مأساة في قلب الصحراء

أطفال ونساء تم نفيهم إلى وادٍ غير ذي زرع لأغرب سبب (37) عائلة بينهم (65) طفلاً يعيشون ظروفاً قاسية في صحراء الولاية الشمالية
بسبب جريمة لم يقترفوها أصبحت أمام أهل القاتل (كل الأرض منفى)
كريمة: محجوب عثمان
في أحد نهارات منتصف شهر أغسطس الماضي، وأثناء فرحة المواطنين بعيد الأضحى المبارك، كانت مدينة دنقلا حاضرة الولاية الشمالية على موعد مع حدث غريب سيغير مصير الكثيرين.. ورغم أن الحدث في حد ذاته نادر الحدوث هناك، لكن وجه الغرابة الأكثر جاء من تداعياته التي امتدت لتشمل عدداً كبيراً من الأسر القريبة من محيطه…
مشاجرة عادية بين أولاد عمومة من قبيلة واحدة تسكن حى الديم شمال دنقلا، بدأت في محطة وقود حول من له الحق في ملء (تانك) عربته أولاً، لكن المشاجرة تطورت سريعاً حتى استل أحدهم سكيناً طعن بها ابن عمه، ليسقط قتيلاً، لتتدخل الشرطة عندئذٍ، وتلقي القبض على الجاني وعدد من المتهمين لاحقاً، وتودعهم الحراسة، لكن تلك لم تكن النهاية.. تلك كانت البداية لقصة طويلة وشائكة ومعقدة تشكل في مجملها مأساة تدمي القلوب.
تسلمت عائلة القتيل جثمان نجلها، ووارته الثرى، غير أنها رفضت تلقي العزاء فيه، وهو أمر معتاد عند هذه القبيلة، ويشير بجلاء إلى أنها لن تقيم سرادق عزاء، إلا بعد أخذ (الثأر) لابنها بقتل من تسبب في موته، أو أحد أفراد عائلته.. خاصة وأن معركة احتدمت بين العائلتين عقب جريمة القتل تدخلت فيها الشرطة لوقف الاشتباك بين العائلتين.
هنا نشط العقلاء من المدينة، وقادوا مفاوضات صلح، وتكونت لجنة صلح ضمت أفراداً من المؤثرين لدى تلك القبيلة، قدموا من الخرطوم وبورتسودان ودنقلا، لكن عائلة القتيل وضعت شروطاً قاسية ستكون هي الخطوة الأولى في بداية المأساة التي نحن بصددها.
اشترطت عائلة القتيل أن تترك عائلة المتهمين بالقتل مكان إقامتهم في خلال (48) ساعة، وأن يقوم (10) من أهل المتهمين بالقدوم إلى منازل عائلة القتيل ويقرون بارتكاب أبنائهم للجريمة، ويعلنون أنهم وسطاء وليسوا طرفاً في النزاع، على أن تلتزم عائلة المتهمين بعدم توكيل محامٍ للمتهمين، وأن لا يزوروهم في السجن، ويتركوهم لمصيرهم أمام القضاء، فكان الحكم القاسي بمغادرة الديار، وتكون لهم (كل الأرض منفى).
لتلك القبيلة أعراف تتم رعايتها جيداً، ويتم الالتزام بها لذا لم يجد أهل القاتل بداً من الإذعان لشروط أهل القتيل، ورغم أن والي الولاية اللواء ركن “محمد محمد الحسن الساعوري” حاول إيجاد مخرج لهم، باعتبار أنه لا قانون يحتم طرد أحد من منزله، لكن أهل القاتل أصروا على الالتزام بالعهد، ومغادرة منازلهم، غير أنهم طالبوا الوالي بمواصلة جهوده للوصول إلى العفو عنهم من قبل عائلة القتيل.
قررت عائلة القاتل المكونة من (37) أسرة الرحيل شمالاً تجاه مدينة حلفا، امتثالاً لتطبيق شروط الاتفاق، لكن سرعان ما ضجت الأسافير بخبرهم، وتداعى أهل حلفا لمنعهم من الدخول إليها، ونصبوا خيمة في مدخل المدينة ليرفضوا استقبالهم باعتبارهم مجرمين، رغم أنهم ليسوا مجرمين، لكنهم وجدوا أنفسهم طرفاً في صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، فمن ارتكب الجريمة يخضع للقانون، وقبل وصول الأسر إلى حلفا تم قطع الطريق أمامهم في منطقة عبري ومنعهم من الوصول إلى أي منطقة، وطالبهم أهالي تلك المناطق بالرجوع من حيث أتوا، فقط سمحوا لهم بالمبيت وقضاء ليلتهم هناك، باعتبار أن بينهم أطفالاً وكبار سن، ليتوجهوا صباح اليوم التالي نحو دنقلا مجدداً.
