير ومواطناً كله عطاء ووفاء. لكنهم طفوا على وجه الماء كالزبد جمعاً للقشور الطافحة ولم يغوصوا للعمق بحثاً عن الدُرِّ واللآليء الكامنة.

وقدِّر لهم أن يغيِّروا قِيَم الناس وثقافتهم بل وأهدافهم ومقاصدهم بالضغط والبطش وطمس الأثر والإرث واللسان وأصبح مرشحوهم يحرزون 90% من الأصوات في انتخابات البرلمان والمجالس الإقليمية والبلدية وأصبحت لغة العامة إسلامية ببغاوية فالذي يشكرك يقول لك جزاك اللّٰهُ خيراً أو جعلهُ اللّٰهُ في ميزانِ حسناتِك، وأسماء الأبناء تغيَّرت من أم سلمة وفاطمة إلى نسيبة وتوحيد وتنوير، وأسماء الأبناء من عمر وعلي إلى صهيب وأبو دجانه، وأسماء المحلات والبقالات أصبحت الأنفال والأعراف والإحسان والتسامح.
غلوٌ جهول حتى في الأسماء لم يقل به خالق الدين ولا رسوله القائل خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد.

شاهدنا أن الإنقاذ جلت القشور ووطَّنت المظاهر بقوةٍ باطشة وغاشمة وزائفة تمكنت من خلالها من الإمساك بزمام كل شيء وسخَّرت لنظامها ورجالها قدرة على التمكين جرَّدت بها الوطن من سواتر العورة ومقيتات الأمعاء، فألغت الفكر والطموح وشغلت الناس بالمصالح والأرزاق وخلا لها الجو فأفرخت وباضت وأصبح الوطن نهباً لصفوةٍ وضيعةً كل مؤهلاتها إنتماءٌ للمؤتمر الوطني.

وكان لابد من ثورة تنبأنا بها قبل أن تولد الإنقاذ بصفوتها المتعطشة للمال والسلطة وانتهاك الأعراض واقتسام الحسان والحرائر .. قلت بها أنا في تحليلٍ أمني بأنّ الإسلامويون يعملون للإنقضاض على السُلطة من خلال انقلابٍ عسكري ينادي بكذا وكذا ويفعل كذا وكذا ويفصل الجنوب ليسيطر مرتاحاً على الشمال المُسلم ولكني أحسنت الظنَّ بالقوى الوطنية فخذلتني ثلاثون عاماً ولم أتعظ بانحياز هذه القوى كلياً أو جزئياً وبسبب شروخها الداخلية للنظامين العسكريين السابقين للإنقاذ .. عبود ونميري ..

جاءت الثورة للخلاص من مثالب نظامٍ طمس الحريَّة والعدالة والمساواة فأضحت خياره وشعار ثورته ..

جاءت الثورة ووجدت جيشاً جرَّاراً من المواطنين يقبضون على دفة الإدارة الحكومية وقيادة النشاطات الحيوية العامة كلها وبلا استثناء، وهم كلهم ربائب الإنقاذ حتى ولو لم يكونوا كيزاناً رغم أن الشائع أن أحداً غير كوز لا يصل لقيادة أي عمل حتى ولو كان سبيل ماءٍ في قرية في أطراف الحدود. إذن لماذا التركيز على الشرطة دون غيرها ولماذا العسكر عموماً؟

لا بد هنا أن نعود لأمورٍ لم تدُر بخلد العامة ..

1- أن الشرطة أساساً قوة مدنية وليست قوة نظامية.
2- أن وجود الشرطة قائم على واجباتها الأساسية وهي منع الجريمة، واكتشافها بعد وقوعها، والقبض على مرتكبيها، وتقديمهم للمحاكمة، والمحافظة على الأرواح والممتلكات، وحفظ الأمن والنظام العام والسلام العام والطمأنينة.
3- ليس من واجبات الشرطة حماية الدولة أو الحكومة.
4- للشرطة صلاحيات يحددها القانون ولا يجوز لها تجاوزها أو التقاعس عن تنفيذها.

لتنفيذ ما تقدم فإن العمل الشرطي يقوم على أفراد اُُعِدّوا بدقة تامة ليكونوا رجال شرطة. فرجال وضباط الشرطة منذ لحظة تجنيدهم تقوم الكلية أو مدارس التدريب على إعادة صياغة شخصياتهم وتربيتهم تربية كاملة على حفظ واحترام وكيفية تنفيذ القانون واجتناب مخالفته أو تجاوزه لأي سبب ومن ثم يشرئب بمكونات الشخصية الشرطية وبالهيبة واحترام المهنة والجدية والصرامة والإنضباط في مظهره ومسلكه العام والخاص والإلتزام باحترام الغير وعدم إهدار حقوقه أو تحقيره والإعتداء عليه مهما كانت الأسباب، وأن يؤدي واجباته نحوه حتي في وقته الخاص وبزيِّه المدني.

إذا فعلت الشرطة هذا فإنها تكون واجهةً للمجتمع ويتوجب على المجتمع أن يلتزم نحوها باحترامٍ كامل ولا يعرقل تنفيذها لواجباتها فيصبح هو الآخر مُجتمَعاً مُتحضِراً مُسالِماً وتصبح الدولة دولة مُسالِمة.

بعد إكمال تدريبه بالكلية أو مدارس الشرطة يتلقّى الشرطي تدريباً مُتَّصِلاً قبل بداية يوم العمل يتم فيه توزيع المهام وتوضيح ما يلزم لتنفيذها والتذكير بما يجب من الإنضباط واحترام وإجادة تنفيذ القانون وتفتيش المظهر ومراقبة السلوك والنشاط والكفاءة ومتابعة تنفيذ العمل مباشرة بواسطة كل الرتب الأعلى .. وينطبق هذا على كل فرد في الشرطة من كبيرها لصغيرها.

كان هذا زادنا وسندنا في بداية حياتنا فلم أضطر لاستخدام العنف طيلة حياتي العملية وكان يكفي ظهوري في موقع المشاجرة لتتوقف المشاجرة عندما يقول أحد الموجودين الضابط جاء .. فيفسح لأتقدم لمن يحمل سلاحاً خطراً فأمدُّ له يدي طالباً منه أن يعطيني السلاح أو يرميه فيفعل ثم آمره بالتوجُّه للبوكس والركوب فيه فيذهب بلا تردد .. ولم أكن أحمِلُ سلاحاً.

كان مؤمن ولد بوليس (police boy) مُراسلة أو (نصف تعيين) وبلغ الثامنة عشر فتم تجنيده وأُرسِلَ للمدرسة وبعد تخريجه عاد لنا شرطياً في مركز أمدرمان .. وُزِّع في إحدى المناوبات على نقطة الريفيرا وأثناء مروره لاحظ مجموعةً تلعب القمار فتوجه اليها وكانوا أربعة، فسجل أسماء ثلاثة منهم ووجهَّهُم بالذهاب لنقطة الموردة وتسليم أنفسهم وطلب من الرابع وكان من أعتى مُجرمي أمدرمان وأقواهم بنية جسدية أن يرافقه للمركز فرفض فحذره من هذا الرفض وأنذره بأنه يكفي لإعتقاله، فردّ عليه “أعمل العاوزو أنا ما بمشي من هنا خطوة.” فلم يتردد مؤمن عن حمله على كتفه وسار به إلى محطة الطرماج وركب به الترام ونزل به بمحطة البلدية وواصل حمله إلى المركز حيث أنزله بمكتب الجاويش النوبتجي وفتح ضده بلاغاً بلعب القمار والمعارضة ورفض السير.

