زراعة الألغام في طريق وحدة قوى الثورة تمهيد للانقلاب الأخطر

زراعة الألغام في طريق وحدة قوى الثورة تمهيد للانقلاب الأخطر
  • 24 أبريل 2022
  • لا توجد تعليقات

إن الميزة الوحيدة لكارثة انقلاب 25 اكتوبر 2021 هي إثباتها بما لا يدع مجالا للشك ان الوعي السياسي الشعبي في السودان تجاوز –الى حد كبير – فكرة التماس الحل لأزمات البلاد السياسية والاقتصادية في الانقلابات العسكرية، إذ خرجت المظاهرات الرافضة لهذا الانقلاب قبل وقوعه في 21 اكتوبر، وبعد ساعات من إعلانه في 25 اكتوبر وما زالت الحشود الجماهيرية حتى الآن تخرج في مدن السودان المختلفة في مشهد تاريخي عظيم يسجل بحبر الدم والدموع وبصمات الألم والجراح أن صفحة الانقلابات العسكرية في السودان يجب ان تطوى وتفتح صحة جديدة عنةانها هو وحدة قوى الثورة، وتبعا لذلك صفحة الاستبداد والفساد ونهب موارد الوطن لصالح الأقلية، وهنا تستحق لجان المقاومة أرفع اوسمة الشرف لأنها رأس الرمح في التعبير عن هذا التحول الكبير بمثابرتها على الثورة ووحدة قواها.

ثم ماذا بعد؟
الفريضة الغائبة، بل المُغَيًّبة بفعل فاعل عن المشهد السياسي في السودان الآن هي بناء كتلة سياسية منظمة ومتحدة حول خارطة طريق لكيفية هزيمة الانقلاب واستعادة المسار الانتقالي المدني الديمقراطي، “كتلة تاريخية” تضم كل أصحاب المصلحة في التحول الديمقراطي، لها هيكلها التنظيمي وقيادتها المحددة، ورؤيتها الواضحة لمهام الفترة الانتقالية وكيفية انجازها عمليا، ولها منابرها الإعلامية وخطابها السياسي الناضج الذي يحظى بمشروعية شعبية كبيرة في الداخل عبر الارتباط العضوي بالحراك الثوري، ومن ثم يكتسب القدرة على مخاطبة المحيط الإقليمي والدولي باحترافية سياسية تقود إلى هندسة التحالفات الخارجية في اتجاه خدمة الأجندة الوطنية وعلى رأسها تصفية الانقلاب وتأسيس فترة انتقالية ناجحة، بدون هذه الكتلة لا يمكن تحقيق اي تقدم في المعركة المصيرية التي يخوضها السودانيون الان بكثير من الشجاعة والحماس والتضحيات العظيمة، وكثير من التنظير حول مواصفات الدولة المطلوبة بعد سقوط الانقلاب ولكن بقليل من التنظيم والتخطيط و وحدة قوى الثورة والتحديد الدقيق للآليات العملية لترجمة ما تقوله المواثيق الى واقع ملموس، وقليل من التصورات الموضوعية والواقعية لكيفية انتزاع السلطة عمليا من الانقلابيين، بينما يتمدد المشروع الانقلابي بخطوات متسارعة في تصفية الثورة والانقضاض على القليل الذي أنجز بعد الاطاحة بالبشير، وكذلك التحركات النشطة محليا وخارجيا لتكريس الانقلاب كأمر واقع، وطبعا أكثر الجبهات التي ينشط فيها الانقلابيون هي تفكيك القوى المدنية ابتداء من تحريك عملائهم لتخريبها وتقسيمها من داخلها وصولا الى الاستعانة بمحترفين دوليين في التأثير على الرأي العام عبر الحسابات الوهمية في مواقع التواصل الاجتماعي بهدف هزيمة وحدة الصف المدني وشغل الرأي العام بالمعارك الثانوية على حساب المعركة الرئيسية.

فالانقلابيون يعلمون ان الخطر الماحق عليهم هو بروز كتلة سياسية مدنية مسنودة بالشارع في مواجهتهم.

وطبعا هذه الحقائق لا تنفي أبدا مسؤولية القوى السياسية المدنية من أحزاب وتحالفات عن الفشل حتى الآن في أداء واجبها التاريخي وهو تنظيم و وحدة قوى الثورة بصورة مجدية لقيادة المعركة السياسية وسد الفراغ القيادي الذي يهدد البلاد.

