الإمام الصادق المهدي المفكر

الإمام الصادق المهدي المفكر
  • 24 مايو 2025
  • لا توجد تعليقات

مساعد النويري

ولد الإمام الصادق المهدي وفي قلبه كتاب من نور، وفي عقله مشروع من حروف، وفي وجدانه أمة من شعوب. ولد في بيت زعامة، لكنها لم تكن عنده تشريفاً، بل تكليفاً، ولم تكن امتيازاً، بل التزاماً. نشأ نشأة علمية دينية سياسية، في كنف جده الإمام عبد الرحمن المهدي، وتربى على تقوى القلم، وعدل الكلمة، وطهر الضمير.

ولد وفيه جينات فكرة، وعلى جبينه شمس رؤية، وفي لسانه صدق بيان، وعلى كتفه عبء رسالة. نشأ في بيت كُتب عليه أن يكون مرجعية دينية وسياسية وفكرية، فتفتحت عيناه لا على الدنيا كسائر الناس، بل على تراث ينتظر من يرعاه، وتاريخ يترقب من يرويه، وشعب يبحث عن منارة لا تخبو، وقيادة لا تخون.

ما أن شبّ حتى شُبّ فيه وعي مبكر جعل من طفولته مختبرًا للفكر، ومن صباه محرابًا للتأمل. فانخرط في مناشط الفكر الإسلامي لا طلبًا للوجاهة، بل تلبية لنداء داخلي ينادي بالمعرفة والجهاد في سبيل الكلمة. كان يرى في الفكر سبيلاً للهداية، وفي الاجتهاد فريضة الغافلين عنها آثمون. تعلم في مدارس كمبوني وكلية الخرطوم الجامعية ثم حلق في سماء أوكسفورد، فعاد إلى الوطن مسلحًا بسلاح العقل، مدججًا بفقه الواقع، مستمسكًا بخيوط الغيب.

لم يكن الإمام الصادق مفكرًا تقليديًا يُعجب بالنصوص ويخشى الواقع، بل كان صاحب مشروع متكامل يجمع بين العقل والنقل، بين الأصالة والمعاصرة، بين النص المقدس والاجتهاد الحر. رأى في الإسلام مشروع حضارة، وفي السياسة مسؤولية أخلاقية لا سوقًا للمزايدات. جادل الترابي الاسلامي وحاور نقد الشيوعي، وخالف الطائفي، وناقش الحداثي، لا عداوة بل محبة للحق وإنصافًا للفكرة، وكان يرى أن الحوار رحمة، وأن الفكر إذا لم يتلاقح فسدت عقول أصحابه.

في كل مرحلة من مراحل الوطن كان الإمام الصادق شامة على وجه الزمان، وجمرة فكر لا تنطفئ. بعد أكتوبر كان صوت العقل في زحمة الانفعال، وفي مايو كان ضمير الأمة في وجه الشمول، وبعد أبريل كان صوت التوازن بين الحرية والمسؤولية، وفي عهد الإنقاذ كان المفكر المقاوم، لا يحمل بندقية بل قلمًا، ولا يزرع ألغامًا بل يحرث أرض الأفكار. لم يساوم على الديمقراطية، ولم يهادن في الحق، ولم يتلون كما يفعل الساسة حين يشتد عليهم المطر.

وفي زمنٍ صار الفكرُ سلعةً تُباع بأبخس الأثمان والمواقفُ تُقاس بميزان المصالح كان الصادق المهدي شجرةً باسقةً لا تنحني للرياح ولا تتكسّر أعطافها تحت وطأة العواصف ظلّ يُذكّرنا أن السياسة ليست مراوغةً بين المبادئ والأهواء بل هي جسرٌ تُبنى حجراته بالأخلاق والرؤية

حين تُذكر الثورات السودانية كان حضوره كالملح في العجين لا يُرى لكنه يُحسّ في كل لقمةٍ من نضال الشعب لم يتخلَّ عن حلم الديمقراطية حتى حين أغلقت الأبواب ورايات الفشل خفقت في سماء الوطن كان يقول “لا يأسَ مع الحياة ولا حياةَ مع اليأس” فزرع الأمل في قلوبٍ يبست وأعاد للكفاح بهاءه

