داخل العقل الجمعي السوداني: المعارضة هي الأصل… والثائر قد يثور ضد ثورته                    

داخل العقل الجمعي السوداني: المعارضة هي الأصل… والثائر قد يثور ضد ثورته                    
  • 12 أغسطس 2025
  • لا توجد تعليقات

محجوب الخليفة

                                                                             ▪️من يتأمل التاريخ السياسي والاجتماعي للسودان يجد نفسه أمام ظاهرة تكاد تكون متفردة في عالم السياسة والثقافة الشعبية: المعارضة ليست مجرد موقف سياسي عابر أو خيار نابع من اختلاف البرامج، بل تكاد تكون حالة ذهنية أصيلة راسخة في الوعي الجمعي، أشبه بالمرجعية التلقائية التي يلجأ إليها الفرد والجماعة عند كل منعطف. وكأن الهوية السياسية السودانية بُنيت على قاعدة أن “السلطة لا تُؤيد، بل تُعارض”، حتى ولو كانت هذه السلطة نتاج نضالهم وتضحياتهم.
▪️هذه الثقافة ليست وليدة لحظة آنية أو تفاعلات ما بعد الاستقلال، بل هي تراكم تاريخي تشكل على امتداد عقود من التجارب الوطنية، بدأ منذ إرهاصات الوعي الحديث في عهد الاستعمار، مروراً بالحكومات الوطنية المتعاقبة، وصولاً إلى الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية. فالسودانيون، وهم يزيحون سلطة قائمة، سرعان ما يكتشفون أنهم عاجزون عن التعايش مع بديلهم الذي جاءوا به، فتبدأ مرحلة جديدة من المعارضة، وكأن الثورة الحقيقية لديهم هي في فعل المعارضة ذاته، لا في تحقيق أهدافها.
▪️هذه الإشكالية الفكرية والنفسية لا تقف عند حدود السياسة، بل تمتد لتخلق ثقافة “الازدواجية” في مؤسسات الدولة والمجتمع. فالمعارضة المتأصلة في الوعي العام ولّدت عقلية الشك والاحتراز، الأمر الذي انعكس في بنية الدولة نفسها، ليظهر نموذج “المؤسسة الموازية”:
▪️جيوش موازية تحت مسميات مختلفة، تنشأ كحامٍ بديل أو ضامن للأمن، لكنها تتحول مع الوقت إلى لاعب مستقل يفرض أجندته.
▪️أجهزة أمن موازية تعمل أحياناً خارج الأطر الرسمية، لتخدم مراكز قوى لا تخضع للمحاسبة.
▪️شرطة موازية أو وحدات خاصة تُدار بعقلية الولاء السياسي لا بمعايير الخدمة العامة.
هذا التضاعف في الأجهزة ليس مجرد ترف تنظيمي أو احتياط دفاعي، بل هو انعكاس مباشر لانعدام الثقة المتأصل في الثقافة السياسية. فكل سلطة، حين تمسك بزمام الأمور، تعيد إنتاج نفس النظام الذي حاربته، لكنها تضيف إليه نسختها الخاصة، بدعوى التحصين من الخيانة أو الانقلاب عليها. النتيجة أن الدولة تتحول إلى مسرح لأجهزة متناحرة، كل منها يحتكر جزءاً من القوة والمعلومات والموارد، بينما يتآكل مفهوم المؤسسة الواحدة والمرجعية العليا.
هذه الثقافة الازدواجية ولّدت تشوهات عميقة:-
▪️تفكك الولاء الوطني لصالح الولاء الفئوي أو الحزبي أو الجهوي.
▪️تآكل هيبة القانون نتيجة تعدد مراكز اتخاذ القرار وتضارب الصلاحيات.
▪️إهدار الموارد في صيانة كيانات متوازية تتنافس على السلطة بدل التعاون في أداء المهام.
▪️الأخطر أن هذه الحالة تعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل، حيث ينشأ الفرد وهو يرى أن المعيار ليس كفاءة النظام بل القدرة على معارضته، وأن التغيير لا يعني البناء بل استبدال الوجوه، ليعود بعد حين إلى دائرة الرفض والنقض. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: أن “الثائر” السوداني قد يثور حتى على ثورته، لأن الوعي الجمعي لا يرتاح إلا إذا وجد خصماً يواجهه.
▪️في المحصلة، فإن معالجة هذا المأزق تتطلب ثورة من نوع آخر، ثورة على البنية الذهنية قبل البنية السياسية، وعلى ثقافة الشك قبل مؤسسات القمع. إنها دعوة لإعادة تعريف معنى المعارضة، لا كحالة دائمة، بل كأداة إصلاح حين يفسد الحكم، ولإعادة الاعتبار لفكرة الدولة الواحدة التي لا تتنازعها الجيوش والأجهزة الموازية، حتى يتوقف مسلسل الثائر الذي يثور ضد ثورته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*