الكتلة التاريخية مجددا
فكرة”الكتلة التاريخية” مستلفة من الفيلسوف والمفكر الماركسي والمناضل السياسي أنطونيو قرامشي(1891-1937)، وقد طرحها في سياق كيفية مواجهة الفاشية في إيطاليا المنقسمة الى شمال متقدم وجنوب متخلف عبر كتلة تاريخية تشمل قوى التغيير في الشمال من ماركسيين وشيوعيين ولبراليين والقوى المهيمنة على الجنوب بما فيها الكنيسة.

وظلت فكرة غرامشي هذه مصدر إلهام للمفكرين والسياسيين حيثما وجد تحدي العبور إلى مرحلة تاريخية جديدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في ظل انقسامات حادة وتحديات كبيرة، وفي تقديري ان تحدي هزيمة الانقلاب وتأسيس فترة انتقالية تفضي الى ديمقراطية مستدامة في السودان يحتاج الى هذه الفكرة.

في سياق سعينا لبناء كتلة تاريخية هدفها استعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي، ليس من الموضوعية والواقعية بمكان افتراض ان كل مكونات هذه الكتلة ستكون على ذات الدرجة من الثورية والايمان بالتغيير الجذري على مستوى السياسة والاقتصاد والتنمية والهوية والقوانين، وكل تفاصيل ما يجب أن تكون عليه الدولة السودانية في المستقبل، او ان تكون كل الأحزاب والتحالفات مكتملة ” الطهرانية والاستقامة الثورية” لا سيما وان هناك حالة من التجريف السياسي والتخريب الممنهج الذي استهدف الكيانات السياسية بلا استثناء، فليس سرا أن نظام الإنقاذ زرع عملاءه في كل الاحزاب بلا استثناء، موظفا في سبيل ذلك أموالا طائلة وجهدا استخباريا مضنيا، بهدف السيطرة على البلاد بتدمير البدائل السياسية وتعويق العمل المشترك خصوصا في المحكات التاريخية التي تستوجبه مثل اللحظة الراهنة ممثلة في تحدي إسقاط انقلاب البرهان حميدتي أو كما كان الحال لحظة التصدي لنظام الإنقاذ عام 2018 ، ولكن رغم كل التخريب والتجريف هناك خلايا حية للمناعة الوطنية وجينات مقاومة للقهر كامنة في الجسد الوطني بما فيه الاحزاب السياسية والكيانات التحالفية ، ولذلك رغم كل القصور والإخفاقات والهزائم التاريخية لهذه التحالفات، ليس من خيار امامنا ونحن تحت وطأة هذا الانقلاب العسكري، وتحت تهديد جدي بانبعاث نسخة جديدة من الانقاذ سوى العمل المشترك لبناء كتلة تاريخية لصد الانقلاب العسكري تشكل ذراعا سياسيا للحراك الثوري، مثل هذه الجبهة لن تهبط مكوناتها من السماء، بل ستتشكل من الكيانات الموجودة على أرض الواقع في هذه اللحظة التاريخية، الأمر الذي يستوجب بناء جسور التواصل المتينة بين القوى الحية: لجان المقاومة والاحزاب السياسية والتنظيمات النقابية والنسوية ومنظمات المجتمع المدني وروابط المثقفين والاعلاميين وكل ذوي التوجهات الثورية والداعمين للتحول الديمقراطي..

وتأسيسا على ذلك، لا بد من هزيمة الخط السياسي الذي يثابر بإصرار عجيب ومريب على بناء الجدر العازلة بين لجان المقاومة والجماهير الثائرة في الشارع من جهة، وبين الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على اساس “الطهرانية الثورية” وافكار “التغيير الجذري”! من جهة أخرى..

الشعوب بطبيعتها من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تتوحد حول وصفة ايدولوجية مفصلة للتغيير الجذري سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، مهما كانت صحة هذه الوصفة ونبل اهدافها، الشعوب في لحظات تاريخية حاسمة يمكن أن تتوحد (إلى حد كبير وليس بالمطلق)حول شعارات ومبادئ عامة وأهداف وطنية مشتركة كالإطاحة بنظام دكتاتوري كما حدث في السودان في ديسمبر ٢٠١٨ او رفض انقلاب عسكري والمطالبة بمسار ديمقراطي كما حدث في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ، والروح المعنوية التي تغذي الحراك وتحفزه هي الرغبة في تحقيق قيم وأهداف كبيرة كالحرية والسلام والعدالة، ولأن الرؤى متباينة حول كيفية بناء النظام الجديد وإصلاح الدولة في الاتجاه الذي يجسد هذه القيم، تبرز أهمية “الفترة الانتقالية الناجحة” وشرط نجاحها الأساسي هو أن يستوعب كل الفاعلين السياسيين طبيعتها ونوعية وحدود مهامها في سياق المعطيات الواقعية للبيئة السياسية التي يحدث فيها التغيير..