وجدت الولاية نفسها في حيرة لذا لجأت حكومة الشمالية للبحث عن منطقة تأوي هؤلاء المبعدين قسراً، لكن لم يجدوا مكاناً لهم باعتبار أن ما راج عنهم أنهم أبعدوا من دنقلا كونهم مجرمين يشكلون خطراً على المدينة، فكان أن رفضت أي منطقة استقبالهم، حتى وجدت لهم الحكومة مكاناً يمكن أن يمكثوا فيه حتى تحل مشكلتهم… المكان الذي قررت الحكومة تسكينهم فيه أقل ما يمكن وصفه به أنه (صحراء جرداء قاحلة)، فقد تم وضعهم في معسكر كانت قد أقامته الشركة المنفذة لطريق (كريمة ــ دنقلا) وهو يبعد (47) كلم عن مدينة كريمة، ونحو (120) كلم عن مدينة دنقلا، في صحراء كانت تموت فيها الإبل عطشاً، وينطبق عليها قول الله تعالى (وادٍ غير ذي زرع)، فجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم.
(154) شخصاً يمثلون (37) أسرة، بينهم (65) طفلاً تترواح أعمارهم ما بين (6) أشهر و(10) أعوام، وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في منطقة لا تصلح ليعيش فيها إنسان، حتى أن البئر الارتوازية التي كانت تمد المعسكر بالمياه أثبتت الأيام أن مياهها غير صالحة للشرب، بعد أن أصابت العديد من الأطفال بأمراض الكلى، ووضعت (3) منهم على شفير الفشل الكلوي لولا عناية الله.
وجدت هذه الأسر نفسها في كثير من المشاكل، لكن بمرور الوقت استطاعت التغلب على بعضها، فعندما اكتشفوا عدم وجود أعلاف لأغنامهم التي تمدهم باللبن اضطروا لإعادتها إلى دنقلا، ووضعها كأمانة عند معارفهم، عدا (5) رؤوس من الماعز تركوها بينهم لتمد الأطفال ببعض الحليب، على أن يجتهدوا لتوفير بعض الكلأ لها من مسافات تزيد عن (50) كلم أحياناً، وعندما اكتشفوا عدم صلاحية المياه للشرب قصروا استخدامها على الاحتياجات الأخرى، وأصبحوا يجلبون مياه الشرب من بئر أخرى تبعد (11) كلم عن موقعهم.
وجدوا أنفسهم لا يستطيعون القيام بأي عمل يدر عليهم عائداً مادياً، فاكتفوا بالإعانات التي يهبها لهم المارون بالطريق، فضلاً عن إعانات يوفرها لهم الهلال الأحمر، وعدد من المنظمات وبعض الخيرين.
سألت عدداً من الأطفال عن الدراسة، فقالوا إنهم تركوها منذ أن تركوا دنقلا، وكثير منهم ما بين الصف الأول والسابع في مدارس الأساس، وبدأوا غير مدركين لما يمكن أن يترتب على تركهم المدارس مستقبلا، مشيرين إلى أنهم (فرحانين بالإجازة الطويلة).
وقال “أحمد جمعة” الذي فوضوه للحديث معي إن أكثر ما يشغلهم هو ضياع مستقبل أبنائهم الدراسي، موضحاً أن أقرب مدرسة الآن تبعد عنهم نحو (50) كيلو متر في مدينة كريمة، ويوضح أنهم الآن منقطعون تماماً عن العالم في منطقة لا توجد بها كهرباء، وشبكة الاتصال فيها رديئة. ويشير ضاحكاً إلى أنهم استفادوا من الشمس الحارقة فقط في توفير الكهرباء لشحن بعض الهواتف عن طريق خلية طاقة شمسية.
“أحمد جمعة” أشار إلى أنهم جربوا في المنطقة أمطار فصل الخريف، وواجهوها في العراء، تحميهم فقط بعض الخيام المتهرئة، ومن ثم واجهوا برداً قارساً وصلت درجة الحرارة في بعض أيامه إلى (3) درجات مئوية، وموعودين بصيف تصل الحرارة فيه إلى (50) درجة، لكنه أبدى تفاؤله بحل المشكلة قبل الصيف بالوصول لاتفاق صلح يعيدهم إلى ديارهم في دنقلا.