لم يخشَ التنويرَ رغم سهام التكفير التي طالما نُصبت له من خصوم الفكر الحر كان يرى أن تجديد الخطاب الديني ضرورةٌ كتجديد الدم في العروق ودعا إلى فقهٍ يعانق روح العصر دون أن يخون أصالته فكانت آراؤه في تجديد أصول الفقه وقضايا المرأة والمواطنة جرأةَ من يعرف أن الحقَّ سفينةٌ لا تغرق

حتى في لحظات الضعف الإنساني حين يهتزُّ الرجال كان الصادق المهدي صخرةَ الاستقرار في بحر الأزمات يوم اختلفت الأحزاب وتشظّى الوطن بقي هو الناظر إلى أبعد من الأفق السياسي الضيق ينادي بوحدةٍ لا تلغي التعدد واختلافٍ لا يفسد للودّ قضية

وترى في سيرته أن العظمة ليست في البرج العاجي بل في السير حافي القدمين على جمر التحديات يوم وقف ضدّ الديكتاتوريات العسكرية لم يرفع سيفاً بل رفع دستوراً ويوم ناضل ضدّ التهميش والإقصاء لم يَستجرِ بغير لغة الحكمة والمنطق

لم يكن صوفيَّ المسلك لكنه استقى من روحانياتهم التسامحَ ولم يكن ماركسيَّ النزعة لكنه أخذ من جدليتهم النقدَ ولم يكن ليبرالياً منفلتاً لكنه احتضن قيم الحرية كأغلى ما يكون الاحتضان هكذا صنع من كل المذاهب فسيفساءً جميلةً تليق بسودانٍ ظلَّ دائماً ملتقى الحضارات

كتب عن المرأة كما لم يكتب أحد من أبناء جيله، فأنصفها بفقه يجمع بين المقاصد والنصوص، بين التكريم والتمكين، وكتب في الهوية فخلط ماء النيل برماد الجبال، ونسج عباءة للسودان لا ترفض أحدًا، ولا تنكر لونًا، ولا تسفه عقيدة.
في الاقتصاد، قدم رؤية للعدالة دون أن يغرق في اليوتوبيا، وفي التعليم دعا إلى عقلية نقدية، لا تلقينية، تؤمن بالاختلاف وتقبل التنوع.

لم تكن كتاباته تجنح إلى الخطابة، بل كانت محكمة كالفقه، بلاغية كالشعر، فكرية كالموسوعات. كان المثقف الذي لا يرضى أن يكون شاهد زور، ولا أن يكون مثقف سلطة، بل حارسًا على ضمير الأمة، يدق الجرس حين ينام الحراس، ويرفع الصوت حين يصمت الجبناء. اعتُقل مرارًا فكان فكره منارة، وسُجن طويلاً فكان قلمه حرًّا، وظل يقول كما قال المتنبي : إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ .
حين تقرأ كتبه تشعر كأنك تسير في حدائق الفكر وتنهل من ينابيع الحكمة لغته فصيحة وأسلوبه رشيق وفكره ناصع وقلمه لا يجرح إلا باطلاً ولا يمدح إلا حقاً كان قارئاً نهماً وكاتباً حكيماً ومفكراً حراً وسياسياً نادراً.

وحين كان يتحدث يفيض حديثه حكمة، وتتنزل عباراته كأنها ماء سلسبيل، فيها من السجع ما يطرب، ومن المعنى ما يعجب، ومن المقصد ما يلهب الهمم ويوقظ النوايا. لم يكن خطيباً فحسب، بل كان ملهماً. لم يكن يلهب المشاعر ليبكي، بل ليوقظ. ولم يكن يصرخ، بل يشرح، ويُقنع، ويُبصر.

