نازك الهاشمي وأنسنة الاقتصاد.. الكتابة في زمن البلاغة المُرهَقة

نازك الهاشمي وأنسنة الاقتصاد.. الكتابة في زمن البلاغة المُرهَقة
  • 21 مارس 2022
  • لا توجد تعليقات

تقديم كتاب التنمية والنزاهة (إشكاليات الاقتصاد السوداني) للدكتورة: نازك حامد الهاشمي .. تقديم: غسان علي عثمان

نازك الهاشمي

أن تتجرأ على كتابة مقدمة لكتاب يقع في تخصص تجد نفسك بعيداً كل البعد عنه، فهذه جرأة، لكن الدافع وراء الدخول بالكتابة في حقل ظل يمتنع عن غير أهله فإنها تقع عندي ممكنة بل وضرورية بسبب منهج المؤلف وهاجسه النقدي، وهو هاجس لا يريد للاقتصادي أن يعيش على هامش الفاعلية الاجتماعية بل يؤسس موقفه العلمي والمهني على الاشتغال بأدواته المنهجية تمزيجاً لها داخل أُطر الظاهرة؛ الظاهرة الاجتماعية لفهمها وبيان متاعبها، وهذا الزعم فيما نقرأه هنا يزداد تماسكاً كلما أوغلت في البنية المحايثة لهاجس المؤلف، وهي تترابط بشكل جدلي يعتني بالمنهجية ولكنها لا تمنعه من مزاولة مهام التحليل الثقافي لطبيعة المجتمع الذي يريد أن يرسخ فيه معالم أكثر جدة وتفهماً لمشكلاته وأزماته، وهنا فإن شُغل المؤلف بمثابة تمرين رياضي يختار من التجربة الماثلة ما يعضد به رؤاه النقدية ويحقق به سجال همومي يعتمد السؤال حول غياب الرشد والعقلانية في ممارستنا السودانية وقد سمح هذا الغياب لاستقرار البلايا وتكاثف الانحدار.
يجد القارئ في هذا الكتاب مقالات متنوعة وإن كان تعبير (المقالة) قد يشي بمعنى غياب وحدة الموضوع لكن الأمر هنا على العكس تماماً فقد اهتدى المؤلف بنظرية كلية تريد تفكيك الأزمة الاجتماعية عبر تخليصها من النقاش غير العلمي، وهل هناك أجدر من علم الاقتصاد لتقعيد المعنى والحقيقة، وما يميز شغل د.نازك أنها صبورة على وكد البحث والمصادر وهو الأسلوب المفقود في كثير من كتاباتنا إذ لا يزال المؤلفون ينتهجون خِفْة القول وتعميمه، ومرجعيات نازك هي استقاء من حقل ثقافتها الرصينة في علم الاقتصاد مع النظر بحرص إلى شكل تركيب القضية وإثارة المشكلة طمعاً في التعرية الإيجابية لا التعريض بالسلبي، هكذا ضربٌ يكتفي بالإشارة والمرور.
تظل مسألة التنمية واحدة من هموم نازك الهاشمي والسبب عمق معرفتها بالعلاقة الجوهرية التي تربط نهضة الأمم بترسيخ معنى للإنتاج، ولذا تقع في هذا الكتاب على مقالها (حول أنسنة التنمية في السودان) والأنسنة مذهب بات بمثابة أداة لمراجعة النظريات الاقتصادية، فالليبرالية في نسختها الجديدة عادت مرة أخرى لتكتشف ضعف حاستها الإنسانية تجاه الجماهير، فإن كانت تريد بالعدالة والحرية المطلقة سلوك تَعَمُّمُه الدولة وترعاه فإنها اكتشفت ألا فرق واسع بينها والاشتراكية، فالأخيرة استعاضت عن الوفرة بالاحتفال كما يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر ريجيه دوبريه، وبذا فإن النظريات الاقتصادية باتت تترجل من صِنعة التدبير والرقمنة والقياس إلى مواطن أكثر التصاقاً بالإنساني، وهذا من صميم كتابات الدكتورة نازك الهاشمي.
تجد في هذا الكتاب اهتماماً بقضية مُلحة وهي “بناء الإنسان” والشرط الارتباطي الذي يضعه المؤلف هنا أن المدخل للبناء يبدأ من العقل، أو الالتزام بأطروحة “التفكير الناقد” ويدعو الكتاب إلى ضرورة التركيز على استمرارية عملية التعلم، استمرارية لا نهائية طالما أن العالم مستمر، ومسألة التفكير الناقد كما يطرحها الكتاب تشير إلى “عقلنة” الوعي واستدامة البحث عن الأسئلة طمعاً في ترتيب الظاهرة وإحسان معاملة أفرادها، ولأن المؤلف يضع قضية التنمية أمام ناظريه يستبقي فيها الإنسان أكثر تطابقاً مع حاجات العصر، تدريباً واستعداداً بالتأهيل المرن حتى ينفع مجتمعه والعالم، وهو أمر يريد به المؤلف لفت انتباه السيسيولوجيين لضرورة تتبع التحولات الاجتماعية وربطها بقراءة للدور الفاعل الاجتماعي، وهذا مفاده كما يقول الكتاب “إعادة بناء أجيال جديدة بتنمية وتعليم التفكير الناقد في التعليم، حيث يُعد الإنسان هو العنصر الأساسي في التقدم والازدهار الحضاري”.
الكتاب يعالج الأزمة السودانية ويفرد فصوله لها، ففي الفصل الأول في الكتاب يتناول قضايا اقتصادية بالتركيز على البعد الثقافي مثل ثقافة النزاهة واشتباكها بمعضلة الفساد، إذ أن بناء النزاهة يعضد من مكافحة الفساد كما يذهب المؤلف، وللنزاهة أبعادها مثل مفهوم “النزاهة التجارية” إذ تشجع النشاط التجاري بوصفه إطاراً قانونياً يغري بالتأسيس ويصلح من فاعلية النشاط، ومواضيع كثيرة يقع عليها القارئ فالعناوين محفزة على التصفح بعمق وذلك لآنية التناول وحداثة الطرح.
ثلاثة فصول هي حصاد هذا الكتاب من جهد المؤلف، وهو جهد يستحق عليه الثناء ليس فقط لأنه ينجز بالكتابة إصلاح الرؤية وتحقيق العلمية، بل لأنه جهد مُثقل بهموم الواقع وطامح لبناء الآفاق، والثناء المستحق هنا ليس دعوى لتقبل آراء المؤلف كما هي بل لا يريد الكتاب إلا تفضيل حساسية النقد في النظر والتفكير.
جزيل الشكر لمن يكتب في وقت البلاغة المُهلكة، وهي طريقة سودانية ممتازة في تعطيل العقل والسماح للعاطفة غير المراقبة أن تدير الواقع، فالشكر عظيم لجهد الدكتورة نازك الهاشمي والمطلب ألا تتوقف عن الكتابة.
غسان علي عثمان
كاتب وباحث
20 فبراير 2022م

nazikelhashmi@hotmail.com

التعليقات مغلقة.