اختلاف حول مفهوم الانتقال
الفترة الانتقالية هي الجسر الذي ينقل الحياة السياسية من النظام القديم بأفقه المسدود إلى نظام يختلف عنه بخاصية واحدة هي الأفق المفتوح على التطور، أي حالة القابلية للتغيير بالوسائل الديمقراطية وعلى رأسها الانتخابات ، وتبعا لذلك تنحصر مهام الفترة الانتقالية في بناء توافق سياسي حول حزمة من التدابير السياسية والدستورية والقانونية، والإصلاحات المؤسسية لجهاز الدولة والمنظومة العدلية في اتجاه تهيئة الملعب السياسي لانتخابات حرة نزيهة في ظل توافق شعبي كبير على قانونها ونظامها، وثقة شعبية في مصداقيتها على أساس الإصلاحات التي تمت وكفلت بالفعل تكافؤ الفرص وعدالة التنافس الى حدود مقنعة ، ولكي يتحقق ذلك في ظروف السودان لا بد من تحقيق السلام، وتنفيذ عملية دمج وتسريح لكل المليشيات المسلحة وصولا الى جيش مهني واحد بعقيدة قتالية وطنية جديدة، والشروع في عمليات جادة في كل من تفكيك نظام الإنقاذ وإزالة التمكين، والإصلاح الأمني والعسكري، ، وإصلاح القضاء والنيابة العامة ، إجراء إحصاء سكاني مهني يوفر قاعدة بيانات للتنمية وللانتخابات. وهذه الإصلاحات المؤسسية لن تكتمل في الفترة الانتقالية بل هي عمليات مستمرة سوف تستغرق عقودا، ولكن لا بد من ان تبدأ بداية جادة في الفترة الانتقالية، ولا بد ان يُنجز منها ما تقتضيه حرية ونزاهة الانتخابات.

باختصار الفترة الانتقالية هي مرحلة تمهيدية للتأسيس الجديد للدولة السودانية، وهي بطبيعتها هشة وتتطلب قدرا كبيرا من المرونة والحرص على التوافق والتعبير عن تطلعات الشعب بتنوعه وتعدده، وتفادي الاستقطاب الحاد بين “قوى التغيير”، وإدراك ان التغيير المقصود هو الانتقال من النظام الدكتاتوري الى نظام ديمقراطي تعددي تتنافس في ظله الخيارات الفكرية والبرامج الاقتصادية والتنموية المختلفة.

من أخطر المشاكل التي برزت في الساحة بعد الإطاحة بالبشير عدم فهم طبيعة ومهام الفترة الانتقالية، مما أدى لتحميلها ما لا تحتمل من أعباء التغيير الجذري في المجالات المختلفة داخل السودان، بل هناك من ذهب أبعد من ذلك وجعل من ضمن مهام الفترة الانتقالية في السودان قيادة مواجهات كونية مع النظام العالمي، وقيادة دول عالم الجنوب في معركة لهزيمة الامبريالية والنيو لبرالية، ومحاربة الصهيونية، وتحويل السودان الى مقبرة لكل كومبرادورات عالم الجنوب!

إن إغراق الفترة الانتقالية في قضايا خلافية ابتداء من وضع صورة “خلق آدم” لمايكل انجلو في كتاب التاريخ للصف السادس الابتدائي وصولا الى هزيمة النظام الرأسمالي في نسخته النيولبرالية، حتما سيغذي الصراع والاستقطاب في مرحلة لا يملك فيها اي تيار تفويضا انتخابيا، والقاسم المشترك الاكبر بين مكوناتها يجب ان يكون الوصول الآمن الى محطة الانتخابات، وحينها كل يطرح مشروعه للنهوض بالسودان اقتصاديا وتنمويا، وإصلاح نظامه الصحي والتعليمي، وبلورة سياساته الخارجية وتحالفاته الدولية، وما الى ذلك من تفاصيل برامجية.

ويمكن ان تتطور الكتلة التاريخية بعد نجاحها في إنجاز مهمة إسقاط الانقلاب ثم مهام الانتقال، إلى إلى كتلة أصغر حجما ولكنها أكثر توافقا في الأفكار والبرامج حول “مهام التأسيس لجمهورية سودانية جديدة”، فإذا أخذنا في الاعتبار حقيقة ان الدولة السودانية فشلت الى حد كبير في تحقيق أهداف ما بعد الاستقلال، بل فقدت حدودها الموروثة من الاستعمار فتقلصت جغرافيتها وديموغرافيتها، وعصفت بها الحروب الأهلية واقعدها الفقر والتخلف، فمن المشروع جدا بل من الواجب بذل أقصى الجهود في بلورة مشروع وطني للديمقراطية والتنمية البشرية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية. وهذا المشروع الطموح بطبيعته يحتاج الى تيار فكري وسياسي غير تقليدي، يمتلك الرؤية والإرادة والمقدرات والمعارف النوعية، والقيادة المؤهلة لاستنهاض الشعب السوداني وتفجير طاقاته الكامنة لتأسيس الجمهورية الجديدة.

