“قحت” والعسكر… رهان المرحلة الانتقالية

  • 30 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

محمد جميل أحمد

فيما يخوض السودان أطوار المرحلة الانتقالية، تبدو الأوضاع التي تتكالب على مسيرة الثورة أدعى للتفكير فيها بصورة أعمق بكثير من دعاوى الحالمين ورومانسية الثوريين، فقد بدا واضحاً أن فساداً من طينة حكم الإسلاميين الذي استمر على مدى 30 عاماً وعاث في بنية الدولة وجهازها العام، سيكون من العسير جداً معه اجتياز العقبات المعقدة والمتشابكة لذلك الفساد الضارب في مفاصل كثيرة من الحياة السياسية عبر طبقات تتكشف الأيام عن رسوخها، بما يدعو للتفكير عميقاً في تدابير الحذر، لا سيما أن تحالف قوى الحرية والتغيير “قحت”، الحاضنة السياسية للحكومة، هي اليوم قد تكون في أشد الحاجة إلى إعادة ترتيب أوراقها والنظر في تدابير إحكام المرحلة الانتقالية.

ما يرشح في الإعلام والصحف والوسائط، عن نوايا لتسوية محتملة مع الإسلاميين من أطراف في مجلس الوزراء ومجلس السيادة، ربما بهدف امتصاص ضغط الإسلاميين المعرقل لمسار الثورة، وجد في أطراف من قوى الحرية والتغيير استنكاراً واضحاً، كالبيان الذي أصدره التجمع الاتحادي، إلى جانب تعيينات لأشخاص من طرف حكومة حمدوك كانت أطرافاً في قوى الحرية والتغيير تستنكر أن تكون تلك الشخصيات المعينة من مجلس الوزراء، ضمن قوائمها للترشيح!

هذا التجاذب الذي كشف بوادر خلاف في قوى الحرية والتغيير حيال إدارة المرحلة الانتقالية، قد لا يكون ضرباً من خلاف جوهري، بقدر ما هو خلاف في تقدير الرؤى وتعدد المواقف في مجال سياسي هو مادة للاختلاف بطبيعته، لكن ما يخشاه المراقب، هو أن يكون هناك توجه محتمل لأطراف في الحكومة ومجلس السيادة لإجراء تسوية مع الإسلاميين، نتيجة لضغوط من طرف بعض العسكريين في مجلس السيادة، إلى جانب ضغوط إقليمية قد يكون الطرف العسكري هو الأقرب إلى التماهي معها.

قوى الحرية والتغيير، باعتبارها قوى حزبية، قد لا تخلو مقاربتها في إدارة المرحلة الانتقالية من اتجاهات سعي تنافسي للكسب السياسي ربما اقتضى الغوص فيه نسياناً مؤقتاً للشعور بالطبيعة الحساسة للمرحلة الثورية، وبطبيعة الحال كلما كان التفكير الحزبي في المناصب عالياً تضخمت الأنا الحزبية وضمرت الرؤية الثورية الوطنية المشتركة.

خطورة هذا الخلاف، الذي نقدِّر أنه، حتى الآن، قابل للتسوية بين أطراف قوى الحرية والتغيير، هو أن يتناسى تحالف قوى الحرية والتغيير حساسية اللحظة الثورية التي لولاها لما أمكن لها الوصول إلى المرحلة الانتقالية، وهذا الإحساس لا يمكن أن يعود إلى لحظة توهجه إلا بالضغط من قِبل الثوار عبر لجان المقاومة، وعبر الباحثين والنشاطين السياسيين، وحرية الصحافة التي بفضلها أصبح النقد متاحاً للجميع.

حراك أحزاب قوى الحرية والتغيير المنهكة، والمنقسمة على نفسها، والعائدة إلى التجريب في المجال السياسي بعد حقبة تجريف كبرى استمرت 30 سنة وعمقت فيها التقسيم خلال العهد البائد، هو حراك لا ينبغي أن ينساه المراقبون، ولا ينسوا انعكاس كل ذلك على أداء قوى الحرية والتغيير خلال المرحلة الانتقالية، وما يمكن أن يعتريه من تعثر، لكن لا بد كذلك أن يكون هناك حد أدنى من التماسك بشروط التفويض الذي منحته الثورة لقوى الحرية والتغيير، وإلا فإن غياب الإحساس بذلك التفويض سيعمِّق الشرخ بين قوى الثورة ممثلة في لجان مقاومة الأحياء، من ناحية، وقوى الحرية والتغيير من ناحية ثانية. فيما الجميع يعرف أن أي خلاف أو فراق بين أحزاب قوى الحرية والتغيير وجماهير الثورة سيصب لصالح العسكر، وهؤلاء بطبيعة الحال، لا يخفى على المراقب أنهم في حال استثمارهم للخلاف بين قوى الثورة لا يعوزهم ادعاء للشرعية يخولهم الاستيلاء على السلطة بدعوى الحفاظ على هيبة الدولة.

لقد بدا واضحاً أن تولي العسكر في مجلس السيادة لإدارة ملف السلام بين الحكومة والحركات المسلحة هو تولٍ لمهام تنفيذية تختص دستورياً بدور الحكومة الانتقالية وليس من صلاحيات المجلس السيادي، لكن رهانات العسكر التي تضع عينها على موازين القوى العسكرية المنافسة في الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، هي التي فرضت نفسها وجعلت نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” يتولى هذا الملف، ربما خشيةً من تواطؤ الحكومة، حال توليها إدارة ملف السلام، مع الحركات المسلحة، نظراً للمنزع الثوري الواحد، لا سيما أن الجبهة الثورية جزء من تحالف نداء السودان (إحدى الكتل الخمس لقوى الحرية والتغيير). كما أن تعثر المفاوضات حتى الآن بين الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وبين وفد المركز قد يصب من طرف خفي في صالح العسكر، خصوصاً مع أصرار الوفد المفاوض للحكومة على ترحيل مسألة علمانية الدولة إلى المؤتمر الدستوري في نهاية المرحلة الانتقالية، فيما تصر الحركة الشعبية على حسمها ضمن “مفاوضات جوبا”.

وفي تقديرنا فإن تعنت وفد الحركة الشعبية في مسألة علمانية الدولة في غير محله، لأنه سيضعف من القوى الثورية في المركز حال عدم التوصل إلى اتفاق سلام بسبب هذا البند. إن تدابير التنافس على مستوى نشاط الشق العسكري من مجلس السيادة عكست حراكاً مستقلاً ربما لمكاسب سياسية خارجية، كلقاء رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتنياهو قبل شهرين في أوغندا، وهو اللقاء الذي قابله رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بطلب ولاية سياسية أممية على السودان تحت البند السادس.

على قوى الحرية والتغيير التفكير في إدارة تماسك الانتظام الثوري والرهان على خيارات الثورة في السياسة، لأنها بذلك تؤمن الغطاءً السياسي لحركة الثورة، التي لن تكون فاعلة في غياب أي غطاء سياسي، فذلك وحده هو الذي يكفل لها القدرة الحقيقية على إدارة المرحلة الانتقالية بسلام.

العسكر يدركون استحالة الالتفاف على الشعب للقيام بحركة انقلابية، إلا في حالة تفكك التلاحم بين قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة في الأحياء، وحتى في هذه الحالة سيكون القيام بحركة انقلابية بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب حتى ولو ظن بعض العسكر أن الظروف اليوم مؤاتيه بسبب وباء كورونا وانشغال العالم الخارجي بملفاته الخاصة.

إندبندنت عربية


التعليقات مغلقة.