معركة السـلام في السودان: الوعي في مواجهة الانـزلاق

معركة السـلام في السودان: الوعي في مواجهة الانـزلاق
  • 11 نوفمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

محمد الأمين عبد النبي

ما إن أعلنت الرباعية عن ورقة الهدنة الإنسانية التي تؤكد على سيادة السودان ووحدته، والتزام الجيش والدعم السريع بحسن النوايا خلال ثلاثة أشهر، وفصل القوات، وضمان وصول آمن وبلا قيود للمساعدات الإنسانية، وذلك ضمن خطتها لإحلال السلام في السودان وفق بيان 12 سبتمبر 2025، حتى اتجه الشعب السوداني إلى التفاؤل بقرب الوصول إلى وقف إطلاق النار والعدائيات، ووصول المساعدات الإنسانية، والعودة إلى البيوت، وتحقيق السلام والاستقرار. 

ومردّ هذا التفاؤل تضافرُ عواملَ عدةٍ ترجّح إمكانية الاتفاق على هدنة إنسانية، خاصةً بعد سقوط الفاشر وتداعيات الانتهاكات والإدانات الواسعة، وتعاظم الضغط الداخلي والإقليمي والدولي على الطرفين لقبول الهدنة. فقد سارع الدعم السريع إلى إعلان استجابته، ورغم عدم ممانعة الجيش وموافقته المبدئية، إلا أنه لم يحدد موقفًا نهائيًا حيالها، مما يعكس تردّدًا واضحًا. ويُبرَّر ذلك بأن الجيش لا يريد التفاوض مع الدعم السريع قبل أن يحقق إنجازًا عسكريًا على الأرض.
ينتظر السودانيون لحظة التوقيع على الهدنة باعتبارها مدخلًا أو “قيدومة” لوقف أبشع حرب في العالم وأكثرها دموية، وإنهاء معاناة المواطنين الذين تعرضوا لعنفٍ أجمع العالم على أنه يرقى إلى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية.

إن فشل الاتفاق على الهدنة، الذي لا يتمناه أحد سوى دعاة الحرب، يعني تجدد القتال بصورة أكبر وأشد وحشية وإلى أجلٍ لا يعلمه إلا الله، الأمر الذي يفتح الأبوابَ لمزيد من القتل والدمار والخراب. وقد بدأت إرهاصاته بالفعل في تهديد الدعم السريع باجتياح مناطق أخرى واستمرار حرب المسيّرات من جانب، وإعلان الجيش التعبئة العامة والاستنفار وتفويج المتحركات من جانبٍ آخر، في ظل موجة جديدة من نزوح المدنيين بأعداد كبيرة، خاصةً من مدينة الأبيض بشمال كردفان. وما زال الترقب سيد الموقف.

من نافلة القول إن الحرب في السودان أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه في ظاهرها، فما يقبع تحت النيران ربما أشد حرقًا مما تم بالفعل؛ فحتى وإن تم الاتفاق على الهدنة، فلن يكون ذلك كافيًا لإنهاء الحرب دون خوض عملية تفاوض مباشر بين طرفي النزاع، وعملية حوار سياسي شاملة، وجهدٍ تثقيفيٍّ مدنيٍّ واسع. فالهدنة ليست بديلًا عن التفاوض لوقف إطلاق النار والعدائيات، الأمر الذي يجعل طريق السلام والاستقرار صعبًا، وإن ظل حلمُ الشعب السوداني في السلام قائمًا، حتى وإن بدا مؤجلًا إلى حين إشعارٍ آخر. فالأمل في السلام لم ينقطع بعد، ولكن بالتأكيد فإن معركة السلام تحتاج إلى شجاعة أكبر وإرادة أقوى، فبناء السلام أصعب بكثير من إشعال الحرب.

لقد حوّلت الحرب المزاجَ الشعبيَّ والنخبويَّ معًا نحو الاصطفافات الضيقة والتشرذم والتفكك، حيث اندفع المزاج الشعبي إلى الاستجابة لخطاب الحرب والعنف في تغييبٍ كاملٍ للوعي بمآسيها، فيما تعالت أصوات النخب والمثقفين لتأصيل الحرب وتشجيع القتل وتأطير الخراب والتباكي على المجازر، وبناء سرديات تبرّر العنف وتؤجّج الكراهية والعنصرية. غاب التفكير السياسي في المستقبل الوطني، وأصبح الواحد منهم يفكر فقط تحت أقدامه، فينقلب عليه تفكيره خاسئًا وهو حسير.

