سوق مبادرات لم الشمل السوداني: مبادرات هي النزاع بصورة أخرى

سوق مبادرات لم الشمل السوداني: مبادرات هي النزاع بصورة أخرى
  • 18 أغسطس 2022
  • لا توجد تعليقات

الحرب هي السياسة بطريقة أخرى. والمبادرات التي تأخذ بخناق بعضها لحلحلة الأزمة في السودان هي النزاع بطريقة أخرى. فالتنادي لها باسم استنقاذ الوطن مجردين من كل غرض، أو التعامي عنها، ما هما إلا سعي أطراف النزاع منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 على الحكومة الانتقالية لتعزيز مواقعها وترجيح كفة ميزان القوة لصالحها.
تكاثرت هذه المبادرات منذ الانقلاب حتى بلغت ثماني حسب إحصاء أحمد أبو شوك الأكاديمي بجامعة قطر. واستدعى تكاثرها أن تقوم مبادرة من مديري الجامعات السودانية لجمعها وتحليلها للخروج منها بقواسم مشتركة مقبولة لأصحابها. بل قال الخليفة الطيب الجِد، صاحب المبادرة التي تشغل البال السياسي الآن، إن مبادرته للم الشمل ستستوعب 50 مبادرة أخرى في اجتماع سينعقد للغرض.
المبادرة التي شغلت الناس طوال الأسبوع الماضي كانت مبادرة الخليفة الطيب أحمد الجد العباس (1930- ) الخليفة السابع للشيخ العبيد ود بدر لمقام الشيخ العبيد ود بدر القادري طريقة بجنوب شرقي الخرطوم. وعاش الشيخ المؤسس في عهد الحكم التركي في السودان (1821-1885). ولم يتحمس لدعوة المهدية التي صدع بها محمد أحمد المهدي في 1881 ولم يمتنع عليها أيضاً. واشتهر عنه قوله: “كان مهدي جيد لينا وكان ما مهدي شن لينا”. وشارك أبناؤه في حصار الخرطوم في 1985 حتى سقطت في يد المهدي. واستدعاه المهدي للبيعة في الخرطوم على ما هو معروف عنه من العزوف عن القدوم على الحكام. فتثاقل. واشتهرت عنه كلمته “يا بركة القيوم ما أصل الخرطوم”. ومات في ليلة موعده للقاء المهدي.
فتح صدور المبادرة من صوفي كالخليفة الطيب الباب لنقاش حول الصوفية ومشروعية خوضهم في السياسة العامة. فتجد من استبشر بقدوم الصوفية لميدانها بما جُبل عليه أهلها من الحكمة والزهادة عن الغرض. فبدت المبادرة لهؤلاء المستبشرين وكأنها استجابة لدعائهم أن يخرج السودان من منزلقه الحالي نحو الهاوية. واعترض آخرون على قدوم الصوفي ساحة السياسة التي لم يُخلق لها، وأن يعكف على أوراده. ومما يستغرب له أن يستبشر قوم في السودان لدخول الصوفي في السياسة، أو يستنكروا منه هذا. فالسياسة والصوفية سيان في تاريخ السودان المعروف منذ قيام أول دولة إسلامية مركزية فيه في 1504. بل يكفي أن الحزبين الغالبين في السودان منذ عرفنا الأحزاب هما لجماعتين كانت الصوفية الأصل في نشأتهما. فلا حكمة ستستجد بمبادرتهم المطروحة اليوم لم يقع لنا مثلها في الماضي. وليست مبادرتهم الراهنة حدثاً في السياسة يُحظرون دونه. فهي ما تعودناه من الصوفية. وما تعودته منا صَلُح الأمر أم طَلُح.
ولا يحتاج الناظر في تلازم الصوفية والسياسة في السودان من تقويم لسياسات الطيب الجد نفسه منذ قيام الثورة. فلم يعتزلها وكانت له مواقف منها وآراء اتفقت له. فكان اجتمع مع المجلس العسكري في صحبة طائفة من الأئمة والدعاة في 21 إبريل 2019 في أعقاب انقلاب العسكريين على الرئيس المخلوع حسن احمد البشير. وعبر الطيب عن فرحتهم بهلاك نظام غَلّب الأجواد والناصح. ونوه بالتغيير الذي حدث بفضل “هؤلاء الشباب”. واستدرك قائلاً “الشباب العسكري الذي أزال الحكم وجلس في هذا المكان”. وليس يخفي على السامع أن الخليفة لم يرد أن تنصرف كلمة شباب إلى جيل ثورة 19 ديسمبر منه الذي عادة ما ينسب الناس له الفضل في التغيير في تلك الأيام خاصة.
