بين توحش القبائلية وأُنْس المواطنة !

بين توحش القبائلية  وأُنْس المواطنة !
  • 17 أغسطس 2020
  • لا توجد تعليقات

محمد جميل أحمد



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
..(سنصير شعباً حين ننسى ماتقول لنا القبيلة)
محمود درويش
…………………………………………………….

درك القبائلية التي أوصلنا إليه النظام السابق لايزال يشتغل بطريقة دفع ذاتي غريب ومتوحش ولايزال يبرهن في كل مرة أنه أتعس أشكال الرهانات السياسوية حين تعكس القبائلية في تعبيرها المأزوم عن السياسوية معنى التوحش والاقصاء والبدائية والعصبية في أدنى طبيعة تعامل لها مع كل مالايشبهه؛ أي مع الاختلاف والتعدد، مع المواطنة والفردية، مع المدينة والهوية، مع النادي والمسرح والسينما، مع الميادين والساحات.

إنها القبائلية التي كان يستحي أجدادُنا من التعبير عنها فيما هم يرون خيرات الدولة الحديثة في الاستقرار والتنظيم والأمن والاندماج وهي تقطع لهم عبر أفضالها تلك، كلَ خيط يذكرهم بأطوار ماضي القبائلية (لا القبيلة).

المفارقة؛ أن الاستعادة المتوهمة للقبائلية في هذا الزمن الحديث هي مسخ غريب لاتشبه ما قد تظنه تقليداً حديثاً في نظام القبيلة القديم، حيث كانت القبائلية طريقة وحيدة في تعبيرات البشر حين كانت حياتهم خالية من نظام الدولة في الاجتماع السياسي والاندماج الذي يخلقه التعدد في فضاء المدينة، والشراكة التي تتمثل في المواطنة، والوحدة التي تتجلى في هويتهم القومية/ الشعب.

أجدادنا المخضرمون حين تعرفوا على ثمار الدولة الحديثة ونعمتها كان بالضرورة أن يجعلوا من استحيائهم من الحياة القديمة تعبيراً وحيداً لامتنانهم. لكن اليوم بعد أحيت الانقاذ وحش القبائلية من مرقده الرميم قبل ثلاثين سنة، فإن نظم الإدارك المتوحشة لتنظيم العلاقات التي تعبر عنها لن تفضي باجتماعنا السياسي إلا إلى هاوية سحيقة من التناحر والفتن والاحتراب؛ لأن المنظور الذي ننظر منه إلى اجتماعنا السياسي عبر القبائلية هو مسخ مسخوط ولا يبشر إلا بالخراب.

القبائلية؛ مزيج كسيح من الأوتقراطية الرثة والعنجهية الزائفة والاحساس الخادع بالأنا المأزومة؛ إنها تعبير عن كينونة الخراب وحالة من الشلل الإرادي في مقاربة اجتماع سياسي لاتنظر إليه إلا بعين عمياء.

كم كان الناظر العظيم بابو نمر حكيماً ومن كبار رجالات الإدارة الأهلية الذين أدركوا أفول نظام القبائلية مع بروز أشكال الحداثة الأداتية التي جلبها الإنجليز من خلال إدماج نمط الحياة العامة في الدولة الحديثة عبر تخطيط المدن وتنظيم العمل والسكة حديد. ذلك أن الناظر بابو نمر حين سمع أنصار نميري يهتفون أمامه: ” تسقط تسقط الإدارة الأهلية” ، وحين اعتذر اليه نميري بالقول “انشاء الله ما تكون زعلت من الهتافات بسقوط الإدارة الأهلية؟”
أجابه الناظر العظيم بابو نمر : ” زي الهتافات دي لا بتودي ولا بتجيب. نحنا عرفنا الإدارة الأهلية حتسقط مما دخل القطر بابنوسة”

هكذا أدرك هذا الناظر الفذ الانتقال الاجتماعي الحديث الذي كانت تبشر به الحياة في السودان قبل خمسين عاماً؛ فإذا بالكيزان ونظامهم المملوكي يعيدون الإدارة الأهلية في ردة واضحة عن السياسية والحداثة. وإذا نحن اليوم نسير في طريق ملكي لخراب عظيم ينتظرنا، لولا أن يلطف الله بثورتنا لتقطع الطريق على نظار يتوهمون في أنفسهم عباقرة سياسيين فيما هم نذر خراب عظيم يلوح في الأفق.. الله يستر!

لقد جلبت الإنقاذ، لا أعاد الله أيامها، للسودانيين من الماضي: شيئاً قديماً ومدمراً !

التعليقات مغلقة.