كلام عابر

ورحل منبـع النـور العظـيم

ورحل منبـع النـور العظـيم
  • 13 أغسطس 2017
  • لا توجد تعليقات

عبدالله علقم

بدأت حياتها السياسية بصوت رومانسي ولكنه متمرد.. رفضت للفتاة السودانية أن تكون “مجرد وجه أو جسد جميل. رفضت مواصفات فرضتها عليها التقاليد الصارمة التي سلبتها إنسانيتها، وحولتها إلى مجرد فرد من الدرجة الثانية في جماع يحكمه الذكور، تلتزم بما تقوله الجماعة وتفعل كما تؤمر، واكتشفت من خلال روحها الثائرة ضرورة تفردها فتفردت، وأصبحت صوتاً قوياً أصيلاً فريداً يعبر عن العصر بكل مفرداته”. هكذا قال (أخو فاطمة)، ومن مثل (أخو فاطمة) عشقاً للوطن وتفرداً وأناقة كلمات منثورة ومنظومة؟ ومن مثل فاطمة التي اختارت أن تترجل من جميع مناصبها التي كانت رئاسة الاتحاد النسائي أكثرها شهرة وأعمقها جذورا ًممتدة إلى باطن الأرض، ورحم كل الوطن؟

ليس من المألوف في السودان أن يتنحى العاملون في حقل العمل العام، خصوصاً إذا كانوا في مواقع فيها قوة السلطة أو بريق أضواء الشهرة فيتشبثون بمواقعهم إلى أن ينتزعهم منها أو ينتزعها منهم الموت أو المرض أو الانقلاب العسكري أو أي ظرف خارج عن الطوع والإرادة، ومن ثم، فإن تنحي فاطمة عن مناصبها يعدّ ثقافة جديدة في مجتمعنا، وحفزاً للأجيال الصاعدة لتتسلم الراية، وقبولاً بسنة الحياة.

هي مسيرة طويلة توجت في عام 1952 بقيام الاتحاد النسائي السوداني، ثم صدور مجلة “صوت المرأة” عام 1955م، وسنوات من النضال ضد الحكم العسكري الأول حتى اندلاع ثورة أكتوبر 1964م، ثم أصبحت أول نائبة في البرلمان عام 1965م عن دوائر الخريجين في أول انتخابات تشارك فيها المرأة السودانية ناخبة ومنتخبة، سابقة بذلك المرأة في جميع الدول العربية، واستطاعت أن تحقق مكاسب تاريخية للمرأة السودانية، مثل: الحق في الأجر المتساوي للعمل المتساوي، والمساواة في فرص التأهيل والتدريب والترقي، والحق في عطلة الولادة مدفوعة الأجر، وغير ذلك من المكاسب.

جاءت سنوات مايو ثقيلة الوطأة على فاطمة بعد الطلاق البائن بين مايو واليسار، فقتل النظام زوجها، لكنه لم يفلح في قتل روحها ولا عزيمتها، وظلت شامخة مقاتلة حتى جاءت انتفاضة ابريل 1985م التي أتاحت للشعب السوداني آخر انتخابات حرة، لكن فاطمة أخفقت في الوصول إلى كرسي البرلمان هذه المرة بفعل سطوة وسائل التمكين المبكر.
كانت عدواً دائماً لكل النظم العسكرية، فوقفت في وجه كل الديكتاتوريات، وامتدت مقاومتها إلى خارج الحدود، فالكفاح من أجل حقوق المرأة في السودان مرتبط ارتباطا وثيقا بالكفاح من أجل الاستقلال السياسي والحرية وحقوق الإنسان بشكل عام، وكان صمود فاطمة في وجه الاضطهاد ودفاعها عن حقوق الإنسان عملاً وطنياً في ظل التحولات الاجتماعية المتغيرة بين التراث والحداثة والاستبداد السياسي والثورة.

ارتبطت فاطمة بالمجتمع وجعلت من نفسها، مع زميلاتها في الاتحاد النسائي، قدوة تحتذى بفضل ما كانت، وكن جميعاً، تتمتع ويتمتعن به من مناعة خلقية عالية، ومسلك رفيع أضاف قيمة كبيرة إلى العمل النسائي العام، وأكسبه وأكسبهن احترام كل المجتمع وتقديره.

كانت تربيتها الدينية وخلفيتها الأسرية الصوفية جلية حينما أكدت في المؤتمر الدولي حول المرأة المسلمة في فاس، المغرب عام 2000م أن الإسلام أول من أطلق عنان الحرية للمرأة، ومنحها الفرصة كاملة لتحقيق ذاتها في مجتمع إسلامي متكافئ الفرص، وعزت واقع التردي والتدهور الذي تعانيه المرأة إلى الأنظمة الحاكمة المتسلطة وليس إلى الإسلام. وحذرت من تحرر المرأة على الطريقة الغربية التي شبهتها بالاسترجال، وليس المساواة.

أصبحت فاطمة أحمد براهيم رئيسة للاتحاد النسائي العالمي في عام 1991م، ونالت جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1993م، وكان آخر عرفان لفضلها ونضالها من أجل حقوق الإنسان والعدل الاجتماعي هو جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر لعام 2006م ، وهي مؤسسة عالمية غير حكومية مقرها في ألمانيا تهدف إلى مساندة حرية التعبير والديمقراطية في العالم العربي أسستها مجموعة من مثقفين العرب، وتهتدي بفكر ابن رشد الفيلسوف والوسيط بين الثقافات الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وجهر برأيه بلا خوف من عقاب، وأعلى من قيمة العقل والاجتهاد في مرحلة انحطاط فكري وسياسي شامل مُنع فيه الفكر والاجتهاد والعلم.

وقد يختلف الناس حول طرح فاطمة السياسي، لكنهم لا يختلفون حول حقيقة أنها امرأة من أعظم نساء العالم، وأنها تاج على رأس كل الوطن؛ لأنها امرأة بحجم الوطن، ووطن كامل في امرأة.

لقد أصاب فاطمة في الآونة الأخيرة رشاش أقلام بعض رفيقات دربها، جرياً على نهج كثير من الرفاق الذين ينقلون خلافهم مع رفاقهم إلى العلن، ويبلغون به حد الفجور أحياناً. فاطمة قمة تعلو على الانتماء الحزبي وتناطح السحاب، وتظل إرثاً لكل الوطن، ونغماً جميلاً لا تكف الشفاه عن ترديده مع صلاح:
لك يا أم السلام
وهي ترنو لي وتصفو للتحية بابتسام
وجبيني في الرغام
والتحيات الزكيات لها نفس زكية
رسمها في القلب كالروض الوسيم
صنعتنا من معانيها السنية
وستبقى منبع النور العظيم

الموت حق علينا جميعاً، ولكل أجلٍ كتاب معلوم. رحل منبع النو العظيم. كانت آخر مشروع لها في الحياة العناية بأطفال الشوارع. تمنت أن يمتد بها العمر لتفعل شيئاً من أجلهم. رحم الله الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم تاج كل الرؤوس وضمير كل الوطن.

Khamma46@yahoo.com

التعليقات مغلقة.