تداعيات الحـرب الاجتماعية: محاولة للفهم واستعادة التماسـك المجتمعي
ليس في السودان اليوم من لا يتحدث عن الأزمة الوطنية في بعدها السياسي نتيجة الحرب؛ فالكل أصبح يتحدث في السياسة، ويشكو لطوب الأرض فشل النخب في إيجاد حلٍّ للأزمة. يتناول كثير من السياسيين والاقتصاديين حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية واستهداف المؤسسات والمباني، في حين لا يتحدث إلا القليل عن تدمير البنية الفوقية وضرب القيم والسلوك الإنساني السوداني، نتيجة العنف الممنهج، وموجات النزوح واللجوء، والجوع، وانتشار الفساد والفوضى واللامبالاة واللاعقلانية، واختلال المنظومة الاقتصادية، واهتزاز النسيج الاجتماعي، في ظل تراجع دور الدولة وترك المجتمع يواجه مصيره منفرداً. بل إن طرفي الحرب تعمّدا نقلها من سياقها السياسي إلى النطاق الاجتماعي عبر تقسيم المجتمع إلى “حواضن”، وهو توجه بالغ الخطورة كرّس للانقسام المجتمعي، وغذّاه بخطابات الكراهية والعنصرية، والجرائم الوحشية على أساس إثني أو قبلي أو حتى لوني. وفي الوقت الذي يسعى فيه المتحاربان إلى تسوية سلطوية، تُهمل تماماً الأزمة في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية.
تميز السودانيون عبر العصور بخصائص فريدة جعلت نسيجهم الاجتماعي متماسكاً، مثل الترابط والتكافل والنجدة والمروءة والتراحم، والتداخل الأسري، والاعتدال، والتعايش مع الآخر، وتحويل الدين من طقوس إلى سلوك حياتي. هذه الخصائص كانت ثمرةً للطريقة التي دخل بها الإسلام إلى السودان، إذ لم يكن دخولاً عن طريق الفتح، بل سلمياً عبر الدعوة والتجارة والهجرات المتبادلة. وقد لعبت الطرق الصوفية في نسختها الأولى دوراً محورياً في ترسيخ قيم التسامح والتعايش والاحتفاء بالتنوع الثقافي والإثني كعامل ثراء مجتمعي، قبل أن يُستغل لاحقاً كأداة صراع هوياتي بين النخب. كما عززت جغرافية السودان هذه الخصائص، لما تتميز به من تنوع بيئي وبشري بين التساكن النيلي وحياة البدو الرحّل، وبين الطبيعة الصحراوية ومناخ السافنا، مما أسهم في تكوين مزاج اجتماعي متنوع ومتمازج يعكس عبقرية التلاقح الثقافي وعمق الخصوصية الحضارية. ومع ذلك، لا يخلو السلوك الجمعي السوداني من بعض السلبيات، إذ يميل المجتمع إلى الماضي أكثر من الحاضر والمستقبل، وتتغلغل العصبية القبلية كملاذ آمن في مواجهة عنف الدولة وصراع الموارد، مما يؤدي إلى نزاعات متكررة بين القبائل، سرعان ما تُحتوى باتفاقيات عرفية تعيد التعايش واللحمة الاجتماعية.
لا شك أن القيم الإنسانية السودانية قد تراجعت، خاصة خلال سنوات حكم البشير، حيث برزت أنماط سلوكية سلبية، وتوتر اجتماعي، ونزعات قبلية متزايدة، مثلت ردة عن التطور الطبيعي للمجتمع. وقد ساهمت سياسات “فرّق تسد” في تأجيج الفتن بين القبائل، بل داخل القبيلة الواحدة، وسعى النظام لتدمير الطبقة الوسطى — عماد المجتمع — عبر تصعيد الموالين وإقصاء الرأسمالية الوطنية والكوادر المتعلمة، مما أضعف المشاركة الاجتماعية والخدمات العامة، وغرس ثقافة التسامح مع الفساد والمفسدين. فبعد أن كان المفسد منبوذاً اجتماعياً، صار يُحتفى به في المجالس، ورافق ذلك تطرف ديني وغلوّ فكري غذّاه استغلال الدين لأغراض سياسية. ومع ذلك، ظل المجتمع السوداني قادراً على إفراز مداخل للمقاومة والصمود عبر منظمات المجتمع المدني، والعمل الطوعي، والأندية الرياضية، والمنابر الثقافية، والجمعيات والروابط، التي سدت جزئياً الفراغ الذي تركته الدولة.
مثّلت حرب الخامس عشر من أبريل أكبر تهديد للمجتمع السوداني في تاريخه الحديث. فقد سعى كل طرف إلى الهيمنة والبحث عن الشرعية على حساب وحدة النسيج الاجتماعي، بإشعال الضغائن، وتعميق العداوات، واحتقار الانتماءات الاجتماعية. ونتج عن ذلك استقطاب حادٌّ وانقسام خطير، أفرزا مظاهر من القبح والتوحش، حيث صُنِّف السودانيون إلى “حواضن اجتماعية” لطرفي الحرب، وأضحوا أهدافاً مشروعة للقتل بكل الوسائل. وتبارى بعض زعماء القبائل في إعلان الولاء والدعم لأحد الطرفين، فتحوّل المدنيون إلى محاصرين أو منخرطين أو متعاونين أو “شفشافة” يجمعون الغنائم وينهبون الممتلكات، أو ضحايا للقتل والتعذيب والاغتصاب والتهجير، بل جرى استخدامهم دروعاً بشرية في المعارك. وقد شاهد العالم كله حجم الغلّ والبغضاء والوحشية ضد المدنيين دون وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني. لقد أدّى هذا السلوك العدواني المقيت إلى اهتزاز عميق في ثقافة المجتمع، وإلى انخراط فئات منه في تغذية الحرب بدوافع الانتقام والتشفي والاستعلاء.
