الوفاء الصامت

الوفاء الصامت
  • 22 سبتمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

مساعد النويري

في ظلال التاريخ السوداني الحديث، وقف الإمام الصادق المهدي شامخًا كرمز للثبات والإصرار في مواجهة التقلبات السياسية وعواصف الزمن، كالجبل الراسخ الذي لا تهزه الرياح، وكالنهر الذي ينحت مجراه عبر الصخور مهما اعترضته العوائق والصعاب. وفي ظل هذا الثبات، برز رجال لم تشغلهم الأضواء كثيرًا، ولم يكن تركيزهم أن تتجه إليهم الأنظار، لكنهم كانوا القلب النابض للإدارة، وركيزة القرار، وسند الاستقرار في حياة الإمام. ومن بين هؤلاء الأوفياء، يظل محمد ذكي، سكرتيره الخاص، أنموذجًا نادرًا للوفاء والدقة والكفاءة، رافق الإمام في حله وترحاله منذ عودته  في تفلحون حتى أطفأت الأيام شمعة حياته، ولم يتخلّ يومًا عن أداء رسالته الصامتة، متحديًا الزمن وضغوط السياسة ومتطلباتها اليومية.
محمد ذكي لم يكن مجرد موظف يدير الملفات، بل كان صديقًا وفيًا، وحارسًا للسر، ومرآة لصبر الإمام وعزيمته. حمل تفاصيل الحياة اليومية التي لا يعرفها إلا من عاش في كنف الوفاء، وكان اليوم بالنسبة له رحلة صمت وجهد وإخلاص، يوازن فيها بين أولويات القائد وتقلبات الأحداث، دون أن ينتظر شكرًا أو تقديرًا أو وهجًا إعلاميًا. لقد جسّد الولاء الحقيقي، الذي لا يُقاس بالمال أو المناصب، بل بالنوايا الصافية والعمل الدؤوب.
ولم يكن محمد ذكي رجلًا رسميًا جافًا، بل كان إنسانًا دمث الخلق، يحمل روح النكتة الحاضرة التي تخفف من ثقل الأيام، وتفتح نافذة من الألفة وسط رتابة السياسة. كان وفيًا في علاقاته مع الآخرين، صادقًا في وده، حاضرًا بابتسامة لا تغيب، قريبًا من القلوب بخفة ظله وطيب معشره. وفي كثير من الرحلات التي جمعتنا بالإمام، كانت له قفشات وحكايات لا تُنسى، تضفي على العمل الرسمي مسحة إنسانية دافئة، تكشف عن قلب واسع يجمع بين الجدية في العمل وخفة الروح في المعاشرة. كان كريمًا جدًا، لا يبخل بعطاء ولا يضن بابتسامة، حاضرًا في المجالس بحضوره الخفيف الظل، سهلًا قريبًا من القلب.
وإلى جانب ذلك، كان نشطًا في التواصل مع الصحافة والهيئات الدبلوماسية والإعلامية، حرصًا على أن يظل صوت الإمام حاضرًا في الساحات كافة، ومواقفه واضحة لدى الرأي العام. لقد كان حلقة وصل بين مكتب الإمام والعالم الخارجي، يوزع الأخبار كما يوزع الضوء، ويجعل من نشاطه اليومي جسرًا يصل القائد بمحيطه.
وعند كل صباح، كان يبدأ برنامجه الطويل بدقة متناهية. ولأن الإمام قارئ نهم، فقد كان يجد أمامه ملفات أنيقة مرتبة بعناية، تحوي أهم العناوين في الصحف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية، وأخرى تضم مقالات وأعمدة من الصحافة العالمية – الإنجليزية والأمريكية وغيرها – ليظل الإمام ملمًّا بتفاصيل الأحداث المحلية والإقليمية والدولية. كنت شاهدًا على هذا الجهد مرارًا، أرى كيف كان محمد ذكي يقرأ ويختار ويصنّف ويرتب الأولويات ويقدّم ملخصات دقيقة للإمام. ثم لا يغادر المكتب إلا بعد أن يطفئ آخر مصابيح النهار، تاركًا خلفه أثرًا من الوفاء الصامت والجهد الدؤوب، بعيدًا عن ضوضاء الإعلام والأضواء.