ورغم انهيار الأفكار وسقوط السرديات التي صدّعت رؤوسنا ولم يعد لها بريق، وتحولت إلى شعارات ينوء دعاتها بثقلها، إلا أنها أفرزت طاقة مدمّرة ورغبة عارمة في الانتقام والثأر، والتمتع بتطويع الآخر وتأديبه وإذلاله وإخضاعه. هذه الطاقة، وسط طرفَي الحرب، يُغذّيها كلٌّ منهما بالصور النمطية الجاهزة والمتخيلة، والأحكام المسبقة، والتدمير المتبادل، وبالتالي العجز عن إنتاج حلٍّ أو مخرج.

صحيح أن الشعب يشكو من إحباطاتٍ متراكمةٍ بسبب الآمال الخائبة والسياسات الارتجالية، ليكتشف أن الواقع غير الصورة التي تطلقها مكبّرات الصوت في منابر التحشيد؛ فالانتكاسات تتوالى، والرصيد القيمي يتآكل، وظاهرة العنف تتمدد، وتنحسر ثقافة النقد والتعايش واحترام الآخر. هذه الحالة الشعبوية التي تعتري الشارع العام ونخبه هي أكبر معوِّقٍ في طريق السلام، وهو ما يفسّر التناقض العجيب بين حالة الخوف والجزع، وفي الوقت نفسه رفض الهدنة.

ثمة حاجةٌ إنسانيةٌ حقيقية لإحداث نقلةٍ نوعيةٍ تستهدف الوعي الجمعي، لمغادرة مستوى التطبيع مع العنف المستمر إلى مستوى إنساني، ومن القولبة للآخر في الوطن إلى رؤية أكثر واقعية. إننا أمام أسئلةٍ عميقةٍ تطال استعادة الإنسانيات السودانية، وتتطلب تفكيرًا وتأملًا يعيدان قراءة الأحداث ببصيرة، ويستلهمان تجارب الماضي، ويعتمدان نهجًا مغايرًا وأدواتٍ جديدةً ومنطق الإقرار والاعتراف بالتنوع، وأنه ليس بالإمكان إزاحة مكوناتٍ اجتماعيةٍ أو ثقافيةٍ من خارطة السودان إلا بتقسيمه. علينا الاعتبار من مأساة الحروب وعواقب التشنّج والادعاءات الزائفة. ولا نغالي إن قلنا إن السودان يمر بلحظاتٍ مفصلية: إما أن يُحتكم لصوت العقل والجنوح للسلم، أو يقضي جنون الحرب على ما تبقى من جغرافيا وتاريخٍ وحضارةٍ ومستقبلٍ للسودان.

السلام، في السياق العالمي، عمليةٌ ملازمةٌ للحرب ومتواصلةٌ ومستمرة، يأتي عقب المواجهات العسكرية، ويدفع نحو مائدة المفاوضات، وهو أحد محددات ميزان القوة وتغليب المصالح على المواقف. غير أن الوضع في سياق حرب السودان الحالية مختلف، فهو مجرد شعارٍ سياسي أو مطلبٍ شعبيٍّ ضمن لائحةٍ طويلةٍ من المطالب، إن لم يكن حلمًا بعيد المنال. ويعود ذلك إلى عاملين: الأول، عدم ترسيخ مفهوم السلام نفسه بكل أبعاده المرتبطة بالاندماج الاجتماعي وصهر التنوع في المواطنة المتساوية، والاحتكام للقانون والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. الثاني، أن السودان تحكمه تنظيمات ما قبل السياسة، تُعلي من شأن التوازنات القبلية والجهوية والطائفية والميليشيات العسكرية، وتتداخل فيه جماعات الضغط والنفوذ من رجال الأعمال والإعلام (اللوبيات) المستفيدة من هشاشة وضعف الدولة. وهذه تمثل المعضلة الأخطر والعقبة الكأداء، لأن السلام ليس في صالح الطبقة الحاكمة والمتنفذة وأمراء الحرب الذين لا يريدون تغيير الأوضاع لصالح الشعب، وسيظلون يقاتلون للحفاظ على امتيازاتهم.

