قصة فشل

قصة فشل
  • 12 نوفمبر 2021
  • لا توجد تعليقات

ياسين حسن ياسين

التكتيكات المعروفة في سلاح المشاة تشمل الخدعة والتضليل، بما في ذلك الحرب الإلكترونية، ثم النزعة لمحاصرة «العدو» في أضيق نطاق سواء بإغلاق الجسور الحيوية بين المدن أو قفل الطرق المؤدية إلى تجمعات بشرية أو مرافق حيوية، علاوة على تعطيل وسائل الاتصال.

ذلك بالضبط ما يفعله البرهان والانقلابيون من حوله. ولا غرو فقد تلقى تدريبه العسكري، وعلى حساب دافع الضريبة الغلبان، ليصبح محترفاً في سلاح المشاة كقائد للقوات البرية ومن قبلها لقوات حرس الحدود. في الواقع، ظل البرهان وزمرته يحاصرون البلد، خفية، منذ يوم التوقيع على الوثيقة الدستورية. اتخذ حصارهم مظاهر شتى لعل من أبرزها التحكم في اقتصاد البلد الذي استحوذت شركاتهم على أكثر من 80 في المائة من حجمه. ثم توجوا سوء عملهم بإغلاق الميناء البحري كلياً وفتحه جزئياً كاستثناء لتصدير نفط جنوب السودان، تاركين الشعب الغلبان بلا خبز ولا دواء ولا وقود ولا كساء، محتجين بأن الأمر سياسي لا دخل لهم فيه!
بيد أن حصارهم بعد 25 أكتوبر خرج من الخفاء إلى العلن. بهذا الحصار المعلن، فهم يراهنون على نفاد صبر الشعب واستسلامه للأمر الواقع، وتخليه طوعاً من طموحات ثورته والخضوع لإملاءات الإخوان المسلمين بدلاً منها. آية ذلك أن الانقلابيين يعملون ليل نهار على تزيين الأمر الواقع بتأكيد حرصهم على مدنية الدولة والوصول بالناس إلى صناديق الانتخابات في 2023م.
وبأجندة سرعان ما تكشفت، فإن المدنية التي يقصدونها لا تقل مخاتلة عن حديث الإخوان المسلمين عن مشروعهم الحضاري الذي صدعّوا به رؤوس الناس في بواكير حكمهم. ظهرت تلك الأجندة في مؤشرات كانت مثار سخرية لدي القاصي والداني.
الاستبداد: كان الاستبداد في صدارة هذه المؤشرات. إذ أبدى البرهان استبداداً واضحاً من خلال «الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة»، وذلك هو الاستبداد حسب تعريف عبد الرحمن الكواكبي. تجلى الأمر كأوضح ما تجلى في نقض قرار قضائي باستعادة خدمات الإنترنت. وتجلى أيضاً في تشكيل مجلس سيادة لا يقبله الثوار ولا يرضي سوى الإخوان المسلمين. وتجلى مرة أخرى في تعيينات بمراكز حساسة تمس الناس في صميم حياتهم، مثل مدراء أغلب البنوك الحكومية ومدير التلفزيون القومي ووكالة الأنباء، إلى آخر القائمة. كذلك واصل استبداده بإعادة توظيف المفصولين بمقتضى قانون إزالة التمكين الذي ارتكز على الوثيقة الدستورية في مادتها الثامنة بندها (15)، إذ تضمن النص بالحرف الواحد: «تفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989م وبناء دولة القانون والمؤسسات.»
إن شخصاً بمثل هذه الجرأة في الكشف عن مكنون استبداده وخلال أسبوعين فقط من تسنمه الحكم، من المؤكد أن الأيام وحدها سوف تكشف عن مظاهر عديدة من استبداد يستبطن فساداً فاحشاً من أجل مصالح ذاتية ضيقة. ولا شك أن هذا التوجه يستند إلى فكر اقصائي يدين له البرهان بولاء لا يغالب أبداً، لكنه يتأفف منه في الوقت الراهن لأسباب انتهازية معلومة.
التحالفات المشبوهة: اتضح أن البرهان قد أبرم مسبقاً صفقات مع لوردات الحروب الذين قطفوا ثمار الاقتتال، وخاصة في دارفور، مستأثرين بتلك الثمار، ضاربين عرض الحائض بدماء البسطاء وبتضحياتهم الجسيمة. تلك تضحيات لم تقتصر على القتل والاصابات بل تعدتها إلى اللجوء القسري خارج حدود الوطن والتشرد داخل حدوده، وضياع سبل كسب عيش كريم ومفيد لهم ولبلدهم على السواء.
صعوبة الخروج من المأزق: يدرك البرهان وزبانيته أنهم قد ارتكبوا خطأ لا يغتفر بانقلابهم على سلطة شرعية تحظى بقبول شعبي هو الأوسع في تاريخ السودان المعاصر، وبكل المقاييس. وطوال سنتين فقط من عمله، نلاحظ أن مجلس السيادة الشرعي، وعلى الرغم من أوجه القصور التي قيّدت حركته ومنها الطابع العسكري المهيمن عليه، إلاّ أنه استطاع أن يبتدر نشاطاً رفيعاً على مستويين: على المستوى الإقليمي داخل السودان، وعلى مستوى الأسرة الدولية. وفي الحالتين كلتيهما، كانت شرعية المجلس سبباً في النجاح النسبي الواضح سواء في استنفار الموارد للتنمية في الهامش أو المكانة الدولية الرفيعة للسودان.
الآن، بمجلس السيادة المعلن عن تشكيله بالأمس، والذي يغلب عليه النفعيون والإسلامويون غلبة يتعذر نكرانها، يكون البرهان وزمرته قد أعادوا البلد إلى «إنقاذ مستأنفة» ستصبح أشد وطأة على الجميع وأكثر كلفة على الوطن بما لا يقاس. وفي الوقت نفسه، سوف يستعصي التراجع عن هذه الخطوة مع مرور الوقت. ذلك أن التراجع يتطلب إلغاء كل هذه المهزلة والعودة إلى الوضع كما كان قبل 24 أكتوبر، أو الدخول مع الشعب في معركة كسر عظم لا هوادة فيها. والحشاش يملأ شبكته، كما يقولون.
لكن، وفي المقابل، ما الذي يستطيع الشارع عمله؟
الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جداً: يستطيع الشارع أن يكرر مأثرة انتصاره في أبريل 2019م ووضع نظام الإنقاذ في موضعه من مزبلة التاريخ. إلاّ أن مأثرة النصر هذه المرة يجب أن تتميز بعناد عقلاني يرفض الدخول في أية شراكة تبرم بين طرفين يضمر أحدهما شراً بالآخر ويعمل دائباً على تنفيذ ما يضمره.
إذن الحل في استمرار الإضرابات لتقودنا إلى عصيان مدني شامل. وأمام عصيان شامل وناجح يشل مظاهر الحياة شللاً تاماً، سيضطر الانقلابيون إلى الرضوخ لرغبة الشعب الحارقة في إقامة حكم مدني قوي ومستقر وقادر على إزالة تشوهات تمكين الإنقاذ البائد، باعتبار زوالها شرطاً لازماً وكافياً لقيام دولة حديثة على أساس المواطنة والقانون والمؤسسات. بذلك وحده، يستطيع البلد الاستفادة من الدعم الدولي لثورته؛ وبذلك وحده، يستطيع الشعب أن يستعيد تلك الصورة الزاهية لبلد تقوده وزارة مدنية جديرة وحصيفة يرأسها رئيس وزراء جدير وحصيف جدارة حمدوك وحصافته.
yassin@consultant.com

التعليقات مغلقة.