حين اغتال الغدر مجلس الصلح

في السابع عشر من أكتوبر الجاري عُقد مجلسا للصلح لإطفاء فتنة نشبت في المزروب بشمال كردفان بين الأهالي وقوات الدعم السريع. وكما هو العرف سارعت الإدارة الاهلية واجتمع الأمير سليمان جابر جمعه سهل وخبرة حكماء المنطقة مع مناديب من قوات الدعم السريع لاجلاء سبب الاعتداء على الأهالي بمدينة المزروب ومن جهة أخرى توضيح دوافع الأهالي وتصديهم للمتفلتين . وكانت نية اطفاء النار وتجاوز الغبائن وتسكين النفوس وطمأنة القلوب حاضرة ، غير أن يد الغدر كانت تتربص بالأمير سليمان وصحبه فاختارت أن تُطفئ نور السلام بظلام الخيانة والغدر والاغتيال غيلة وغدراً.
وحسب محدثي فقد كان في صدر مجلس الصلح، الأمير بن الأمير بن الأمير ، سليمان جابر جمعه ود سهل ، رجلُ الحكمة والوفاء والوقار والمهابة، والابتسامة الصادقة التي تغطي محياه، سليمان الذي طالما حمل همّ اهله على كتفيه، وسعى بين الناس كل الناس بالإصلاح كما يسعى المطر بالخصب في الأرض العطشى.
كان الشهيد سليمان حاضراً في مذبحة تفلنق في نوفمبر ٢٠٢١ ووقف بجسده بين اهله في دار حامد وبين كتول. وقال لهم من يريد أن يقتل فليبدأ بي. مثلما كان رسول سلام في مقتلة (اولاد رحمن) من عشيرة العريفية واهله المجانين في ٢٠٠٧م.
ولم يكن غائبا قط في مجالس الصلح في اي منطقة من مناطق البلاد. وكان حضوره في “منطقة الشر بقدل ” امرا طبيعيا ومن صميم عمله وهو تسوية الفتن والمنازعات وخاصة الفتن التي تنشب مع الدعم السريع، وهذا المجلس ليس استثناء ولا مجلس طمع في جاهٍ أو سلطان، بل مجلس نية خالصة لوجه الله والمروءة، ودفاعاً عن النفس والعرض وعن (المجنونيات) . وكالعهد به كان يدخل المجالس بالثقة في الله وبقلب مفعم بحب الخير ومحبة الناس كل الناس . مع قدرة على تحمل المآسي والشيل فوق (الدَبَر) ولو كان الجرح ينزف دماً.
لكن الأقدار شاءت أن يُختتم عمره في لحظةٍ كانت تستحق التكريم لا الغدر، فكان سليمان جابر رحمه الله شهيداً للخير والصلح لا الحرب، وقَتيل الوفاء لا الخصومة. ولكن من اغتاله وصحبه لا يعرف المجانين. ولا شك أنه ادخل يده في جحر( الدابي). قالت جدة الناظر الشهيد سليمان جابر (حفيدة ام سرير بت احمد ود بلاع):
جقلة هنيها ومكان الدرك وديها
روحك لا (تضاريها) خلقه الموت راجيها
وسليمان منذ أن شب عن الطوق كان زول (الدُرك) ويعرف ركوب المخاطر وبالتالي لم يمت ففي موته حياة وفي ذكراه دلالات دعوة ابراهيم : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) اية ٨٤ الشعراء.
قال الشاعر:
مضى في سبيل الصلحِ لا يبتغي أجرًا
سوى وجهِ ربٍّ يعلمُ السرَّ والإعلانا
فما كان موتُ الحرِّ إلا بدايةً
لذكرٍ يُخلّدُ في القلوبِ مكانا
رحل الحبيب الامير سليمان جابر ومعه ثلةٌ من خيرة رجال الأسرة وحكماء المنطقة، رحل أولئك الذين كانوا زينة المجالس ونور المواقف، وقد مضوا إلى ما قدموا، ثابتين كأشجار السنط وعلى نواياهم ، مطمئنين إلى أن ما يسعون إليه هو الخير، ولو ختمته الفجيعة.
قال الحكيم :
يموتُ الكرامُ وتبقى المآثرُ
كأنَّ الفخارَ خُلقَ من أرواحهم
فإن نامتِ الأجسادُ تحتَ الثرى
فكم من حياةٍ بدأتْ بعدَ موتهم
فكم هو موجعٌ بقدرما هو مفجع أن يُغتال السلام على أيدي من لا يعرفون قداسته، ولا يعرفون الرجال، ولكن كم هو نبيلٌ أن يموت المرءُ وهو واقف كالطود العظيم يطفئ نيران الفتن في أزمنة الفتن.
لقد رحل الأميرُ سليمان جابر جمعه سهل – رحمه الله – ومن معه ولكننا نذكر أنه كان مدرسةً في الحلم والعفو، والكرم (والرجالة) . وكان يجمع بين حكمة الأجداد من امثال الأمير محمد ود النعمان قاتل هكس وهيبة جمعه ود سهل، وبين تواضع الكريم وشجاعة الفارس. وقد تحدث عنه الناس في كل مدن السودان ومدن الخارج لا بلسان الرثاء فحسب، بل بلسان الامتنان، لأنه عاش لهم ومات من أجلهم جميعا . وقديما قيل السنة الخلق اقلام الحق. ولقد صار ذكر الحبيب سليمان جابر صنو لذكر الصلح وإطفاء الفتن وكانه المعني بالقول:
إذا ذُكرَ الصلحُ يوماً وطيبُ النوايا
ذُكرَ الأميرُ كما يُذكرُ الفجرُ في العتمة
أورد الترمزي ان (للشهيدِ عندَ اللهِ ستُّ خصالٍ : يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ منها خيرٌ منَ الدنيا وما فيها، ويُزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ منْ أقاربِهِ ).
فسلامٌ على روح اخي الحبيب سليمان جابر جمعه سهل الطاهرة، وسلامٌ على ابناء عمومته الذين شاركوه مجد الموقف، والركوز والثبات. وسلامٌ على دمٍ طاهرٍ سُفك وهو يسعى لحقن الدماء.
لقد كتب الأمير سليمان جابر جمعه ود سهل واخوته واعمامه بدمائهم الطاهرة معنى الشرف الأسمى، وتركوا لنا إرثًا من الوقفات البطولية والحكمة لا يُمحى.
مضوا وبقيَ فينا صداهم وكأنهم
نُجومُ سماءٍ ما خبتْ بعدَ موتِها
رحمَ اللهُ الأميرَ الشهيد سليمان جابر جمعه سهل ومن معه من الشهداء، وجعلَ مثواهم الفردوسَ الأعلى،وجعل من سيرتهم نبراسًا للحقّ، يُضيءُ كلّما غابت شمسُ الوفاء او أشرفت شمس الغدر والاغتيالات غيلةً وغدراً. فاللهم اجعل من شهادتهم خيرا لاهل السودان ومدخلا للأمن والامان.
وعزائي للأسرة الكريمة ال جمعه ود سهل ولاهلنا المجانين ولقبائل فزارة ولكل اهل البادية ولمحبي الناظر الشهيد وعارفي فضله ولا نقول إلا ما يرضي الله( انا لله وانا اليه راجعون).