لم يكن للمجرم أن يلمس شعرة من الشرطي أو ملابسه الرسمية فإن ذلك كان يكفي لسجنه ستة أشهر .. ولم يكن أمامه إلاَّ أن يجري هارباً أو يستسلم ولو جرى وهرب فان الشرطة ستأتي به .. وقيل أن المجرم كان يطلب من مؤمن إنزاله وسيسير معه للمركز وكان مؤمن يرفض ويقول له أنا مُلزم أسلِّمك المركز بالطريقة القبضتك بيها.

لو كان هذا في هذه الايام لأفرغ الشرطي مسدسه في رأس هذا المواطن!!!.

لم يحصل مؤمن على ثناء رسمي ولكننا شجَّعناه على قيامه بالواجب وحفظ هيبته الشرطية بكلماتٍ مثل جدع وبرافو.

قصدت بهذا التدليل على أن الشرطي يُصنعُ في المدرسة وتنمىٰ قدراته ومهاراته داخل بيئة العمل ويتم تحديث معلوماته يومياً في طوابير الخدمة واحتكاكه المباشر بالأحداث وبدورات التدريب المتعددة التي يدخلها أثناء خدمته ويحصل من خلال تفوُّقه فيها على المعرفة وتجويد العمل وكذلك يحصل على العلاوات والترقيات .. ولابد للشرطي أن يكون شرطياً 24 ساعة في اليوم فتتلبسه المهنة بقيمها وهيبتها والتزاماتها في البيت والشارع والسوق .. وفي عرسه وموته ….

يقابل ذلك شارع منضبط ومواطن يحترم القانون ويعرف حدوده وحقوقه فلا يلقي القمامة خارج البرميل ولا يتبول في الشارع ولا يتسكع في الطرقات ولا يعتدي على غيره ولا يرفع سعر سلعةٍ يبيعها من تلقاء نفسه، فإذا استوقفه الشرطي توقف بلا تردد وإذا طلب منه السير سار وبجانبهما أجهزة عدلية صارمة تطبِّق القانون على الطرفين بعدلٍ وحسم ومن وراء الكل حكومة تحمي كل الأطراف وتوفِّر لها معينات الوفاء بالواجبات والإلتزامات .. ثم على الباغي تدور الدوائر.

وجاء يونيو 1989م فأدخل الجهالة والشراسة واللؤم وإذلال المواطن في الشارع لتركيعه وإغلاق فمه وإغشاء عينيه وعدم تركه في حاله حتى “يقول الروب”.. من هم أدواتها لتنفيذ كل ذلك؟ دمٌ جديدٌ أُدخِل إلى الشرطة مُميَّزٌ على قدامى ضبّاط الشرطة الذين تم قهرهم ومسخ وجودهم وطُمِسَت قدراتهم وأصبح أكثرهم يتمنى الموت قبل أن يُشرَّد ويتعرَّض عياله للعوز والفاقة وسوء المصير .. وأصبح رجالات الشرطة كلاباً للسُلطان يحملون السياط ويلبسون الشباشب مع الزي الرسمي المُبرقع ويتجولون في الأسواق ورؤوسهم حاسرة. وتمدَّد الأمر إلى اقتباس التدريب الإيراني على أساليب القمع والتُركي على ترصُّد الأبرياء والبطش بهم قبل أن يصدر عنهم ما يزعج السُلطة بعد أن أصبحت الحكومة سُلطة والحزب سُلطة وكل مُصعبٍ ونُسيَبة سُلطة ….

ثلاثون عاماً فسد فيها كل ما هو شرطي وتراجعت القيم إلى حد أن الشرطة لا تتحرك لموقع الحادث إلاَّ إذا أحضر المُبِّلغُ لها سيارة ودفع لها معينات التحرِّي وتكفل بإطعامها وسقيها وتقديم السجاير كمان.