مثل هذا التيار الفكري السياسي الجديد يمكن ان يبدأ العمل في تأسيسه أثناء الفترة الانتقالية بشرط ان يكون التمييز بين مهام الانتقال ومهام التأسيس للجمهورية الجديدة حاضرا باستمرار رغم وجود بعض التداخلات.

لماذا لم تتم وحدة قوى الثورة ؟
هناك عمل منهجي ومنظم، ومدجج بالمال والإعلام ، والمؤامرات المصنوعة على أعين السلطة الانقلابية وفلول النظام البائد للإبقاء على “قوى التغيير” في حالة تشرذم وتشاكس، وتعميق انقساماتها، عبر تضخيم الخلافات وتسميم الأجواء السياسية بخطابات التخوين والمزايدات ، ونصب موازين “الطهرانية الثورية” ليس من أجل خدمة أهداف الثورة وإنما من أجل عرقلة العمل المشترك بإقصاء قوى سياسية وطردها من ساحة المعركة ضد الانقلاب فيما تقتضي مصلحة الحراك الثوري توسيع القاعدة السياسية للمقاومة، والهدف من هذا المخطط الشرير هو تعبيد الطريق لعودة “الإسلامويين” بانقلاب عسكري!

إذا تصاعد الفعل الثوري على الأرض وتطورت الأمور الى النقطة الحرجة التي يتعذر فيها عمليا استمرار السلطة الانقلابية، واستمر الفراغ السياسي والقيادي الماثل، سوف يتقدم مشروع الهجمة الانقلابية المرتدة للكيزان، فهم يملكون تنظيما داخل الجيش، ونفوذا امنيا ومخابراتيا وماليا واعلاميا ، وقد أعادهم البرهان بقوة الى جهاز الدولة لأسباب تخصه هو في صراعه مع حميدتي ، ولكن الكيزان لن يرضي غرورهم ممارسة السلطة تحت قيادة البرهان فهم يريدون تدشين حقبة جديدة من الإنقاذ بقيادة انقلابيين إسلامويين!

إن أي ثورة تفتقد الذراع السياسي القوي والقادر والذي يحظى بمشروعية جماهيرية، وتفتقر للبديل السياسي وآليات فرضه، سوف تمهد الطريق للثورة المضادة مهما بلغت التضحيات وحسنت النوايا ووصل الحماس عنان السماء، فالتضحيات العظيمة وحدها ليست كافية! مثلا ثورة 25 يناير في مصر قدمت 840 شهيدا وقرابة السبعة الاف جريح فضلا عن المفقودين وفي النهاية عادت الدكتاتورية العسكرية الى مصر بشكل جعل الدمقراطيين المصريين يبكون بكاء حارا على نعيم الحرية في عهد حسني مبارك!

أما في سوريا فعدد الشهداء بمئات الآلاف، وثلث السكان تقريبا تشرد بين لاجئ ونازح وبشار الاسد ما زال في السلطة!

الترياق المضاد للانقلابات
إن أوجب الواجبات الوطنية في السودان الآن هي بناء الكتلة التاريخية القادرة على تحقيق اختراق نوعي يتوج باستعادة المسار الانتقالي المدني الديمقراطي، ومثل هذه الكتلة لا بد ان تتفادى الاخطاء المنهجية للتحالفات السابقة، وان تبذل قصاراها للاقتراب من تعريف الجابري لمفهوم الكتلة التاريخية ( اصطفاف تاريخي ينبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك، في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب” )

وفي سبيل ذلك هناك إصلاحات ومراجعات نقدية جدية يجب ان تجريها كل القوى السياسية والمدنية الحية في صفوفها، فالمشاركة في الكتلة التاريخية تقتضي دفع استحقاقات معينة لكسب ثقة واحترام الشعب(وقد فصلت ذلك في مقالات سابقة عن أداء قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية وحزب الامة ورئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك)، تحتاج الساحة لخطاب سياسي مسؤول، غير تبريري، وشفاف في الاعتراف بالاخطاء الرئيسية والتعهد امام الشعب بعدم تكرارها.

