سنظل نبحث عن إطلالتها العبقريه

سنظل نبحث عن إطلالتها العبقريه
  • 15 يوليو 2020
  • لا توجد تعليقات

د. الطيب حاج مكي


انتقلت إلى رحاب ربها الجمعه 10-7-2020 السيده الفاضله إنعام الإمام عبد الرحمن المهدي رحمها الله. وترك رحيلها حزنا مقيما، وجرحا مؤلمًا في الروح والجسد وسنظل نبحث عن إطلالتها العبقريه بحثنا عن طلة كل عزيز يرتحل عن دنيانا (أم بنايا قش). رحلت رحيل النوارس بدون وداع وفي هدوء النسمة وخفوت السكون. قال شوقي رحمه الله:
وقد يموت كثير لا تحسهم كأنهم ، من هوان الخطب ما وجدوا
ثكل البلاد له عقل، ونكبتها ، هى النجابة فى الأولاد، لا العددُ

فقدنا للسيدة إنعام رحمها الله فقد لمدرسه دعوية وفقد لمؤسسة تربويه، ولمربيه ولأستاذة في القانون والقفه ولأم حنون وسيدة رؤم تفيض بالمحبه وبالمحنه تطرز كلماتها وتزينها مثلما بالذهب تزنها. لم يكن ممكنا أن تذهب إلى أم درمان ولا تسعى لمقابلتها وعندما تلقاها يصعب أن تكتم في كل مرة الدهشه من ظرفها ومن جم تواضعها. وكم تتمنى أن لو يسعفها الوقت أو لا يمضي أو أنك تمتلك منه الدهر والذاكرة اللاقطة لتسجل التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المبثوث حيَاً من شاهدة عليه. لم تكن إمرأة عاديه ، كانت فوق العادة. ولم تكن تميل لتتحدث في لغو الكلام وصغائر الأشياء. كانت دائما مثل أبيها ومثل أخويها وكانت تتمثل جدها في علو الهمه والترفع ولكن دون خيلاء. ظلت تغطي الأسرة الأنصاريه بالعطف والحنان وتسعى للتقرب بدلا من أن يتوددوا إليها. كانت درة نادرة أهدت إلى من عرفت بعضا من خصالها. وتميزت دائمًا بأنها من الدرر العصية على التقليد وأحيانا على المحاكاة.

ولهذا (إن شفت) السيده إنعام ستميزها وستعرفها ، بظرفها وهيئتها وبنقائها وأدبها. وستعرفها بالأثر الذي تترك فيمن يقابلها. إنه أثر من نور يحاكي أثر الضوء على العتمه. وكلما يقابلها المرء يسعى لتكرار لقائها، وفي كل مقابله أنت تقرأ في صفحه أبهى من الأولى. وكلما تغادرها يصعب عليك مغالبة التصفيق ورفع الصوت بقول (الله أكبر ولله الحمد). قال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) صدق الله العظيم. في تفسير هذه الآيه، قال الإمام الطبري قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وأضاف اختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم. فقال بعضهم: هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم، لما عليهم من سيما الخير والإخبات. وذكر الطبري من قال ذلك: (حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس:( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، قال: الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم).

وقد كانت السيدة إنعام من أولئك الذين إذا رأيتهم حمدت الله وإن كنت أنصاريًا، فاضت بك المحبة وهتفت: الله أكبر ولله الحمد. فهي تذكر بالعابدات والصائمات والقائمات وتذكرني خصوصا بسيرة السلف وتذكر الجميع بأبيها الإمام عبد الرحمن عليه وعليها رضوان الله وسلامه. قابلتها تسعى ضمن لجنة إحياء ذكرى عمها الأسير صاحب دار الذكرى، المناضل الجسور والمثابر والمؤرخ العصامي والفقيه العابد العالم النحرير السيد على المهدي رحمه الله. كانت مصادفة كتبها الله في مكتب الدكتوره بخيته الإمام الهادي بالجامعه. جاءت السيدة إنعام للتفاكر مع الدكتورة بخيته حول اللجنة التي شَرفتُ بعضويتها. تشعب الحديث في الإحتفاء وعن أسر السيد علي وسيره والأسرى وهو اليافع على الأقدام إلى معسكر رشيد. وتنقل الحديث في الإجتماع والتاريخ الاجتماعي. وكانت كلما تحدثت أشعرتني بأنها قريبه للقلب وأقرب لأمهاتي تهذيبًا وأقرب إليهن في السمات وفي العبارة ورقة الإشارة. تونست معها رحمها الله، كأم أوحت لي بذلك، واستهلكت من وقتها الكثير. وقلت لها إن السيد على بالإضافة للصلة الروحيه لنا به صله رحميه من جهة الشيخ القرشي ود الزين. حديث صال وجال وتحول لإدهاش من طرفها وإمتاع مفتوح على التاريخ الإجتماعي للأنصار. فيما بعد اهتمت وتابعت توثيق هذه الصله فسجل الحبيب بشير أحمد القوي مع آخرين مقطعا توثيقيا مصوراً عن التاريخ المنقول للسيد على والشيخ القرشي ود الزين والنعمه (التي تلد النعمه). وعرض التسجيل في الاحتفاء بالسيد علي المهدي.

والشاهد لم تدهشني يومئذ برؤيتها الاجتماعيه بقدر الدهشه من عمق معرفتها بالمجتمع السوداني وإلمامها برؤية الإمام عبد الرحمن لدور المرأة وخصوصا اهتمامه بتعليمها. وللتدليل أرسل الإمام بناته ومنهن السيد إنعام لمؤسسات التعليم الحديث لإقناع مجتمع رافض لتعليم المرأة. كما أن اهتمام الإمام عبد الرحمن المبكر بتعليم المرأة يدلل عليه مساندته لمشروع بابكر بدري. فالمرأه تجسيد لمعاني (وجه أمي وجه أمتي) فهي الحياة بتحدياتها وهي العزاء في الحزن والرجاء عند اليأس والقوة في لحظات الضعف.

ومضى الوقت وغاردت السيدة إنعام مكتب الدكتورة بحيته. وتركت ما استعيده اليوم بعد رحيلها. وهو أقرب لما قاله الإمام الغزالي كلما (عرفت شيئا دلني على جهلي). فالسيده إنعام رحمها كانت كتابا في التهذيب والمعرفه والاجتماع والحياة. رحم الله السيده إنعام وأحسن إليها وتقبلها عنده في أعلى عليين مع الشهداء والأولياء والصالحات والصالحين. وتعازينا لأسرتها الصغيرة ولأسرة الإمام عبد الرحمن وآل المهدي وخلفائه ولمحبيها حيثما كانوا ويكونون. ولا نقول إلا ما يرضي الله. إنا لله وإنا إليه راجعون.

التعليقات مغلقة.