إِشْكَاليَّةُ الثَّوْرَةِ والثَّرْوَةِ فِي فِكْرِ الإِمَامِ المَهْدِي!

إِشْكَاليَّةُ الثَّوْرَةِ والثَّرْوَةِ فِي فِكْرِ الإِمَامِ المَهْدِي!
  • 10 نوفمبر 2018
  • لا توجد تعليقات

“ولا تجعلْ في قلوبِنا رُكوناً لشىءٍ مِن الدُّنيا يا أرحمَ الرَّاحمينْ”
ـ الرَّاتب ـ
(1)
كانت “المهديَّة/الثَّورة” فعلاً جمعيَّاً توفَّر له، بمستوى رفيع من التَّحقُّق، شرطه الذَّاتي المتوطن في قوَّة إيمان الأنصارِ/الثُّوار بالفكرة، وتصوُّرهم لعدالة القضيَّة التي كانوا يجاهدون في سبيلها، وعدم امتلاكهم لما يمكن أن يخسروه، في معاركها، سوى إدقاعهم، وإلى ذلك “وحدة” المجتمع/الجَّيش فى “تعدُّد” راياته، فضلاً عن الدَّرجة العالية من الانضباط العام المستند إلى قيَم ومبادئ التَّجرُّد، والفداء، والزُّهد، والإخاء، والمساواة، والعدل، بين الصُّفوف المتراصَّة المتماسكة، قيادة وقاعدة. وتوفَّر له، من جهة أخرى، شرطه الاستثنائي المتمثِّل في وجود قائد الثَّورة بنفسه، عليه السَّلام، فوق قمَّة سنامها، طوال سنواتها العاصفة، بكلِّ ما عُرف عنه من كاريزميَّة رفيعة، وطهرانيَّة تتعالى على الشُّبهات، وصرامة لا تقبل القسمة على اثنين في تفعيل تلك القيَم والمبادىء بين جميع قوى المجتمع الحيَّة التي انضوت تحت لوائه، من أقصى قبائل الغرب والشَّرق والجَّنوب الرَّعويَّة المتنقِّلة، إلى أدنى قبائل السُّودان الأوسط والشَّمالى الزِّراعيَّة والتِّجاريَّة المستقرَّة.
لقد شكَّل وجود المهدي، بخصائصه الشَّخصيَّة النَّادرة، سحر القدوة، وجاذبيَّة المثل الأعلى، وصمَّام الأمان الاستثنائي للمحافظة على توازن قوى الثَّورة، وعلى تماسك اصطفافها، وتأجيل انفجار أىِّ صراع محتمل في ما بينها اجتماعيَّاً، أو جهويَّاً، أو عسكريَّاً. وإلى ذلك جَعَل الإمام الثائر من تلك القيم والمبادئ، وبخاصة “الزُّهد المطلق” في متاع “الدنيا الفانية”، خطاً ثابتاً في برنامج التَّربية الرُّوحيَّة لأنصاره، حيث لم تكن إعادة توزيع “الثَّروة” على الفقراء ضمن خطة “الثَّورة”، بقوله، مثلاً، فى “راتبه”، مناجياً ربَّه:
ـ “.. وأزل من قلوبنا الغفلة عنك، والالتفات إلى شىء دونك، وامحُ عنا جميع الاغترار والضَّلال، وجنِّبنا عدم المبالاة بوعدك ووعيدك .. ولا تجعل في قلوبنا ركوناً لشىء من الدُّنيا يا أرحم الرَّاحمين”.
ويُقرأ هذا الدعاء ضمن “الرَّاتب” مرَّتين كلَّ يوم في ساعتي الإجابة، قبل طلوع الشَّمس وقبل غروبها، تطهيراً للنُّفوس” (الصَّادق المهدي؛ يسألونك عن المهديَّة، ص ص 216 ـ 217). كما طلب، عليه السَّلام، من أنصاره أن يبايعوه “على زهد الدُّنيا واختيار الآخرة”! وعلق الشَّيخ بابكر بدري، لاحقاً، على تلك البيعة بقوله:
ـ “لم أعقلها تماماً تلك السَّاعة!” (حياتي، ص 35).

