الأربعاء - 21 ربيع الثاني 1447 هـ , 15 أكتوبر 2025 م

لجان مقاومة الفاشر : حتى الأمباز اختفى “الوقت ينفد والجوع سيقتلنا قبل المدافع”

الشرعية الاقتصادية“ فى السياق الصينى: الإنجازات والدروس المستفادة

الشرعية الاقتصادية“ فى السياق الصينى: الإنجازات والدروس المستفادة
بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي

”لا يهم ما إذا كان القط أسوداً أو أبيضاً، طالما إنه يصطاد الفئران
“(دنغ شياو بينغ، الزعيم الأعلى للصين: 1978-1997)
في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت الصين قد بدأت تتعافى من كارثة ما سمى وقتها ب”القفزة الكبرى إلى الأمام” (1958-1961)، التي أدت إلى انتشار المجاعة والانهيار الاقتصادي. كان دنغ شياو بينغ وقتها من بين كبار قادة الحزب الشيوعي الصينى الذين حاولوا استعادة الإنتاج الزراعي والاستقرار الاقتصادي. استخدم الزعيم دنغ لأول مرة استعارة “لا يهم ما إذا كان القط أسوداً أو أبيضاً، طالما أنه يصطاد الفئران” في عام 1962، أثناء دفاعه عن الإصلاحات الريفية البراغماتية في مقاطعته الأم قوانغشي ولاحقاً في مقاطعة سيتشوان، ثالث أكبر مقاطعة صينية من حيث عدد السكان. إلا أن العديد من مقترحات دنغ – مثل السماح للفلاحين بزراعة قطع أراضي صغيرة خاصة أو الانخراط في تبادلات سوقية محدودة – قد أُعتبرت “مشبوهة أيديولوجياً” من قبل الماويين المتشددين، الذين رأوا فيها “انحرافات رأسمالية”، مما أدى إلى إقصائه من منصبه فى الحزب والدولة وإرساله للعمل في مصنع جرارات في مقاطعة جيانغشي الريفية في أكتوبر 1969. وظل هناك لمدة أربع سنوات تقريباً، يؤدي أعمالاً يدوية.من حسن حظ الصين أن الحزب الشيوعى الصينى بعد وفاة الزعيم الأعلى ماوتسى تونغ رد الإعتبار للسيد دنغ وأصبح الزعيم الأعلى الجديد للصين منذ عام 1978 حتى وفاته فى العام 1997. كانت فلسفته السياسية تتمثل فى أن “فعالية السياسة (قدرتها على حل المشاكل الاقتصادية الحقيقية) أهم من نقائها الأيديولوجى”. فقد أفصح مثل “القط الأبيض والأسود” عن فلسفة الزعيم دنغ السياسية طوال حياته المتمثلة في الإصلاح البراغماتي، الذى أسماه لاحقاً “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. وهي ترمز إلى الانفصال عن “الأرثوذكسية الماوية” وإعتماد فكرة أن السياسات يجب أن يُحكم عليها بالنتائج، وليس بالعقيدة الأيدلوجية المحضة. قد تبدو رؤيته هذه بسيطة ولكنها أحدثت تحولات جذرية في السياق الاشتراكي الصينى، حيث أصبحت استعارة “القط الأسود والقط الأبيض” مرادفاً للبراغماتية السياسية في الصين والعالم النامي بشكل عام، مجسدة فكرة أن الأيديولوجية يجب أن تخدم التنمية، لا أن تقيدها – وهو مبدأ تردد صداه لاحقاً في مسارات الإصلاح في فيتنام (Đổi Mới) وإثيوبيا (في عهد ميليس زيناوي) ودول نامية أخرى.
ما هى إنجازات المشروع الوطنى الصينى فى ظل شرعية الزعيم دنغ الاقتصادية؟إذن في جوهرها، استطاعت قطة دنغ أن تجسد جوهر ”الشرعية الاقتصادية“: السلطة التي لا تبررها الأيديولوجية، بل تحقيق نتائج تحسن حياة الناس. فتحت إشرافه وفلسفته البراغماتية شهدت البلاد تحولاً اقتصادياً تاريخياً نقلها من اقتصاد اشتراكي مغلق إلى اقتصاد سوق اشتراكي منفتح وديناميكي. أطلق دينغ في عام 1978 سياسة “الإصلاح والانفتاح” (Gaige Kaifang) التي سمحت للمزارعين بالعمل في نظام المقاولة العائلية بدل الكومونات الجماعية، وأُنشئت المناطق الاقتصادية الخاصة مثل مدينة شينزن لجذب الاستثمارات الأجنبية. كما تم تحرير الأسعار تدريجياً وتشجيع القطاع الخاص وتوسيع التجارة الخارجية، ما أدى إلى نمو اقتصادي متسارع تجاوز 9% سنوياً لأكثر من ثلاثة عقود. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وارتفع دخل الفرد وانخفضت نسبة الفقر من ما يربو على 80% من السكان في 1980 إلى أقل من 2% بحلول 2020. بذلك، أرسى دنغ نموذجاً للشرعية السياسية يقوم على النجاح الاقتصادي والنتائج الملموسة بدلاً من الشعارات الأيديولوجية، فيما يمكن توصيفه بـ “الشرعية الاقتصادية” للحزب الشيوعي الصيني.
لكن ماذا عن الحزب الشيوعى الصينى وشرعيته السياسية؟
عندما بدأ دنغ شياو بينغ الإصلاحات في عام 1978، كان بقاء الحزب الشيوعي الصيني فى السلطة مرهوناً باستعادة الشرعية بعد إنحسارها بصورة كبيرة جراء الدمار الاقتصادى الذي خلفته الثورة الثقافية. أعادت شعارات دنغ مثل “التنمية أولاً” و”التنمية هي الحقيقة الصعبة“ تعريف سبب وجود الحزب ومبرر بقائه فى السلطة. وقد أستطاع الحزب تحويل هذه الشعارات إلى واقعٍ ملموسٍ، حيث استطاع إنجاز تحولاً اقتصادياً غير مسبوق:
