أماسي القاهرة ولياليها

عدت يا سادتي إلى مصر بعد سنوات طويلة من الغياب، تماما كما عاد صاحب الطيب صالح في مدخل (موسم الهجرة الى الشمال) من بلاد تموت من البرد حيتانها، بحثاً عن دفء الشرق ومجامر الحنين، فانفتحت علينا المحبات من حيث ندري ولا ندري فيا مرحى ويا مرحى… القاهرة بعد الغياب، تمددت وتشعبت لكن تظل روحها هي هي، ذات الأمكنة التي خبرناها سنوات الطلب وما تلاها، مُعتقة وفي كامل البهاء، المدن لا تشيخ، مثلها مثل القمر والشمس والسماء، دائما هناك كما التاريخ، لكن المستقبل يعلن وجوده بصوت عال فهاهنا أنفاق ما كانت هنا وهناك أبراج تعلو وجسور في كل مكان، الاكتظاظ السكاني واضح لكن قلب المدينة القديم يضج بصخبه المحبب ومدن جديدة وأحياء تنبت في كل مكان لتستوعب القادمين الجدد.
لا يجوز لي أن أبدأ هذا المكتوب توثيقاً لأماسي القاهرة ولياليها قبل الاعتذار العميق لمن لم نلتق من صحاب، قال شاعر النيل حافظ إبراهيم.
(لا تلُم كفي إذا السيفُ نبا ** صحَّ منِّي العزمُ والدهرُ أبى)
فيقيناً صحَّ العزم وعُقدت النيَّة لكن ما تيسر اللقاء لضيق الوقت وتسارع الأحداث، شديد الأسف للأعزاء والعزيزات الذين لم نتمكن من رؤيتهم، أملاً أن يحدث ذلك في القادم من الأيام، واعتذار آخر مستحق لصباحات القاهرة التي غابت عن عنوان هذا المكتوب عمداً، فما رأينا كثيرا منها! فالمدينة تبدأ يومها مع الأماسي وتغفو بعد الفجر، ذلك إن غفت.
بدأتْ أيام القاهرة بفاتحة شديدة الندرة وأغلب الظن أنها غير مسبوقة، فقد جاءنا عيد الفطر مرّتين! غادرتُ نيويورك مغرب آخر أيام رمضان المبارك، وأُعلن العيد وبدأ الاحتفاء به في بلادنا البعيدة تلك وتبادل الناس التهاني وتبدّل المزاج العام لفرحة العيد. استقبلتنا القاهرة بُعيد ذلك بساعات لنجد القوم في يوم صومهم الأخير! أصبحنا بعدها والعيد يشملنا بأفراحه مرَّة أخرى. هي واحدة من الصدف التي لا تحدث في حيوات البشر إلا قليلا، عيدٌ إثر عيد وبينهما طائرة، كانت بشرى لأيام تشبه الأعياد.
كل فرد في هذا الكون تتقاطع حوله مدارات عديدة فهذا من طبائع الأشياء، هناك الأهل والأرحام ورفاق الدراسة وزملاء العمل والجيران والأصدقاء القدامى والجدد وغيرهم، كل هذه التقاطعات بالضرورة تتكامل لتشكل خرزات في مسبحة الواحد منَّا. هم كما الألوان البديعة التي تصنع لوحة اسمها الحياة. القاهرة تمنحك من كل مدار بعض أنجم، الكثيرون هناك بعد أن قذفت بهم الحرب، هذا الوجود السوداني الكثيف يملأ المكان والزمان بالجمال، وبينما تسكنهم أحلام العودة تجدهم يحاولون خلق الوطن البديل كامل النكهة والدسم. هؤلاء كانوا هناك في الموعد تماماً يجمِّلون الأيام، ينسجون الأفراح والأحداث فلهم الشكر الغزير والامتنان الوفير، وعظيم التقدير.
فاكهة هذي الأفراح احتفاءً بمن هبطوا مصر من المنافي، كانت رحلة على النيل، ذاته نيلنا وإن غابت أرضنا السمراء. ذاك يومٌ كأنّه من رواية خيالية، صحبة آسرة وباخرة فاخرة تتهادى وغروب كما اللوحات وسمر وضحكات من القلوب وطعام مما يتخيرون وموسيقى من مكان ما، الجو ذاته وكأنه تواطأ ليكتمل المشهد فكانت نسماته أقرب للبرودة الهادئة التي تلتحم بدفء الحضور في تناغم لخلق السيمفونية الأجمل. هي من تلك الأماسي التي تختزنها الذواكر لتتوكأ عليها في أرصفة المدن القصية.
تدشين العدد الثالث لمجلة (نوبيانا) كان الحدث الثقافي الأهم الذي أسعدتنا المقادير بالمشاركة فيه، نوبيانا مجلة نوبية المنبت والهوى شاملة المحتوى وهي اختراق حقيقي في عوالم الثقافة والكتابة مرتفعة القيمة رفيعة المستوى، فالمجلة الوليدة تستكتب أكبر الكتّاب وينساب على صفحاتها الفخيمة مداد أقلام فطاحل. تغطِّي المجلة في إصداراتها مساحات واسعة من المعارف والعلوم. فعالية التدشين نفسها كانت ليلة للمثاقفة ولحوار أهل العلم والفنانين من حاضري الأمسية من أعلام الأدباء والمبدعين والمبدعات النوبيين السودانيين والمصريين
في مختلف المجالات احتفاءً بالعدد الجديد من المجلة التي تستحق الاقتناء، فأنعم بها من ليلة.
عطفاً على ذكر الثقافة والإصدارات، كان من المنعش جداً وجود مكتبة مدبولي العريقة شامخة في ذات المكان في وسط المدينة. ما عاد مسموحاً لهم بعرض الكتب في المساحة أمام المكتبة كما كانوا ذات أزمنة وحشود القرَّاء تتجوَّل بين العناوين، لكنها معبأة بثروات من المعرفة بين أغلفة، ويعمل بها ثلَّة من العارفين بالكتب وبها قسم صغير للإصدارات السودانية. هذا الالتزام الطويل بالمطبوعات الورقية رغم تراجع الطلب يستحق الإشادة.
كان لزاماً العودة إلى الإسكندرية، مرابع الصبا الخصيب وسنوات الطلب النديَّة المترعة بالدهشة الأولى والاكتشافات والإنجازات والجنون، أتيتها متوجساً من باب (أم هل عرفت الدار بعد توهّم!) وكان أن عرفتها. من رائحة البحر ولون سيارات الأجرة، (وتُرامِها العتيق ومحطة رملها وسعدِها وصفيتِها)، وغير ذلك كثير. تفاصيل كثيرة مزروعة في دروبها مكتوبة على رمل شواطئها وفي ذات الحين منقوشة في تلافيف الذاكرة بأحرف من نور.
ساقتني الخطى للأكاديمية البحرية حيث ذكريات خمسة أعوام وأكثر بين تلك الأبنية. كانت هي الزاد في رحلة الحياة، وجدت المبنى في ذات البريق والمكان يضج بالحياة وشابات وشباب في مقتبل العمر يحملون أحلامهم وأوراقهم نحو عوالم يظلّلها الأمل. الوقوف في تلك البقعة تحديداً بعد عقود ثلاثة كان تجربة إنسانية وشخصية فريدة وبلا كثير عناء اندلقت الذكريات بدورها دفعةً واحدة وبلا نظام، تلمح صوراً من الماضي وهي تومض، ترى هذا وتلك، البعض شديد الوضوح والبعض غائم، أمكنة وأحداث وأناسي كثيرا، أسماء تلمع وأخرى ضيعتها السنوات. رحل من رحل وغيّبت الأيام البعض وتسرَّب الآخرون كما العطر في أركان الأرض. يطل وسط هذا الزحام سؤال محمود درويش السرابي
(إن أعادوا لك ‘الأماكن’ القديمة، فمن يُعيد لك الرفاق؟)
سقى الله أيام الإسكندرية والقاهرة قديمها وجديدها، تلك التي منحتنا عبر السنين دفقة من حنين وبعض ابتسام وشكر لكل من جعل ذلك ممكناً.