(2)
لم يكتف، عليه السَّلام، بتأمُّلاته الصُّوفيَّة لصياغة برنامجه الثَّوري، وتأهيل نفسه الزَّكيَّة، ونفوس معاونيه الأفذاذ، للقيادة، بل دعمها بسياحة شاقَّة في أرجاء البلاد أتاحت له تدبُّر أحوالها، وملاحظة حراكاتها، وتناقضاتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فتيقَّن من “أن الطبقات الفقيرة .. تكره الحكومة .. لكثرة الضَّرائب المضروبة عليها .. وتعانى ما يوقعه بها الجُّباة الغلاظ السَّفلة من ظلم وعسف. وبين هؤلاء الجُّباة سودانيُّون لم تكن تفلت منهم فرصة لإثراء أنفسهم، وتوظيف أقاربهم بغية تحقيق هذا الغرض” (سلاطين؛ السَّيف والنَّار، ص 42).
وبما أن الاسلام يقسِّم العالم، جغرافيَّاً وإثنوغرافيَّاً، إلى “دار إسلام” خاصَّة بـ “المؤمنين” و”دار حرب” خاصَّة بـ “الكفَّار” أعداء “المؤمنين”، فقد أسَّس المهدي تعاليمه أيضاً على هذه المعادلة البسيطة، حيث “الكفَّار” هم “.. الإنجليز والحكَّام الأتراك، والمصريون، والموظفون الجَّشعون، وجباة الضَّرائب، والشُّرطيُّون، وقادة الجَّردات التَّأديبيَّة، وقد أسماهم المهدي جميعاً (الأتراك)، وسدَّد نحوهم ضربته الأساسيَّة” (S. Smirnov; Istoria Sudana, 1821-1956 – In Russian, pp. 88 – 89). وفـى أحد منشــوراته قطـع بأن كــلَّ ما يفعــله إنما هو بأمـر من النَّبي (ص)، بما في ذلك جهاده ضد الترك (F.R. Wingate; Mahdism and Egytian Sudan, p. 46). وإلى ذلك وقف على تناقضات الفئات والشَّرائح الكبيرة بسبب استشراء روح التَّهافت، والتَّنافس، والتَّحاسد، حول فتات الامتيازات التي كان الأتراك يلقون بها إليها (سلاطين؛ السَّيف ..، ص 40). كما أدرك خلفيَّات التَّباغض القديم بين “أولاد العرب/الرُّعاة” و”أولاد البلد/الجَّلابة”، والذي أزكى أواره، لاحقاً، قرار غردون بمنع كلِّ أنواع تجارة “الجَّلابة” بين كردفان وبحر الغزال، بسبب ما تكشف من بيعهم الأسلحة والبارود لسليمان الزِّبير الذى كان قد تمرَّد هو وشريكه رابح فى بحر الغزال، وهى التِّجارة التي كانت تدرُّ عليهم أرباحاً وفيرة تجعلهم يغامرون في سبيلها حتَّى بأرواحهم! وقد قضى ذلك القرار بتكليف مشايخ “العرب”، الرِّزيقات، والحوازمة، والحمر، والمسيريَّة، في المراكز الواقعة على طريق تلك التِّجارة، بتعقُّب “الجَّلابة”، وجُلهم من الجَّعليِّين والشَّايقيَّة والدَّناقلة، والقبض عليهم بالقوَّة، وتسليمهم للسُّلطات. فحَمَل “العرب” على “الجَّلابة” حملة هائلة لم يكتفوا خلالها بسلب تجارتهم، بل وجرَّدوهم من كلِّ ما يملكون بلا تمييز بين تجارة محظورة وأخرى مباحة، مِمَّا رتَّب لنتائج وخيمة على العلاقات القبليَّة في المدى البعيد (نفسه، ص ص 12 ـ 13).