لم تغب الروحانية عن فكره، بل كانت له زادًا. جمع بين عقلانية أوكسفورد وإشراقات الدراويش، فكان حديثه عن القيم كمن يقرأ في كتب الأئمة ويترنم بأشعار المتنبي. لم يتعالَ على الناس، ولم يزدرِ البسطاء، وكان إذا خطب تمايلت المفردات طربًا، وإذا كتب أطرب البيان وإذا ناظر أرهق الخصم بالحجة والبينة.

هو الصادق في زمن الكذب، والمفكر في زمن التسطيح، والسياسي في زمن التهريج. يقول ما يرى لا ما يطلب الجمهور، ويكتب ما يعتقد، لا ما تريده العواصم. هو رجل خالفه بعض أهله، وعارضه بعض تلاميذه، لكنه ظل كما وصفه أحدهم: “كبيرٌ في صمته كما هو كبيرٌ في بيانه”.

إن الأمة التي أنجبت الإمام الصادق لا يجوز لها أن تموت جهلًا. وإن الفكر الذي تركه لا يليق به أن يضيع في أدراج النسيان. فتراثه ليس فقط مجلدات، بل هو ضمير ناطق، ورسالة مستمرة ومشروع قابل للتجدد. وإن رحل الجسد، فإن الفكرة حيّة، وإن طُويت الصفحة، فإن الحبر لم يجف بعد، وإن مات الصوت فإن الصدى لا يزال يردد: “الدين عقلٌ لا نقلٌ، والسياسة أخلاقٌ لا خداع، والثقافة رسالة لا مهنة”.

هكذا كان الصادق المهدي، لا كإمام وقائد كيان فقط بل عقل أمة ولسان شعب، وذاكرة وطن. لم يكن غائبًا في حضوره، ولن يكون غريبًا في غيابه. فمن سار على نهجه عرف أن الفكر لا يموت وأن الحكمة لا تُهزم، وأن الكلمة الصادقة، وإن عُذّبت، تبقى أغلى من الرصاص، وأبقى من الملوك.

وصدق القائل: الرجال يموتون وتبقى المواقف، والساسة يرحلون وتبقى المبادئ والإمام الصادق ليس مجرد سيرة، بل بصيرة… والبصائر لا تُنسى.
وحين رحلَ الصادق المهدي لم يرحلْ بل صار أكثرَ حضوراً كالشمس إذا غابت تبقى أشعتها تداعب الأفق لم يرحلْ لأنه لم يكن جسداً يُدفن بل فكراً يُورق ومبدأً يُشرق وكلماتٍ تُنقش على جدار الزمن

فيا من تقرأ سيرته لا تبحث عنه في المقابر ولا في تماثيل تُنصب ابحث عنه في طفلٍ يتعلّم بلا خوف وفي شابٍ يُحارب الفساد بلا وجل وفي عجوزٍ تحكي للأحفاد عن زمنٍ كان الرجالُ فيه يصنعون التاريخ لا يسرقونه

هكذا كان الصادق المهدي أباً للجميع رغم اختلافهم وقنديلاً لمنارته رغم ظلام الواقع وذاكرةً لوطنٍ أرادوه جنةً فصار جحيماً لكن بصيرته ستظلُّ شمعةً في يد كلِّ سودانيٍّ يؤمن أن النهضةَ تُبنى بالفكر لا بالعنف وبالعدل لا بالانتقام وبالحب لا بالكراهية

وإن غاب الإمام الصادق جسداً فإن كلماته ستظل تُرَدَّد:
“لا تيأسوا فاليأس خيانةٌ للوطن ولا تتوقفوا فالتوقف موتٌ قبل الأوان”
وأخيراً دائما يُسألني الناس: لماذا تحب أن تكتب عن الإمام الصادق المهدي؟

وكانت اجابتي لنفسي قبل الآخرين ﻷنني لا أكتب عن رجلٍ فحسب بل عن رؤيةٍ تمشي وفكرةٍ تنبض وسيرةٍ تشع بالنزاهة والفكر والإيمان. أكتب عنه ﻷنني أجد فيه التوازن بين الفقيه والمفكر وبين السياسي والإنسان بين الحاكم والعاشق لشعبه.
أكتب عنه ﻷنه كان ضمير وطنٍ حين نامت الضمائر ولسان حقٍّ حين خرس الكثيرون وعقل دولةٍ حين ساد الارتجال. أكتب عنه ﻷنه مدرسة لا تُدرِّس الكتب بل تُخرّج المواقف.

نعم أكتب عنه لأن الإمام الصادق ليس مجرد سيرة، بل قيمة تُروى بها السّير ومثال يُقاس عليه الآخرون وفي زمن عزّت فيه الرموز أكتب لأحفظ رمزيتي وأكرم من يستحق الذكرى.

اكتب عن الصادق ﻷنني لا أكتب عن فردٍ فحسب، بل عن أمَّةٍ تتجلّى في رجل، وعن فكرٍ لم يُقبره الرحيل، وعن نهرٍ ما زال يسقي ظمأ الوطن رغم الجراح. أكتبه لأن فيه من الشعر حكمة ومن الحكمة وطن، ومن الوطن ذاكرة لا تُنسى.

أكتبه عنه ﻷنه كان سياسيًا بلا لؤم وفقيهًا بلا تعصُّب ومفكرًا بلا تعالٍ وإنسانًا يسبقك إلى النبل قبل أن تبلغه. كان كما يقول أهل السودان: “الما بشبه أهلو بقطعوه وقد شابه أهله في الفضل، وزاد عليهم بحلمه وخلقه وحنكته. أكتب عنه ﻷن قلمي يجد فيه ما يشبهه ويجد في صمته بيانًا، وفي غيابه حضورًا وفي ذكراه نبضًا لا يخبو .

نعم أكتب عن الإمام الصادق ﻷنه كان “سُرّة البلد” في زمن التيه و قنديل الضلمة حين انطفأت المصابيح، أكتب عنه ﻷنه من طينة “الذكرم طيِّب، والغيبة فيهم ما بتنبل”، كان كالكلمة الطيّبة: أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وذي ماكانت حبوبتي زماااااان بتقول ( الصادق ما بتكلم ساي، ومابجيب الكلام من قوالة ولا برمي الكلام ساكت في الهوا، راجل ود رجال كلامو موزون، وفعله مطعون، وسيرتو زي الموية في الحفير ما بتندس..زولا بيقول الحق في وشك، عشان كده ما بتنساه لو فات وزول بيركز في وقت الضيق عشان كده ياعشاي سموه فراج الضيق )

أكتب عن الإمام الصادق ﻷنه ما كان زول زمن كان زمن زول، وكان إنسانًا إذا حضر عُرف، وإذا غاب ذُكر، وإذا تُلي اسمه سكت الصخب واستيقظ الضمير.
لذلك ما أحببتُ رجلاً من رجال السياسة كما أحببتُ الإمام الصادق، ولا فتنتني سيرة كما فتنتني سيرته، فهو بين الزعماء كالبدر بين النجوم، وبين المفكرين كالغيث في الهجير، وبين الناس كالمسك إن حضر، وكالذكر إن ذُكر. أحببته لا تعصُّبًا لحزب، ولا انقيادًا لعاطفة، بل لما وجدت فيه من اجتماع العقل والحُلم، والعلم والحِكمة، والنباهة والنزاهة، والسياسة بالقداسة.
أكتب عنه لأن في حرفه بصيرة، وفي خطابه رسالة، وفي صمته دلالة، ولأنه من أولئك القلائل الذين إذا ماتوا ازدادوا حياة، وإذا غابوا اشتدّت الحاجة إليهم. أكتب عنه لأن الكتابة عنه وفاءٌ للحق، واعترافٌ بالجَمال، وتمسّكٌ بالقيم في زمن عزّ فيه الأوفياء وقلّ فيه النبلاء.

وختاماً إن سألني سائل مرة أخرى لماذا تكتب عن الإمام الصادق؟ لقلت
( لأن بعض الناس يكتبهم التاريخ، وبعضهم يكتبون التاريخ، أما الصادق، فقد جمع بين الاثنين، وكان هو والتاريخ على سطرٍ واحد .)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*