إيران دولة حكمها السفاك بالقتل والسحل والإذلال من عهد الشاه رضا بهلوي إلى عهد الخميني ثم ارتضى الملالي الإبقاء عليهم لقهر الشعب وتركيعه لهم فأبدعوا في ذلك تماماً واتهموا الماشي والغاشي بأنه ضد النظام الإسلامي وعلقوه مقلوباً في بيوت الأشباح حتى يعترف ويتوب
وفرقوا المظاهرات بالدخول وسطها بالمواتر ودهس المتظاهرين وتكسير عظامهم ودربوا حلفاءهم الإسلاميين على تلك الخصال الوحشية فنقلوها للسودان وأصبحت مواجهات الشرطة دموية. سواء من جانب الشرطة أو غيرها من قوات السلطة المدربة على البطش والمسلحة بالدوشكات وأصبح الشارع السوداني غريب المنظر منذ أعوام ترى فيه الشرطة التي تحمل السياط والأسلحة الفتاكة سريعة الطلقات وأمن الدولة المسلح باللبس المدني والألبسة العسكرية التي تلبس للتمويه وربما لتفريق دم الضحايا وبجانبهم أرتال التاتشرات العسكرية وتاتشرات الدعم السريع تعلوها مواسير الدوشكات وهي تجري في الشوارع بلا هدف وبلا لوحات أرقام، فإذا دهستك فإنك تموت دون أن تعرف من دهسك.
ضد من كل هذا السلاح والعتاد والسياط وقوات مصر تحتل حلايب وقوات الحبشة تحتل الفشقة وقوات البشير تتجول بلا هدف في الخرطوم وعطبرة ومدني وزالنجي وغيرها من مدن السودان ولا تجد من “يقول لها تلت التلاتة كم؟”

وذابت شخصية الشرطة في هذا الخضم ولم يعد لها وجودٌ أو صفة، وصارت كالدرويش المتعلِّق في قدمي مولاه تمشي بلا ساق وتنظر بلا وجه.

في عام مضى نزلت من الطائرة بمطار الخرطوم في الثالثة والنصف صباحاً، أنا وابنتي وزوجتي “والمطر يقول ياليل” ولم يستقبلنا أحد وكنا ننوي التوجه إلى الطائف بطرقها الوعرة. وسمعت إسمي يتردد من المايكروفون فتوجهت لمصدر النداء فتسلم جوازي وفحصه وأدخلني مكتبه وأفادني بأنني مطلوب .. قلت له لا بأس، ولكن هيّا معي نضع إبنتي وزوجتي في تاكسي يوصلهما للبيت فرفض وقال أنت مقبوض عليك وما عندي تعليمات أخليك تطلع من هنا .. وجاءت بعد قليل عربة بها سائق وثلاثة ركاب مدنيين وأركبوني في المقعد الخلفي بين الراكبين الآخرين وركب الثالث في الكرسي الأمامي بجانب السائق وبمجرد أن أدار السائق العربة أخرج الثلاثة ركاب مسدساتهم وصوبوها نحوي .. ضحكت وسألتهم أهرب كيف وبيني وبين كل باب زول …. “انتوا الدرَّبكم منو؟” حسع انا لو عايز اكتلكم أعمل أي حركة وأنزل لي تحت تروحوا ضاربين بعض …. لكزني أحدهم بالمسدس وقال لي: أسكت خالص .. فسكت!

هذا هو المستوى .. ومؤمن منفرداً حمل الرجل على كتفه من الريفيرا الي الأوسط …..