موضوعيا، ليست هناك معجزة في ان يتوحد السودانيون ضد الانقلاب ويتكاتفون ويتماسكون باقصى ما يمكن من قوة لدحر انقلاب البرهان حميدتي ومن ورائه انقلاب الاسلامويين، لأن هذه مصلحة السواد الأعظم، أما الخطاب الغوغائي الذي يضخم الخلافات ويبالغ في تقسيم القوى السياسية على أساس مفاصلات حدية بين قوى تمثل الطهر والنقاء الثوري المطلق، واخرى تمثل النجاسة والدنس السياسي المطلق، وبينهما كراهية مطلقة وإقصاء متبادل! فهذا خطاب أخرق، يتغذى من مؤامرات الانقلابيين ومن سوء الفهم لطبيعة ومهام الفترات الانتقالية، كما يتغذى من العقليات الشمولية المغلقة وسط التيارات المدنية.

هناك تقارب على المستوى النظري في تصورات “قوى التغيير” لما هو مطلوب بعد إسقاط الانقلاب، وفي هذا السياق يقول الدكتور بكري الجاك في مقالة بعنوان “الاشياء لا تفعل نفسها: الغالبية تقول نفس الاشياء و تعتقد انها علي خلاف” منشورة على صفحته بموقع فيسبوك: ” كل المواثيق التي صدرت من قوي ثورية و لجان مقاومة و كل المبادرات التي صدرت من قوي داعمة للانتقال الديمقراطي تتفق في مطالب السودانيين حول قيام دولة مدنية ديمقراطية على أساس المواطنة المتساوية و العدالة الاجتماعية و العدالة النوعية، دولة بها جيش واحد تحكمه الاحترافية و عقيدته هي صيانة الدستور و حماية الحدود و الدفاع عن دولة المواطنة. و جل هذه المواثيق و المبادرات تتحدث عن بناء دولة المؤسسات التي تفصل بين السلطات (التشريعية و التنفيذية و القضائية) و تضمن استقلالية القضاء كوسيلة لسيادة حكم القانون ليتساوي الناس في ظله حكام و محكومين. و كل هذه المواثيق و المبادرات تتحدث عن عدالة انتقالية تضمن احقاق الحق وانهاء المظالم بما في ذلك القصاص للشهداء و الجرحي و المعتقلين. نقاط الخلاف الجوهرية فيها تتمثل في: 1) ما اذا كان يجب أن يكون هنالك دور للجيش في المرحلة الانتقالية 2) طبيعة الترتيبات الدستورية للمرحلة الانتقالية و ما اذا هنالك ضرورة لوجود مجلس للسيادة ام لا 3) النسب في تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي 4) ايهما اولا تشكيل مجلس تشريعي يقوم باختيار رئيس الوزراء الذي بدوره يشكل الحكومة أم اختيار رئيس للوزراء و تشكيل حكومة قبل الشروع في تشكيل المجلس التشريعي. الشاهد أن كل المواثيق و المبادرات قدمت سؤال السلطة و المرحلة الانتقالية علي قضايا التأسيس مثل الدستور الدائم و بناء المؤسسات و افترضت أن هذا سيأتي لاحقا، كما جميعها اغفلت الحديث عن ادوات المقاومة وافترضت أن هذا الانقلاب سيسقط بشكل ما لذا انخرطت في الحديث عن ترتيبات الحكم الانتقالي” انتهى كلام الدكتور بكري، واتفق معه تماما في مقالته، التي انتقد فيها غياب الآليات والوسائل لتحقيق الأهداف المتشابهة المضمنة في المواثيق، كما اتفق معه في عدم وجود خلافات جوهرية بين اطروحات الفاعلين في قوى الثورة بمن فيهم دعاة التغيير الجذري تبرر حالة العداء و الغوغائية التي تعج بها الوسائط.

إن حالة التشاكس الذي يصل حد التراشق بأحكام الإعدام السياسي التي تتبادلها قوى الثورة انطلاقا من اختلافات ايدولوجية حول نوع التغيير المنشود في الدولة السودانية بعد سقوط الانقلاب أشبه ما تكون بمشاجرات حول كيفية تصميم مبنى وعدد طوابقه والوان طلاء جدرانه في حين ان الأرض المفترض تشييد المبنى فوقها مغصوبة ومحاطة بالأسلاك الشائكة والدبابات والعربات المصفحة!

ان أي بناء لسودان جديد يتطلب اولا تحرير المصير الوطني من الانقلابيين، وإخراج الدبابات والمدرعات والمدافع من ساحة التنافس السياسي.

نشر بصحيفة التغيير الإلكترونية

التعليقات مغلقة.