محمد ذكي لم يكن سكرتيرًا فحسب، بل كان قلب المكتب النابض، يسهر على تنظيم اللقاءات الرسمية والسياسية والاجتماعية، متأكدًا أن كل لقاء يحتاج إلى استعداد، وأن كل ملف قد يحمل قرارًا مصيريًا للوطن. عمله لم يكن روتينًا، بل كان تفانيًا وإخلاصًا نادرين، وتجسيدًا لصمود رجل حمل مسؤولية ثقيلة بحبّ وصبر.
لقد كان ظلًا وفيًا في لحظات الغربة والمنفى، ومعينًا صادقًا في أيام السجن والاعتقال، يمدّ الإمام بأخبار الوطن، ويذكّره أن السودان حاضر في القلب مهما ابتعدت المسافات. وحين كان الإمام يشارك في الندوات أو المؤتمرات، كان محمد ذكي هو اليد التي ترتب الأفكار، والعقل الذي يلخص النقاشات، والقلم الذي يوثق المذكرات. لم يكن يؤدي واجبًا وظيفيًا فحسب، بل كان يعيش القضية بكل جوارحه، ويجعل الوفاء فعلًا يوميًا متجددًا.
لقد كان مثالًا لمدرسة خاصة في العطاء والالتزام، مدرسة تؤكد ان القيادة ليست فردًا واحدًا بل فريقًا، وإن العظمة لا تُصنع بالخطابة وحدها، بل بأيادٍ صادقة تكتب وتوثق وتدير وتظل في الخطوط الخلفية، راضيةً أن يكون عطاؤها للآخرين لا لنفسها . كان الإمام يجد فيه مرآة صافية لصبره وعزيمته، وصورةً من صور الإخلاص الذي لا يعرف المساومة.
رحل الإمام، لكن بقي الوفاء الذي مثّله محمد ذكي شاهدًا على أن التاريخ لا يكتبه القادة وحدهم، بل يكتبه أيضًا أولئك الصامتون الذين عاشوا في الظل ليضيئوا الطريق. لقد حمل عبء الصمت، لكنه صنع بالكلمة المكتوبة والمعلومة الموثقة ما لم تصنعه الخطب الرنانة.
لقد تميز بقدرة استثنائية على التنظيم وترتيب الأولويات، وعلى متابعة تفاصيل الأحداث بدقة، مدركًا متى يجب تسريع القرار ومتى ينبغي الانتظار، وما يستحق تدخل الإمام وما يمكن إنجازه بدونه. هذه المهارات جعلت منه مثالًا يُحتذى به لكل من يعمل في خدمة قائد أو فكرة.
وبرغم صعوبة العمل إلى جانب قائد بحجم الإمام الصادق ، وضغط السياسة وتقلب الأحداث وتعقيدات الداخل والخارج، فقد ظل يتعامل مع كل المواقف بهدوء وحكمة، كمن يحمل شعلة وسط العواصف. وبعد وفاة الإمام، لم يتوقف دوره، بل صار حارسًا للإرث، ومرشدًا لكل من أراد فهم شخصية الإمام ومواقفه، ضمانًا أن يبقى أثره واضحًا بعيدًا عن التشويه والنسيان.
وقد كانت الثقة بين الإمام ومحمد ذكي ثمرة التزام طويل، وإخلاص صادق، وتفاهم نادر في عالم السياسة حيث تطغى المصالح. كان مرآة صادقة للإمام، يستمع، ينفذ، يعدّ، ويقدّم الرأي المخلص إذا طُلب منه، بلا مجاملة ولا تزييف. هذه العلاقة الإنسانية النقية منحت الإمام سعة في التركيز على قضايا الوطن، ومنحت محمد ذكي مسؤولية جسيمة، لكنه حملها بوفاء واحترافية لا تتكرر.