ولم تكن مبادرة الخليفة الطيب هذه هي الأولى لرأب الصدع الوطني منذ الثورة. فقاد في مايو 2021 المبادرة الشعبية لحراسة الثورة جمعت وجوهاً من المتصوفة والإدارة الأهلية. ووجهوا الدعوة للفريق حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة لحضور فطور رمضاني معهم. ولم يسعد حميدتي بهجوم الخليفة الطيب على العلمانية في سعيه لحراسة الثورة بالدين. ورأى فيها سياسة خليقة بسياسيين كان أجدر بجمع للكبار من الصوفية وزعماء العشائر النأي عنها طالما دعوا للم الشمل لا لتشتيته. ونصحهم حميدتي بانتظار المؤتمر الدستوري المرتقب للنقاش عن هوية الدولة. ومما يستحق الذكر أن حميدتي لم يتحمس لمبادرة الخليفة الطيب الجد الأخيرة واشترط لقبولها أن يعرف من هم الذين من ورائها.
ولم يتأخر الخليفة الطيب عن دعوة الداعي لمناهضة الحكومة الانتقالية. وكان على مرات ضيفاً على قناة طيبة المحاربة للحكومة الانتقالية. فعبر في كلمة له عليها في 30 يونيو 2021 عن تضامنه مع الزحف الأخضر لعداة الحكومة. ودعا فيها لسقوطها لأنها أعلنت عداءها لله والرسول الكتاب والإتيان بحكومة صالحة بديلاً عنها. وتحدث في أول إبريل 2021 للقناة في مناسبة تطبيع الفريق أركان حرب عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة مع إسرائيل. فقال إنه وكثير من الصوفية ضد التطبيع مع إسرائيل. ولا يصح في مثل ذلك الشأن أن يقتصر القرار فيه على مجلس السيادة لأنه شأن جلل يستفتى فيه الشعب عن طريق ممثليه. وزاد بأنهم يرفضون فصل الدين عن الدولة.
وهكذا، ومصداقاً لقولي إن المبادرة هي النزاع بصورة أخرى، فمبادرة الخليفة الطيب تنازع لمواقف سياسة استنها منذ قيام ثورة ديسمبر، إن لم تسبقها. ونازع عند تلك المواقف التي فيها استنقاذ البلاد والعباد عند كل منعطف منذها.
وبلغ من شدة تمسكه بهذه المواقف أنه لم يهن عليه ليرمي لجماعات كثيرة من السودانيين، ممن دعاهم لخيمته، بما يغري بمبادرته. فلن تجد حتى جماعات قوى الحرية والتغيير المتطاحنة (المركزي والشيوعي والتوافق) ما يغري في مبادرة لا تستثني من العزل السياسي حزب المؤتمر الوطني الحاكم على عهد الرئيس المخلوع البشير ناهيك من خلوها من الإشارة إلى فريضة التحقيق في العنف الذي طال شباب الثورة منذ اندلاعها، والكشف عمن وراء واقعة فض الاعتصام في يونيو 2019 بالذات. كما ستجد الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تحتل أرضاً “محررة” في جبال النوبة من الوطن منذ أكثر من عقد، تركيز المبادرة على “المحافظة على الهوية الإسلامية صاحبة الفضيلة” صدى من الدولة الدينية التي نازلتها منذ الثمانينات داعية للعلمانية. بل أشك أن تلقى المبادرة قبول حركات دارفور المسلحة التي وقعت على اتفاق سلام جوبا (أغسطس 2020). فهي لم تطالب بفصل الدين عن الدولة فحسب، بل تحقق لها ذلك أيضاً في الاتفاق بصورة مسرفة.
سيجتمع أهل مبادرة الخليفة الطيب الجد لمائدة مستديرة في يومي 13 و14 أغسطس الجاري ليعدوا لقيام حكومة انتقالية لعام ونصف قادمة قبل قيام الانتخابات العامة. وستنعقد المائدة المستديرة بمن حضر أو “الزول الأبا نعمل ليهو شنو؟” كما قال الخليفة الطيب في الرد على من سأله عما سيحصل لو تخلف طوائف ممن دعاهم لمائدته المستديرة. ومتى اعتزلت مائدة المبادرة كتل سودانية هي طرف رئيس في النزاع وأصيل صارت المائدة حشداَ للطرف الآخر. وهذا مما يجعل هذه المبادرة النزاع نفسه بصورة أخرى.

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.