فوضوية الديمقراطية

فوضوية الديمقراطية
  • 13 مايو 2020
  • لا توجد تعليقات

يوسف السندي

الديمقراطية فوضوية نعم ، فوضوية للدرجة التي يصعب معها كثيرا جدا السيطرة على ضبط النفس ، وذلك لأنها تساوي في الفرص بين الجميع ، العاقلين والمغفلين، الشرفاء والخونة ، هي تسمح لكل شخص يملك رأيا ان يعبر عنه بغض النظر عن طبيعة هذا الرأي بالنسبة الآخرين ، تسمح لكل تيار يملك أهدافا ان يسعى لتحقيقها بكل الطرق والوسائل السلمية والديمقراطية بغض نظر عن موقع هذه الأهداف من اهداف الغير ، تفسح المجال لكل جسم لديه صوت ان يصرخ ليسمعه الناس ، تفتح الباب لكل جهة تعتبر نفسها هي ( الصاح ) ان تعبر عن ذلك . وكل هذا يحدث امامك ، في الوسائط او الاخبار او اي مكان ، الجميع يتعاركون في نفس الميدان وامامك مباشرة ، وتأتيك أصواتهم في نفس الوقت واللحظة حتى يصيبك أحيانا منها الغثيان والهذيان ، أو يغلبك التمييز أو تصبح في دوامة بلا قرار .

بيد ان الميزة الأصيلة في الديمقراطية انه غير مسموح فيها لشخص أو تيار او جسم او جهة ان تقهر اخرى او ان تقصيها ، هذا القهر والإقصاء وان حدث كخطا، فالخطأ في كوكب الديمقراطية يمكن تصحيحه ، والفرصة لتصحيحه موجودة باستمرار و لا يوجد شيء اسمه ( too late ) ، لا يوجد شيء اسمه ( ديمقراطيتنا اتسرقت ) ، بل يوجد دوما شيء اسمه تصحيح الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية ، لذلك ترى وتسمع كل أشكال النقد العنيف والهين، وتمر بكل أنواع الاستقطاب الفكري الحقيقي والمفخخ ، تغوص مع تشدد اليمين وتزحف مع تزلف اليسار وتطير مع مثالية الوسط وانت في مكانك لا تبارحه.

ما حدث في انتخابات سكرتارية تجمع المهنيين وما يحدث في وزارة الصحة الاتحادية ، هو هذا الجو الديمقراطي المشحون بعشرات الآراء و المواقف و الاتجاهات المتباينة ، الجو الملون بكل الوان الطيف السياسي و الثقافي والاجتماعي والمهني ، الجو المكهرب بالخلافات التاريخية ، و الملطف بالتضحيات المشتركة ، الجو الذي لا يمكن ان تمرر من خلاله اجندة التمكين ولا فهلوة الأحزاب السياسية ، فالكل بالمرصاد للكل ، ولا يصح الا ما بني على أساس ديمقراطي سليم .

هذا هو واقع الديمقراطية ، الناس متساوون في حرية الرأي والقرار ، كل فرد من الشعب يملك حرية ان يقول رأيه ويدعو له ويحاجج من أجله . تجد جماعة تدعو لإزالة القراي وجماعة أخرى تدعو لبقاء القراي ، جماعة تدعو لاقالة اكرم وجماعة تدعوا لبقاءه، جماعة تدعو لاقالة البدوي وجماعة تدعو لبقاءه، الرأي والرأي الآخر، الخيار والخيار المضاد ، كله يوجد في نفس المكان والزمان ، ولا يصح الا ما بني على أساس ديمقراطي سليم .

لهذا اختلاف الآراء داخل الأجسام والأحزاب السياسية والجماهير شيء طبيعي ، فالجميع بشر و ليسوا ألهة ، وطبيعة البشر الاختلاف ، و لن تكون الخلافات العميقة في جسم تجمع المهنيين وفي وزارة الصحة الاتحادية او ادارة المناهج هي الأخيرة ، بل هذه هي المناظر ( الفيلم ما بدا لسه ) ، فيلم الديمقراطية وفوضويتها، فيلم الآراء المختلفة تحت سقف واحد ، واظنكم تابعتوا ما حدث في أمريكا حين قادت المعارك المشابهة رئيس الولايات المتحدة لقفص الاتهام وكادت ان تعزله من الرئاسة ، هذا هو الصراع الحر الديمقراطي ، صراع فيه فوضوية ولكن أدواته ديمقراطية والغلبة فيه للأسس الديمقراطية .

لذلك لا معنى لاسباغ صفة الكوزنة على كل مختلف مع اراءك، فهذا الاختلاف سيكون موجودا ما بقيت الديمقراطية ، ولكن المهم أن نتحمل هذا الاختلاف ، ان نحسن ادراته بحيث لا يؤثر على مشروع الثورة في بناء وطن ديمقراطي حقيقي .

انتهى عهد تكميم الأفواه، انتهى عهد مصادرة حرية التعبير، ذهب إلى غير رجعة الدكتاتور الذي يقهر الجميع على رأيه ، وجاء عهد يفكر فيه الجميع بصوت مسموع ، يصدر الجميع بياناتهم ورؤاهم في الهواء الطلق منتقدين بوضوح الممارسات التي يرون انها خاطئة ، فلنتعود على هذا الجو فهو الجو الحقيقي للديمقراطية ، مهم أن نتعود على احتمال آخرين ذوو أفكار مختلفة بصورة حادة عن افكارنا ، فهذا هو واقع الديمقراطية وجوها العام ، فلنسعى معا لتعضيده بالشفافية وحكم القانون ولنواصل الشجاعة والأمل في بناء واقع ديمقراطي يحتكم فيه الجميع إلى الأسس الديمقراطية السليمة .


sondy25@gmail.com

التعليقات مغلقة.