رغم المأساة التي يعيشها هؤلاء، إلا أن ترحيبهم بنا خلال الزيارة التي نفذتها لهم رفقة بعض الأهل الأسبوع الماضي كانت كبيرة جداً، وكان إصرارهم كبيراً أن يكرمونا، ولو بكوب شاي، لاحقنا به شاب حتى العربة التي كنا نستقلها، سألته عن اسمه فأجاب بـ”جعفر” مازحته بأن أهل دنقلا كثيراً ما يسمون أبناءهم “جعفر” تيمناً بالرئيس الراحل “جعفر نميري”، فقال ضاحكاً: (أنا اسمي “جعفر” وأبوي اسمو نميري)، عندها قارنت بين نفي الرئيس الراحل “جعفر نميري” بعد سقوط نظامه في القاهرة لسنوات، وبين نفي “جعفر نميري” هذا في صحراء داخل وطنه. “جعفر” أشار لنا بصعوبة الحصول على العلاج، موضحاً أن مرضاهم يتم علاجهم في مدينة كريمة، مشيراً إلى أن شاباً اسمه “محمد عوض” تعرض للدغة عقرب الأسبوع الماضي، كادت تذهب بحياته لعدم وجود وسيلة تنقله إلى كريمة لتلقي العلاج، مشيراً إلى أن عربة مرت صدفة بالطريق أنقذته من الموت، ونقله أصحابها إلى كريمة بعد أكثر من ساعة من تعرضه للدغ. وأوضح جعفر أنه انقطع عن الدراسة رغم أنه كان بالصف الثامن، ويستعد لدخول المرحلة الثانوية، لكنه بدا مصراً على مواصلة الدراسة بأي طريقة العام المقبل.
“محمد عيسى” تحدث بقلب حزين، وقال إن أكثر ما يحزنه هو انفصال الأطفال عن المجتمع، مبيناً أنهم أمضوا نحو (5) أشهر في هذه البقعة، ولا يجد الأطفال غير بعضهم البعض وينظرون لذات الوجوه كل صباح، لافتاً إلى أن بعضهم بدأ كثير التذمر وسريع الانفعال. ولفت إلى أن الأمراض العادية أصحبت كثيرة وسط الأطفال، خاصة أن تلقيهم العلاج عادة ما يكون بعد أيام من إصابتهم بالنزلات والالتهابات لصعوبة وصولهم إلى المستشفى.
خلال جلوسنا على فرشة حصير أحضروها وفرشوها لنا، نادى “أحمد جمعة” أحد الأطفال، وقال: (هذا كاد يفتك به المرض، ولم نجد له علاجاً هنا حتى تم نقله للخرطوم، واكتشفنا أن المياه كادت تتلف كليتيه). وواصل في حديثه: (إن كثيراً من الأطفال يحتاجون للرعاية الصحية، لكننا فوضنا أمرنا إلى الله ليرعاهم).
و”أحمد” يرى أن الفرج سيأتي قريباً من خلال الجهود التي تبذلها لجان الصلح، مبيناً أن اللجان قطعت شوطاً كبيراً، بحسب ما يسمعون، لكن بعض المعوقات تمنع الوصول للاتفاق النهائي، ويبدو متفائلاً بحل المشكلة، وعودتهم من جديد لديارهم.. وفي خضم آلامه يتذكر أن أهل مدينة كريمة والبركل وقفوا معهم وقفة (رجال) من خلال استقبالهم في هذا الموقع وترتيب احتياجاتهم الأولية. وقال: (عكس ما كنا نتوقع لقيناهم منتظرننا ووفروا لينا الكثير ولا يزالون يقدمون لنا الكثير ويتفقدوننا كل حين وبعضهم خلق علاقات اجتماعية جيدة معنا).
ويلتقط الحديث “نميري” الذي اختاروه متحدثاً عنهم منذ بداية الأزمة، ويقول إنه يريد أن يتقدم بالشكر لمواطني كريمة والبركل ومروي والزومة، لأنهم قدموا الكثير، ويمتد شكره لديوان الزكاة بكريمة الذي ظل يقدم لهم المعينات كل يوم، ويشكر بشدة الهلال الأحمر في مروي الذي ظل مسانداً لهم، وقال: (لولا الوقفة الصلبة معنا ما كنا نستطيع مجابهة الظروف الصعبة التي نواجهها).