• نما الناتج المحلي الإجمالي من 150 مليار دولار في عام 1978 إلى أكثر من 17 تريليون دولار في عام 2023 – بزيادة 100 ضعف.
• خرج أكثر من 800 مليون شخص من دائرة الفقر، في أسرع وأكبر عملية للحد من الفقر في تاريخ البشرية.
• وأصبحت الصين أكبر دولة تجارية في العالم وقوة تكنولوجية كبرى.
بلا شك فقد أدت شرعية الحزب الاقتصادية المترتبة على هذه الإنجازات المبهرة إلى إكتسابه قدراً كبيراً من “الشرعية السياسية” كما تجلى في استمرار الاستقرار السياسي: لم يحدث تغيير في النظام، ولم تحدث انقسامات كبيرة بين النخبة – استمرارية استثنائية مقارنة بالدول الاشتراكية أو ما بعد الاشتراكية الأخرى. أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات بحثية مختلفة، مثل تلك التي أجراها مركز آش التابع لجامعة هارفارد في عام 2020، أن أكثر من 90٪ من الجمهور راضون عن أداء الحكومة المركزية. علاوة على ذلك، أدى النجاح الاقتصادي أيضاً إلى تعزيز القوة الناعمة للحزب من خلال توظيف الشعور الغامر للشعب الصينى بأن صعود الصين يعيد العظمة التاريخية للبلاد و”استعادة أمجاد الحضارة الصينية”، مما منح الحزب شرعية عاطفية تتجاوز الأداء المادي. باختصار: استبدلت الصين الحماس الثوري بالأداء التنموي، المستند جزئياً على إنفتاح برامجى مع صندوق النقد والبنك الدوليين، كما أبنا فى مقالات سابقة – وبذلك، حولت النجاح الاقتصادي إلى شرعية سياسية مستدامة. أيضاً، من الأهمية بمكان التنويه إلى أن مرجعية “جودة الأداء” كأحد الأدوات المعيارية لمبدأ ”الشرعية الاقتصادية“ قد مكنت الحزب من تطوير آليات متينة، قابلة للقياس للمساءلة الداخلية ولتقييم أداء قادة ومنسوبى الحزب. ومع ذلك، فإن استمرارية تلك الشرعية تعتمد الآن على استمرار النمو مع معالجة مشاكل عدم المساواة والشيخوخة والضغوط البيئية – دون وجود آليات تصحيحية للمساءلة الديمقراطية. في عهد شي جين بينغ، تعززت مركزة السيطرة السياسية للحزب وإعادة صياغة للشرعية نحو ”الرخاء المشترك“ – في محاولة للتخفيف من عدم المساواة دون التخلي عن هيمنة الحزب.
على الرغم من نجاح الحزب الشيوعي الصيني في اكتساب الشرعية الاقتصادية من خلال عقود من النمو السريع والتحديث، إلا أن حكمه الشمولى قد قوض شرعيته بين بعض الأقليات الدينية والعرقية في الصين. وعلى وجه الخصوص، واجه المسلمون الأويغور في شينجيانغ وبعض المجتمعات البوذية في التبت اضطهاداً ممنهجاً، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية، والقيود على العبادة والتعبير الثقافي، والمراقبة التدخلية، وسياسات الاستيعاب القسري. وقد أدت هذه الإجراءات، التي بررها الحزب باعتبارها ضرورية للأمن القومي والتماسك الاجتماعي، إلى تآكل الثقة وتفاقم الشعور بالتهميش. ونتيجة لذلك، في حين أن شرعية الحزب الشيوعي الصيني القائمة على الأداء لا تزال قوية على المستوى الوطني، فإن معاملته القسرية لهذه المجتمعات تكشف عن الحدود الأخلاقية والاجتماعية للشرعية الاقتصادية في غياب الاندماج السياسي والثقافي.
خاتمة:
تُظهر التجربة الصينية أن الشرعية الاقتصادية يمكن أن تكون رافعة قوية لبناء الاستقرار السياسي وتعزيز مكانة الدولة، لكنها تظل غير كافية ما لم تُدعَّم بشرعية سياسية ومؤسسية قائمة على المشاركة والمساءلة. فنجاح الصين في التحول من اقتصاد مغلق إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم قد كان بالأساس ثمرة البراغماتية والإصلاح القائم على النتائج فى سياق الأيديولوجيا “التقدمية” المتمثلة فى قيادة الدولة للإقتصاد والتخطيط الاستراتيجى، وهو درس بالغ الأهمية للسودان في سعيه نحو انتقال سلمي مدني ديمقراطي. فالمطلوب ليس استنساخ التجربة الصينية، بل استلهام منهجها في بناء توافق وطني حول التنمية كأولوية، وتبني مؤسسات فعالة تقدم أداءً ملموساً في تحسين حياة المواطنين. على السودان أن يؤسس لشرعية مزدوجة: شرعية سياسية ديمقراطية تُبنى على العقد الاجتماعي الجديد، وشرعية اقتصادية ترتكز على الإنجاز والعدالة في توزيع الثروة، بحيث تتكاملان في إرساء دعائم دولة مستقرة ومنتجة تضع مصلحة المواطن فوق الأيديولوجيا.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
دخول سجل اسمك المستعار
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور