السودان بين استعادة الدولة وإنهاء حقبة المليشيات- من العلمين وكرن.. جيشٌ ضيّعته المليشيات

قرار القيادة العامة للقوات المسلحة بإخضاع جميع القوات المساندة لسلطة قانون القوات المسلحة لسنة 2007 يمثل منعطفًا تاريخيًا في مسار الدولة السودانية. فهذا القرار، إن طُبِّق بصرامة، يعني استعادة الدولة لسيادتها الكاملة على السلاح، وكسر الحلقة الجهنمية التي جعلت السودان لعقود رهينة لمليشيات متناحرة ومصالح شخصية ضيقة.
لم يكن السودان يومًا بلدًا بلا جيش قوي أو مؤسسة عسكرية محترفة. على العكس تمامًا، فقد امتلك السودان أحد أفضل الجيوش في أفريقيا والعالم العربي، وكانت الكلية الحربية السودانية مقصدًا للطلاب العسكريين من مختلف العواصم العربية والأفريقية، لما اشتهرت به من انضباط صارم وتأهيل رفيع.
ولم يقتصر دور الجيش السوداني على الداخل، بل لعب أدوارًا بارزة على المستوى الإقليمي والدولي:
كان من أميز القوات المشاركة في قوة الردع العربية في لبنان، حيث حظي باحترام وتقدير واسع.
أرسلت الخرطوم قواتها في ستينيات القرن الماضي إلى الكويت لحمايتها من تحرشات النظام العراقي، في موقف قومي مشرّف جسّد التزام السودان بأمن أشقائه العرب.
و شاركت القوات المسلحة السودانية في حرب اكتوبر 1973 بجانب القوات المصرية و قدمت ارتالا من الشهداء.
وخلال الحرب العالمية الثانية، سطّر الجنود السودانيون بطولات خالدة في معارك العلمين و طبرق وكرن، حيث قدّموا تضحيات عظيمة نالت إعجاب الحلفاء واحترام العالمً مهدت لان ينال السودان استقلاله.
هذا الإرث المجيد يوضح أن السودان كان يمتلك نواة دولة قوية وجيشًا وطنيًا محترفًا، لولا أن عبثت به الأنظمة المتعاقبة عبر تسييسه، وإضعافه بالاعتماد على المليشيات التي التهمت دوره وهيبته.
التجارب العالمية أثبتت أن المليشيات حينما يُسمح لها بالتمدد، تصبح خطرًا على فكرة الدولة نفسها. ففي الصومال انهارت مؤسسات الدولة تحت ضربات أمراء الحرب. وفي ليبيا تحولت المليشيات إلى قوى متناحرة تتقاسم العاصمة والموانئ والحقول النفطية. وفي لبنان، صار حزب الله دولة داخل الدولة.
ولم يكن السودان استثناءً؛ فقد بلغ التهاون مبلغًا خطيرًا حين تولت قوات الدعم السريع حراسة أهم المرافق الحيوية في البلاد: مقر الإذاعة والتلفزيون، مطار الخرطوم، القصر الجمهوري، ومعظم المرافق الحساسة. بل إن الدولة اعتمدت اعتمادًا شبه كلي على هذه القوات، فيما أُهمل التجنيد والتأهيل في صفوف القوات المسلحة.
أما القيادة العسكرية، فقد انشغلت ببناء إمبراطوريات تجارية واستثمارية بعيدة عن مهامها الأصلية في حماية البلاد، ورفضت حتى إدماج ميزانياتها في حسابات وزارة المالية. وهكذا، تفككت علاقة الجيش بدوره الطبيعي، وانفتح الباب واسعًا أمام المليشيات لتتحول إلى جيش موازٍ يمسك بخناق الدولة.
لقد دفع السودان ثمنًا باهظًا لتغوّل الحركات المسلحة والمليشيات على جسد الدولة. فمنذ اندلاع الحروب في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، كانت الشعارات المرفوعة: العدالة، المساواة، وإنهاء التهميش. لكن حين وصل قادة هذه الحركات إلى السلطة، لم يصبحوا سوى أداة جديدة لتقاسم النفوذ والثروة، بينما ظلت المناطق التي ادّعوا تمثيلها غارقة في الجوع والحرب.
خير مثال على ذلك جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي: قادة جلسوا في القصر الجمهوري، لكن دارفور ما زالت تحترق وتئن، وأحلام أهلها بقيت أسيرة الوعود والخطابات.
ما جرى في السودان لا يختلف كثيرًا عن تجربة لبنان مع حزب الله. فالمليشيا التي ترفع شعار “المقاومة” و “حماية الدولة” سرعان ما تتحول إلى دولة موازية تُرهن القرار الوطني لمصالحها الخاصة. وكما صار لبنان لعقود رهينة لرغبات حزب الله، صار السودان رهينة مليشياته: جيش موازٍ، اقتصاد موازٍ، وسلطة موازية.
لكن الفارق أن لبنان الان بدأ يتلمس طريق التحرر بعد اغتيال حسن نصر الله وانحسار قبضة الحزب، بينما السودان ما زال يدفع ثمن صناعة “نصر الله سوداني” على هيئة مليشيات الدعم السريع وأخواتها.
لا يمكن قراءة هذا الواقع دون تحميل المسؤولية لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي فتح الباب واسعًا أمام تسليح العشائر والمليشيات، وجعل السلاح أداة حكم وحماية للنظام. أما الفريق عبد الفتاح البرهان، فبدل أن يتعلم من التاريخ، أعاد إنتاج الأخطاء ذاتها: سلّح قوات الدعم السريع، اعتمد عليها، وتركها تكبر حتى ابتلعت الدولة، لتنفجر الحرب الكارثية الحالية.
لو كان قرار إخضاع كل المليشيات للقانون قد صدر قبل سنوات، لما وصل السودان إلى هذا الدرك من التمزق والانهيار. فهذا القرار ليس مجرد إجراء عسكري، بل هو إعلان سياسي بأن الدولة فوق الجميع، وأن زمن “السلاح الموازٍ” و”الولاء القبلي” و”الحركات المؤدلجة” قد انتهى.
اليوم، أمام السودان فرصة تاريخية:
إن طُبِّق هذا القرار بجدية، فسيعيد هيبة الدولة ويمنع تكرار تجربة حزب الله أو الدعم السريع.
وإن تراخى أو خضع للمساومات، فإن السودان سيظل أسيرًا لدورة الدم والانقسام.
إن السودان لا يحتاج إلى مليشيات، بل إلى دولة قوية موحّدة، تستعيد مجد جيشها العريق، وتسود فيها العدالة، ويحكمها القانون، وتعود إلى مكانتها الطبيعية بين الأمم.