(3)
معضلة “المهديَّة/الثَّورة” أن المهدي لم يَرَ خلف ذلك كله سوى فكرة “المال”، لا كعلاقات اجتماعيَّة عُرضة لاحتمالات الافساد، من جهة، أو التَّثوير/الإصلاح، من جهة أخرى، وإنما كمحض “أوساخ دنيويَّة” ينبغي ازدراؤها، وركلها، والتَّرفع عنها في كلِّ الأحوال!
لقد صاغ الإمام من معرفته الموضوعيَّة بالواقع معرفة أيديولوجيَّة صارمة، وإن تكن صعبة الهضم من زاوية “عقلانيَّة الثَّورة”، وفحواها أن الانتصار للفقراء والمستضعفين لا يكون بإعادة صياغة علاقات “الثَّروة” في قسمتها ومصارفها، بحيث تكون لصالح أولئك الفقراء واالمستضعفين كما ينبغي، بل بالتَّعفُّف عنها جميعاً، باعتبار أن ذلك التَّعفُّف هو جوهر الدِّين، ولبَّ التَّديُّن، وذمِّ التَّكالب عليها جميعاً، باعتبار أن ذلك التكالب هو أسَّ الكفر، وأوَّل الوهن! ووجَّه، من ثمَّ، جُلَّ جهده التَّربوي، ليس فقط لإعلاء شأن المساواة، والأخوة، والعدل، والشُّورى، وما إلى ذلك من القيَم المعادية لنمط العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الظالمة، بل لإيلاء الظهر للدُّنيا ذاتها، واعتزالها، جملة وتفصيلاً، كمفسدة مطلقة!
هكذا انطلق، عليه السَّلام، من مقدِّماته الأخلاقيَّة والدِّينيَّة الصَّارمة تلك، ليوجِّه النِّضال الجَّماهيري الوطني التَّحرُّري والطبقي الذي انخرط في صفوفه الرُّعاة، والمزارعون، وصغار التِّجار، والحرفيُّون، والرَّقيق. فتقاطرت إليه جحافل الفقراء، والمقهورين، والكادحين المعدمين، بنسائهم وأطفالهم، بينما ناصبه العداء جُلُّ الأثرياء، والموسرين، وذوي المصالح، والمتهافتين على فتات موائد الأتراك، و”أوساخهم” الدُّنيويَّة. وباستصحاب منطق القوانين الباطنيَّة للحركة، انعكس ذلك كله في الخطاب التَّحريضي للمهديَّة مزيداً من الغلوِّ في تمجيد الزُّهد وذمِّ المال. وفى ذلك الاطار “هيَّأ المهدي نفسه .. لإصلاح السُّلوك الأخلاقي، وتثوير عادات السُّودانيِّين بالدَّعوة للتَّخلي عن كلِّ (التَّفاهات) الدُّنيويَّة .. (حيث) يجب أن تكون حياة أتباعه حياة الرِّجال الذين يعيشون الأيَّام الأخيرة!” (تريمنجهام؛ الإسلام في السُّودان، ص ص 154 ـ 155). وكان ، عليه السَّلام ، كثيراً ما يردِّد:
ـ “لقد دمَّرت هذه الدنيا وبنيت العالم الآتى” (سلاطين؛ السَّيف ..، ص 230).
وجاء فى بعض منشوراته فى الزهد:
ـ “إمتنع عن كلِّ المسرَّات ، إذ عن طريق الصَّلوات فقط يمكن الحفاظ على هذا العالم في سلام” (Wingate; Mahdism .., Ibid).
وروى الخليفة لسلاطين، وهو يؤانسه، ذات مساء، بذكرياته، أن النَّاس:
ـ “كانوا يهرعون إلينا زرافات، ولكن معظمهم كان في فاقة تزيد عن فاقتنا .. أما الموسرون فكانوا يتجنبوننا .. إن المال لعنة، ومن كان غنيَّاً في هذه الدُّنيا فإنه لن ينعم بنعيم الفردوس. ولم نكن نحصل على معونة ما من النَّاس الذين كنَّا نجوز بلادهم، وكان المهدي، مع ذلك، يقسِّم .. القليل الذى لديه بين .. الذين يقصدونه” (سلاطين؛ السَّيف ..، ص ص 44 ـ 45).