أحدثت الحرب تحـولات خطيرة في منظومة القيم الاجتماعية السودانية، وأفرزت مهـددات غير تقليدية للأمن القومي، من أبرزها: تصاعد الصراعات المحلية حول الموارد، وانتشار السلاح والمليشيات، وهشاشة مؤسسات الدولة، وعجزها عن الاستجابة للكوارث والنزوح واللجوء والهجرة غير الشرعية، فضلاً عن تمدد الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة والتهريب، وكلها عوامل تُغذي الاضطراب الأمني والانهيار الاقتصادي، إلى جانب تحولات ملموسة في سلوك الأفراد والعلاقات الاجتماعية.
صحيـح أن تحديات إنهاء الحرب وتحقيق السلام جسيمة، خاصة أن جذور الأزمة تكمن في الخلل التنموي والظلم الاجتماعي وفشل إدارة التنوع والضعف البنيوي للدولة الوطنية. وقد تجلت هذه المعضلات في غياب الاستقرار السياسي، والارتهان للتسويات الثنائية المؤقتة تحت مسمى “اتفاق سلام”، إضافة إلى التنافس الإقليمي والدولي على المصالح الاستراتيجية. ولكن التحدي الأكبر هو مواجهة مهـددات تفكك المجتمع السوداني، الذي لم يكن متجانساً تماماً في الأصل، وجعلته الحرب أكثر انقساماً وتشظياً. ومن الخطأ الاعتقاد أن آثارها سطحية يمكن تضميدها سريعاً، فهي لامست عصب المجتمع وأحدثت جروحاً عميقة، جعلت الوطن لقمة سائغة لدعاة التقسيم داخلياً وخارجياً.
من نافلة القول إن المجتمع كائن حيٌّ يتأثر بالمحن، وإن القيم الاجتماعية بطيئة التغيّر بطبعها، تخضع للعوامل الاقتصادية والسياسية، وان الدولة كيان ضروري لحياة الناس، تُبنى على مبدأ المواطنة المتساوية دون تمييز على أساس إثني أو ديني أو عرقي. هذه المحددات تمثل الدافع الرئيسي لبناء عقد اجتماعي جديد يعزز القواسم المشتركة بين السودانيين، ويضع أسساً لإدارة التنوع والتعايش السلمي.
تبرز هنا أهمية التدخلات الاستراتيجية لاستعادة التماسك المجتمعي كأساس للوحدة الوطنية والسلام العادل والتحول الديمقراطي. وهذه التدخلات ينبغي أن تسير بالتوازي مع الجهود السياسية لوقف الحرب، بل تُمنح أولوية لضمان تأثيرها في العملية التفاوضية والإنسانية والسياسية. ومن أبرزها:
1. الضغط بكل السبل السلمية على طرفي النزاع للعودة إلى التفاوض والتوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، وتجاوز تصلب المواقف لصالح المصلحة الوطنية، انطلاقاً من القناعة باستحالة الحسم العسكري.
2. التأكيد على أن الأوطان لا تُبنى بالغبائن، وأن السلام ليس ترفاً بل ضرورة اجتماعية وثقافية قبل أن يكون مطلباً سياسياً. فالسودانيون يتطلعون إلى يومٍ تنتهي فيه المأساة، في ظل انقسام فعلي بين حكومتين لن يوحدهما إلا مشروع وطني جامع يخاطب جذور الأزمة وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية.
3. عدم ترك التداعيات الاجتماعية للحرب رهينة التعاطي السياسي، بل يتوجب تكثيف الجهود البحثية لتحليل آثارها النفسية والاجتماعية، ودراسة أنماط السلوك والقيم، وتعزيز الصمود والتماسك المجتمعي.
4. استنهاض روافع المجتمع المدني — من مبدعين وفنانين ومثقفين وإعلاميين — لإنتاج محتوى معرفي وإنساني يعبر عن التنوع الثقافي، ويعيد الثقة في الذات الجمعية، مع التركيز على تمكين النساء وإشراكهن في الحملات التوعوية والمجتمعية والسياسية.
5. ضبط الخطاب الديني وتبني خطاب معتدل ينبذ العنف والتطرف، مع استشعار القادة الدينيين لدورهم في حماية المجتمع وغرس روح الإخاء والسلام.
6. تعزيز مفهوم التعايش كأساس للسلم الأهلي والمجتمعي، وتمكين الإدارات الأهلية من أداء دورها في تحقيق السلام الاجتماعي ومقاومة التحشيد القبلي والإثني.
7. توظيف الحملات الإعلامية والشراكات المجتمعية لتطوير إعلام خلاق وإنساني يعزز ثقافة التعايش والوحدة الوطنية.