وما يضاعف قيمة هذا الوفاء أن محمد ذكي رفض المبلغ المالي الذي أوصى به الإمام تقديرًا لجهوده الطويلة، مؤكّدًا أن الولاء لا يُشترى بالمال، وأن ما جمعته السنوات من مشوار مشترك وما حفلت به من تحديات هو أكبر من أي مكافأة. لقد جسّد بذلك معنى الإخلاص النقي الذي لا تحدّه الماديات، وجعل من الوفاء قيمة عليا تتجاوز الزمان والمكان.
إن قصة محمد ذكي درس خالد للأجيال في معنى الوفاء والصبر والإخلاص، في العطاء بلا مقابل، وفي أن تكون جزءًا من قصة قائد عظيم. فالتاريخ كثيرًا ما يذكر القادة، لكنه يغفل الأوفياء الذين صاغوا خلف الكواليس ملامح التجربة، وحموا الإرث من الضياع. هؤلاء الذين يعيشون في الظل ليضيئوا الطريق، هم العمود الفقري لأي قيادة حقيقية.
محمد ذكي، الرجل الذي عاش في كنف الإمام، يظل رمزًا لذلك الوفاء الصامت الذي يصنع الفرق الكبير، ويحفظ الذاكرة من التشويه، ويثبت أن لكل قائد عظيم رجالًا أوفياء يحملون الرسالة في صمت، فيجعلون الأفكار الكبيرة واقعًا، والقيم والمبادئ إرثًا خالدًا للأمة.
وهكذا، فإن قصة محمد ذكي ليست مجرد صفحة في كتاب الإمام الصادق المهدي، بل هي فصل من فصول السودان نفسه، حيث الوفاء يعلو فوق المصلحة، وحيث الإخلاص يهزم كل بريق زائف. لقد علّمنا أن الرجال يُعرفون بمواقفهم لا بمناصبهم، وبما يعطون لا بما يأخذون. وفي زمن كثرت فيه الخيانات، يظل الوفاء الصامت صرخة عالية بلا صوت، تقول للأجيال: من يخدم الفكرة بإخلاص يظل خالدًا، ومن يحرس القيم بصدق يخلّده التاريخ ولو كان في الخطوط الخلفية.
إن السودان، الذي أنهكته الحروب والانقسامات، يحتاج اليوم قبل الغد إلى أمثال محمد ذكي، رجال لا يتصدرون المنابر، لكنهم يصنعون التاريخ بأفعالهم؛ لا يرفعون أصواتهم بالشعارات، لكنهم يرفعون قيمة الوطن في قلوبهم. فالقيادة لا تستقيم إلا إذا وجدت أوفياء يحملونها في السراء والضراء، ويجعلون من إخلاصهم جدارًا يحميها من الانهيار.
ولئن رحل الإمام، ورحل معه كثير من رفاقه، فإن الوفاء باقٍ، والإخلاص ممتد، والتجارب العظيمة لا تموت بموت أصحابها، بل تبقى منارات تهدي السالكين. وسيبقى محمد ذكي شاهدًا على أن التاريخ العميق لا يُكتب بالحبر وحده، بل بالعرق والدموع والصدق، وأن الصمت قد يكون أبلغ من الكلام إذا كان صمت وفاء.
ذلك هو المعنى الأسمى للوفاء الصامت أن تظل واقفًا في الظل، لكنك تصنع في الظل نورًا لا يخبو، وترسم للوطن مسارًا لا يضيع، وتترك في ذاكرة الناس أثرًا لا يزول .
وذلك هو محمد ذكي، رجل لم يطلب شيئًا من الدنيا سوى أن يكون مخلصًا لفكر آمن به، وزعيم أحبّه، ووطن ظل حاضرًا في قلبه وعقله حتى آخر العمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*