(4)
ولم يكن الامام الثَّائر يكلُّ أو يملُّ من مذاكرة النَّاس، في القيادة قبل القاعدة، محذِّراً من “فتنة المال والسُّلطة”:
ـ “.. فلا تروا العيش، والاقتيات، والعزَّ، والنَّفع، وضدهم، عند أحد، ولا في الأمـوال والوظايـف، بل إن الأمـوال والوظايـف إذا حصـلت لأحـد لربمـا أسـقطته عن الله .. إن الزُّهد هو حقيقة الإيمان” (م. إ. أبو سليم؛ المنشورات، ص ص 28 ـ 29 ـ 32).
وبلغت به شدَّة المقت للأثرة، وفرط الحساسيَّة تجاه التوسُّل بـ “الوظايف”، أو بالقرابة، للاستحواز على قسط من “الثَّروة”، أو التَّميُّز الاجتماعي، أو السِّياسي، أو مجرَّد التطلع إلى شىء من ذلك، درجة لم يتردَّد معها في التبرُّؤ حتَّى من أهله “الأشراف” حين رأى منهم ما عدَّه تجاوزاً لتلك القيَم والمبادىء، وهو الذى عيَّن خليفته الأوَّل من غيرهم. فلما كانت آخر صلاة جمعة من شعبان سنة 1302هـ، الموافق 12 يونيو سنة 1885م، وبعد أن فرغ من الخطبة، نادى بأعلى صوته:
ـ “أيُّها النَّاس إنى مللت النُّصح والمذاكرة لأقاربي الأشراف الذين .. ظنُّوا أن المهديَّة لهم وحدهم”!
ثم مسك ثوبه ونفضه ثلاثاً، وقال:
ـ “أنا برىء منهـم فكـونوا أنتـم شـهوداً علىَّ بين يدى الله تعالى” (ن. شقير؛ تاريخ السُّودان، ص 598).
مهما يكن من ملامسة ذلك النقاء تخوم الأساطير صعبة التَّصديق، إلا أنه، عليه السَّلام، حلق بنمط القيادة ذاك إلى مستوى فريد من العدل القائم في مغالبة النَّفس، ولجم الهوى ووسواس الدُّنيا، فخاطب النَّاس، وبخاصَّة القادة، أوَّل ابتداء أمر دولته، بُعيد انتصار ثورته الموشَّحة بزكىِّ النَّجيع، وأواخر أيَّام حياته العامرة بجلائل المكرمات، ناهياً عن التَّناصر بالظلم، وحاثَّاً على ابتغاء وجه الله بالعدل:
ـ “.. فالصُّـحبـة الدُّنيويَّـة .. إن لـم تكـن في رضـاء الله بإقامـة الحـقِّ كانت عداوة وخروجاً عن التَّقوى، (و) عدم العدل لغرض النَّفس، أو حظِّ القـرابة والصُّـحبة والمنفعـة فسـق” (م. إ. أبو سليم؛ المنشورات، ص 222).
وقد اعتاد، عليه السَّلام، جرياً على نهجه المتميِّز في القيادة، أن يقرن تعاليمه تلك بتقديم نفسه في مقام القدوة:
ـ “أحبابى سألتكم بالله العظيم، وبنبيِّه الكريم، مَن كانت له علىَّ مظلمة، والحال أني ناس لذلك، فليطلبني، قبل الآخرة، فإني قد اتَّهمت نفسي بذلك. ومَن كانت له مظلمة على الخلفاء، والأمراء، والأشراف، فليطلب ذلك” (الصَّادق المهدي؛ يسألونك ..، ص 189).

(5)
ومن أبرز الأمثلة على تشدُّده في التَّمسُّك بتلك القيَم والمبادىء، بالغاً ما بلغ نباح الفرص المواتية بقطاف المصالح الدُّنيويَّة، أنه فضَّل، مثلاً، مصادمة أرستقراطيَّة الكبابيش “النُوراب”، والثَّورة لمَّا تزل، بعدُ، في أشدِّ الاحتياج للسَّند والمؤازرة الماديَّتين من مضخاتهما الرَّئيسة في المجتمع، على أن يساوم قدر قيراط بقيَم الزُّهد، أو مبادىء العدل والمساواة. فأصدر منشوراً يخاطب أولئك الأرستقراط، ضمن آخرين، في أول سنة 1300 هـ الموافق 3 أبريل سنة 1883م، طالباً:
ـ “ألا يتشاجر اثنان في طريق الزَّرع، ولا يدَّعى أحد وراثة الأرض من آبائه وأجداده ليأخذ عنها خراجاً، أو يقيم بها من هو ساكن لأجل ذلك” (الأحكام والآداب للإمام المهدى ـ ضمن: ع ع براهيم؛ الصِّراع بين المهدى والعلماء، ص ص 81 ـ 83).
كما طلب منهم أن يردُّوا ما نُهب من دفـع الله ود محمد الجَّهني، وأن يكفُّوا عن نهب أموال المسلمين (نفسه).
وربَّما كان من الضرورى أن نشير، هنا، إلى المكانة الخاصَّة التي شغلتها “الأرض” ضمن مفهوم “الثَّروة” عند “النُّوراب”، وما ارتبط بها من مفاهيم “الدار”، و”التـَّبَع”، و”القيمـان”، مِمَّا توفَّـر عـبد الله على إبراهيم على تقصِّيه فى مبحثه القيِّم “المهديَّة والكبابيش: نحو مشروعيَّة للمعارضة”، وذلك من أجل تقدير أفضل لمدى التَّهديد الذي انطوى عليه زهد المهديَّة الطهراني ذاك لمجمل البُنى الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والأخلاقيَّة التي عرفها المجتمع الكبَّاشي منذ مطالع القرن الثَّامن عشر (ع ع إبراهيم؛ الصِّراع ..، ص ص 71 ـ 93).

*

التعليقات مغلقة.