أما القوى المدنية المعارضة لانقلاب 25 أكتوبر والرافضة لحرب 15 أبريل، فهي الأخرى مسؤولة عن عدم فاعليتها وانتظارها تحسّن المناخ الضروري للعمل السياسي، وعدم توفر الإرادة السياسية لبناء جبهةٍ عريضةٍ وكتلةٍ تاريخيةٍ قادرةٍ على محاصرة الحرب. ورغم ما تبذله من جهد، إلا أن معركة الوعي والسلام تحتاج إلى مجهودٍ كبيرٍ سياسيًا وثقافيًا وإنسانيًا، فلن يتحقق السلام إلا بإعمال السياسة بمفهومها الواسع (فن الممكن لإدارة مصالح الشعب)، وشحذ التفكير السياسي لتحديد الخيارات وقراءة المآلات على ضوء التحولات الإقليمية والدولية الكبرى، ووضع الحرب في سياقها الصحيح بعيدًا عن دعاوى مواجهة دول البغي والاستكبار ومحاربة “الخونة والعملاء وأعداء الوطن”، وهي تُهم تُوجَّه في الغالب إلى رموز القوى المدنية لتحجيم دورها لصالح البندقية، وإجهاض مساعى توحيد الصوت المدني المعبر عن إرادة الشعب السوداني.

ومهما كانت مصالح ومواقف دول الرباعية (الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر) المتباينة، فقد وحّدت موقفها في بيانها بتاريخ 12 سبتمبر 2025، الذي وضع إطارًا مناسبًا وخطة عملٍ واضحة، ووجد زخمًا سودانيًا وإقليميًا ودوليًا كبيرًا، وأصبح بارقة أملٍ لتحقيق تطلعات السودانيين في السلام والحرية والعدالة. كما أن استمرار التعاون والتنسيق المشترك وتطوير الأداء والآليات، والضغط المتواصل على الطرفين، وتسريع تنفيذ الخطة، يمثل قاطرةَ السلام في السودان.

أما الإسلاميون، فيتحملون أوزار إشعال الحرب الحالية بتقويض الفترة الانتقالية، وانخراطهم فيها منذ الساعات الأولى، وتحكمهم في قيادة المعارك العسكرية والدعاية الحربية والسرديات الإعلامية، وإجهاض المبادرات الساعية إلى دفع الطرفين إلى طاولة التفاوض. وهم يعملون على استمرارها بما يضمن عودتهم الكاملة إلى الحكم من جديد، لمواصلة التمكين، والحماية من الملاحقات الجنائية، والانتقام من قوى الثورة. وكما قيل: “لكي تعرف سبب الحرب، ابحث عن المستفيد منها!” لقد وفّرت لهم الحرب التحكم في مؤسسات الدولة، وبالتالي لا يرفض الإسلاميون السلام فحسب، بل يصدرون خطاب الكراهية والعنصرية، ويؤزّمون الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية بما ينذر بتقسيم السودان.

ختامًا، تؤكد كل المؤشرات أن المشهد الحالي يتجه نحو مزيدٍ من الاقتتال والخراب والتعقيد، وأن المعطيات على الأرض لا توحي بقرب تحقيق السلام. ورغم جهود الرباعية وزيادة الاهتمام الإقليمي والدولي بما يحدث في السودان، إلا أن الأوضاع الإنسانية المتأزمة تضع العالم أمام تساؤلٍ أخلاقيٍّ يستوجب مزيدًا من الجهود المنسقة. وبالتوازي، فإن الحاجة ماسةٌ إلى حراكٍ مدنيٍّ سياسيٍّ وإجتماعي وثقافي قويٍّ يضغط على المتحاربين، ويؤسس لوعيٍ شعبيٍ بقيم السلام والعدالة والديمقراطية ويرسخ إرادة وطنية تعبّر عن تطلعات السودانيين في سلامٍ عادلٍ وشاملٍ طال انتظاره.
قال نيلسون مانديلا: “عندما مشيت نحو البوابة التي ستطلقني إلى الحرية، كنت على يقينٍ بأنني إن لم أتخلَّ عن مراراتي وكراهيتي فسأظل في السجن.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*