نعم كان دخول الكلية بأسبقية خاصة للمنتمين للجبهة الإسلامية ثم لغيرهم وتولى المجندون الإسلامويون ونافذو النظام إستئناس (هؤلاء لا غيرهم) حتى يتخرجوا ومراقبتهم بعد التخرج وأصبح الضابط يصاغ إسلامياً ويرسل في بداية خدمته إلى مواقع العمليات فتؤسس خبرته على مطاردة الفلول ولا تؤسس على دفتر الأحوال والبلاغات والقبض ويومية التحرِّي ويُلقى به في أي موقع عمل دون اعتبار لمواهبه ويرقى بالدفعة وليس بالكفاءة والأداء ويعاد تدريبه بالدفعات والكوتات.. أما المجنَّدون فأي كلام .. ويجد البعض فرصة لتطوير ذاته علمياً باجتهاده الشخصي أَو بالصدف السعيدة فتميز البعض بالدرجات العلمية ولكن ليس وفق نهج كما في زماننا .. وحكمة اللّٰه فان حملة الدرجات العلمية العليا كما علمت أكثر ممن تلقوا تدريبات مهنية متقدمة في دول متقدمة ثم يجيء اختيار القيادات بالإنتماء ولا شيء غيره.

ولازلت أرىٰ أنّ التغيير ليس مستحيلاً وليس سهلاً.. أولاً وأخيراً لأن الشرطة ليست أكثر تلوُّثاً من غيرها من العاملين بالدولة وغير الدولة، فأغلب من مارس عملاً بالسودان تحول إلى ترس في ماكينة الكيزان وأكثر من 75% ممن يعملون الآن في أي مهنة ولدوا أو نشأوا في عهد الإنقاذ وهم جميعاً مواطنون ولا يمكن كنسهم وإلقاءهم في الزبالة ..

إذن ماهي الحلول؟
أنا لا أتطلع لتغيير مجتمع بأكمله وأرىٰ أن الثورة التي قادها شباب ولدوا ونشاوا في عهد الانقاذ وتشرَّبوا بما قدمه لهم عهد الإنقاذ كان يمكن أن تكون ثورة لصالح الإنقاذ لو أن الإنقاذ رجعت عن أنانيتها واستئثارها بالمنافع عليهم وهي منافع تكفي لإسكات مطالبهم ولا تمس مكاسب صفوتها.. ولذلك أتساءل هل أثرت البريسترويكا على سطوة الفكر الماركسي وهيمنة الشيوعيين على مقاليد الأمور في الجمهوريات السوفييتية بعد انفصالها؟.. الإجابة ليست بالقطع نعم.. وأتساءل هل لو حدثت تغييرات جذرية في النظام السعودي هل تتغير الشخصية الإسلامية لدى الشعب السعودي؟ وأجد ان الإجابة ستكون بالقطع لا..

ونحن بين عقائدية السعودية وعقائدية الشيوعية السوفييتية شعب غير متطرف ولا يحب التطرف. شعب ينتفض بكلياته مرة للإنعتاق من الدكتاتورية العسكرية ومرة ضد التخبُّط السياسي والتدهور الإقتصادي وجاءت الثالثة ضد الجوع والقهر العقائدي ولكنه نادى بالحرية والسلام والعدالة ، وعندما نجحت ثورته واجهته نفس شعاراته بأن الحرية للكل والعدالة للكل والسلام للكل وأحضر عمر البشير 200 محامياً للدفاع عنه وعلت أصوات أتباعه في الصحف والميديا دون أن يردعهم أحد فالحرية والسلام والعدالة ما كان لها أن تكون مطلقة بل كان يجب أن تكون للثورة دون غيرها، وإذن لفقدت قطاعات كبيره من أتباع البشير ثقتها في عودة المؤتمر الوطني للسلطة وتحولت عنه وهي مثلنا لم تنل من خيرات النظام السابق كما نالت صفوته.

عنما مات عبد الناصر علت الأصوات “كلنا ناصر وكلنا على طريق عبد الناصر..” النكتة التي تحققت سريعاً ان السادات قال لهم (بالإستيكة) …. ثم بدأ ذلك يوم وقف مواجهاً لصورة ناصر الضخمة في صدر القاعة الكبرى بجامعة القاهرة مُعطياً ظهره للحضور الذي ظلَّ يصفق لأكثر من عشر دقائق ثم التفت اليهم مشوِّحاً بظهر إبهامه للصورة وقال بأسلوبه المعبِر (اللّٰه يرحمه بقى).. وفي اليوم التالي نزلت كل صور عبد الناصر من جدران الدواوين الرسمية وانخفضت معدلات تردد ذكر الثورة في الخطاب الرسمي.

وقيل آن ستالين قال لخروتشوف: إني تركت لك خطابين لتفتحهما إذا ثار الشعب.. فقام بفتح الخطاب الأول بسبب ثورة الشعب عند حرب خليج الخنازير فقرأ فيه: الق كل اللوم عليَّ .. فنبش جثمان ستالين من حائط الكرملين ودفنه مع العوام ومسح كل تاريخه .. ولما ثار الشعب في المرة الثانية وجد ستالين يقول له جهز خطابين اَآخرين لخلفك.

بقيت الشيوعية ومحي بالزعماء بلاط العالم كله ونُبِشت رفاتهم وأُخرجت من حائط الكرملين، وذهب ناصر وفكره القومي وجاء السادات ليتصالح مع اسرائيل ويستقبله الشعب المصري استقبال الفاتحين ثم يغتاله الإسلامبولي عضو الجماعة الإسلامية. ولم يحس أحد بزوال الناصرية ولم يقل أحد بأن السادات تعامل مع القضية بنزق التطهير ورعونة إزالة التمكين التي جرفت الثورة بعيداً عن دورها في إعادة ترتيب عودة الشعب السوداني إلى البعد عن عقائدية الحكم.

هل نخرج كل من هو كوز من موقع القيادة لأنه كوز؟ وهل نفصل كل من هو كوز من وظيفته في الدوله لأنه كوز؟
وهل نسرح الشرطة كلها لأنها جمعت أكبر عدد منهم بل ولأنهم كانوا يؤثرون الكيزان بأحقية الإنتساب لها؟
( نفس الشيء ينطبق علي الجيش والأمن). ماهو موقفنا من آلاف المواطنين وأُسَرِهِم إذا فعلنا هذا؟

الرأي الأوفق ألاّ يُفصل أي مواطن من وظيفته إلاّ إذا تعامل من خلالها بإنتمائه العقائدي أو عمل على محاربة الثورة وثبت ذلك عليه.

ثم

نشرع في عملٍ استراتيجي ذي ثلاث شُعَب:

الشعبة الأولى:

فتح الباب واسعاً للمتطوعين للقيام بأعمال شرطية لا تحتاج تدريباً طويلاً أو خبرات مثل المرور والدوريات الراجلة وحماية وحراسة بعض المُنشآت وبعض أعمال المباحث والأمن التي لا تتطلب تفرُّغاً كاملاً. في ذات الوقت يتم تجنيد وتدريب دمٍ جديد من الشباب ذوي التعليم الثانوي أو المبدعين والموهوبين من الشباب الأدنى تعليماً. وأن يتم ما تقدم بهدف توفير ما يقارب ربع القوة الموجودة حالياً وذلك لتغطية التدريب والإحلال والتوسعات التي سترد في الشُعبتين 2 و 3 أدناه، ويقوم تدريب المستجدين على أساس صناعة رجال الشرطة المهنية المشار لهم في المقدمة دون عمد لإسقاط عقائدهم وحرياتهم الفكرية مع التشديد على منع تأثيرها على تنفيذ واجباتهم بشفافية ودون تأثير من عقيدة أو فكر سياسي.

الشعبة الثانية:

التمسك بجميع أفراد وضباط القوة الحالية وإعادة تدريبهم بهدف إعادة صياغتهم وتخليصهم من مثالب ما اكتسبوه في العهد البائد..
وفي هذه المرحلة يمكن تقسيمهم إلى فئتين.. من التحقوا بالخدمة قبل الإنقاذ وهؤلاء أسرع استجابة للعودة للشخصية الشرطية المهنية الأصلية .. ويمكن تحفيزهم بالترقيات الشرفية وفوق المقرَّر لضمان استرداد ولائهم للمهنة وتدريبهم لمدة ساعة في اليوم لمدة ثلاثة أشهر ويتم تمديد ساعات عملهم إلى تسعة ساعات يومياً مقابل عوض مالي شهري كمرتب ثلاثة أيام شهرياً، وتكون الفئة الثانية لمن جُنِّدوا في عهد الإنقاذ للتركيز على إعادة صياغتهم تماماً ويُدرَّبوا على كامل منهج المدرسة بواقع ساعتين في اليوم إضافةً إلى ساعات عملهم اليومية مقابل عِوَضٍ يساوي مرتب 5 أيام ولمدة أربعة أشهر .. ثم يتكرَّر البرنامج لمجموعة أخرى ولكن على أساس التفرُّغ للدراسة بعد تخرُّج مجموعة المجندين بالشعبة الأولى وإحلالهم مكان هذه المجموعة الثانية ممن جُنِّدوا بعد الإنقاذ.

الشعبة الثالثة:

تقوم على متابعة وتقييم عمل كل فرد في القوة ومراقبة كل صغيرة وكبيرة من سلوكياته لتحديد صدق التزامه بقيم وقواعد المهنة والتخلص منه لدى أول بادرة مخالفة لذلك .. هذا ويجب عند التخلص من أي أحد أن يوجد له عمل بديل حتى لا يحقد على الشرطة ويلجأ لما قد يقدمه له من يهمهم تقويض النظام.

يتطلب تنفيذ هذا المشروع 4 سنوات للتخلص من المُتمسِّكين بالولاء العقائدي ثم إحلال دمٍ جديدٍ بالتدريج تتبدَّل به القوة مُستقبلاً دون إحداث هزات أو تشوُّهات في بنائها وأدائها.

يبقى مشروع إعادة الهيكلة أو ما يسمى بالمصفوفه فقد وجدته عملاً جيداً ومتكاملاً مع اعتراضي على إلغاء وظيفة مدير عام الشرطة وربط مساعدي المدير العام بوزير الداخلية مباشرة وأرىٰ أن هذا قد نُقل بدون تبصُّر من النظام المصري رغم أنه يُعتبر عيباً أساسياً في هيكل الشرطة المصرية.

وظيفة الوزير لا علاقة لها بالعمل الشرطي، ويمكن أن يتولاها شخصٌ مدني أو ينوب عنه في غيابه وزيرٌ مدني لا علاقة له بتخطيط وتنفيذ أعمال الشرطة، وبالتالي تقع مؤسسة الشرطة بأكملها في إدارةٍ أو قيادةٍ من خارجها. ثم إن الشرطة قوة ولابد للقوة من قائدٍ يكون مرجعاً لها ورمزاً لوحدتها. ولعل الحُجَّة التي بُنِيَت عليها هذه التوصية تصبح غير منطقية إذا ألغينا وظيفة المدير بسبب إرتفاع عدد مساعديه بدرجةٍ تجعل المدى الإشرافي للوظيفة (span of control) أكبر من القاعدة التنظيمية العلمية وتمنع حُسن أدائه للوظيفة، ثم ننقل نفس المساعدين لإشراف الوزير.

أرىٰ بقاء وظائف المدير العام ونوَّابه وكل وظائف الشرطة داخل هيكل الشرطة كمبدأ وعدم المساس بعدد الرتب الموجودة بالقوة حالياً حتى لا تنخفض فرص ترقي الضباط إلى أرفع الرتب وهم الفئة الوحيدة من موظفي الخدمة المُلزَمة بالعمل 24 ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع.

وأرىٰ بجانب هذا إعادة زي الشرطة القديم لإكسابهم الإحترام المهني اللازم.

4 يوليو 2020م

التعليقات مغلقة.