الصيف والفردوس (2)

الصيف والفردوس (2)
  • 21 أغسطس 2022
  • لا توجد تعليقات

تاج السر الملك

تبادلنا تحايا الوداع، فانطلقت العربة صوب الصمت و الأسرار التي تختبئ وراء أبواب القاعدة الضخمة.
مرت بضعة أسابيع سيدي، قبل أن التقي والآنسة (ماري) مرة أخرى، دخلت المحل هذه المرة في عجلتها المعهودة، حيت الجميع كعادتها، وتوقفت قليلاً لدي السيدة (كروس) في قسم الطعام الجاهز، لمحتها صدفة، او عمداً اذا تحرينا الصدق، وقد توهج وجهها بالفرح وهي تتذوق عينة من طعام قدمته لها السيدة (كروس)، تجولت في المحل على غير هدى، وجاءت تقصدني كأنما استدركت سبب زيارتها، صاحت وهي تبتسم منادية (مرحبا صديقي مواطننا الأمريكي الجديد)، ثم وبأدب ورقة توقفت أمامي، استندت على ذراعها الأيسر فاتخذ شكل جسدها علامة استفهام مثيرة، تنهدت وهي تجلد راحة يدها اليسرى بقبعتها التي حملتها في كفها الأيمن، حدجتني بنظرات صديقة ماكرة، لمحت فيها ما يشبه العتاب، عتاب حميم تأكد لي حين بادرتني قائلة (من هو الشاب الوسيم الذي توقعت منه اتصالاً هاتفيا؟)، واتبعت ذلك بضحكة عذبة قصيرة، اعتذرت لها وأنا أخفض راسي خجلاً وغروراً، بأنني لم أجد وقتاً كافيا للاتصال بأصدقائي، قالت بأنها غير غاضبة وأنها تقصد مزاحي، واضافت بأنها توقعت على الأقل أن أتصل بها لمجرد معرفة التفاصيل المهمة عن السيارة والسعر الذي تطلبه، وحفزتني بقولها أن نصيبي من البيعة محفوظ، راقت لى الفكرة سيدي القاضي، فأنا كما تعلم من أوراقي الثبوتية الرسمية التي ترقد أمامك، مهاجر حديث عهد بهذه البلاد، وأنني لن ادع سانحة ربح تمر دون أن استغلها (سوف يضحك المحلفون) لهذه الطرفة، يعودون بعدها إلى حالة العبوس التي تشي بالحرفية ومظهر العدالة، اتفقت والآنسة (سميث) على اللقاء في عطلة نهاية الأسبوع، ولكي تتأكد الآنسة (سميث) من عدم نسياني هذه المرة، فقد طلبت رقم هاتفي، فأعطيتها ما طلبت حباً وكرامة، وبحكمة بائع محترف ودعتها وتمنيت لها يوماً سعيداً، وشكرتها بالنيابة عن محلات (اولسونز) ، وتبعتها بعيني كعادتي، حتى اختفت راء زجاج سيارتها المظلل.
اتصلت بها في صباح الأحد الذي تلا لقاؤنا الأخير، فأعلمتني بأنها ستتصل بى فور عودتها من قداس الأحد في الكنيسة، وهذا ما حدث بالضبط، فقد اتصلت بي بعد منتصف النهار، تداولنا عدداً من الأماكن التي نعرفها معاً للقاء، سبقتني بخمس دقائق حيث التقينا أمام متجر شهير لبيع الأحذية، وهنالك على الرصيف وقفت ماري تنتظرني، أود أن أشير هنا سادتي، إلى أنني التقيت في ذلك اليوم المقدس، شخصاً آخراً غير المرأة التي أعتدت رؤيتها في المحل،رأيت (ماري) في ملابسها المدنية لأول مرة، فصعقت، رأيتها ترتدي فستاناً قصيراً، لونه أقرب ما يكون إلى الخوخ، وعلى جيدها يتدلى عقد أفريقي رقيق، وحلق ينتهي بأقنعة أفريقية، يتدلى من أذنيها في رقة ودقة وانضباط العقد، ولون جلدها الأسمر تدفق وترقرق من مناح عديدة كان يحجبه فيها لباسها العسكري، وابتسامتها المرحبة سادتي، ازدهت تحت منتصف نهار شمس الصيف، وتحدرت عذوبة على قلبي، صاحت مهللة باسمي وكأنني صديق قديم حميم، أسرعت نحوها ماداً يدي بالتحية، فأهملتها وعانقتني رغماً عن إرادتي، فاستكنت إلى قبضتها بحرفية بائع، صافح انفي عطرها الأثيري وأنا اقتلع نفسي من حلم وواقع تمازجا حتي بهتت الخطوط الفاصلة، ولكنني من بلاد تصافح النساء فيها الرجال وهن قابضات على أثوابهن، فكان لا مناص من انتفاخ كيس الحلوى.
دعتني إلى قيادة سيارتها، فأجبت أمرها بأريحية بالغة وفرح، جلست إلى جانبي وأحكمت ربط حزام السلامة مارا فوق نهديها ملامساً أردافها، فكفرت بالمطاط والبلاستيك ولم أعلن توبتي، أرخت المرآة التي تختبئ خلف مظلة السيارة التي تعلو الزجاج الأمامي أو هي مصدة الريح، حيث فحصت مكياجها ، وعدلت بدقة خطوط حواجبها، لا اثر للحناء على يديها ولا رائحة الصندل، الا أن ذلك لم ينقص من كونها امرأة بكل المقاييس، كنت ملهياً بالنظر إلى ساقيها دون أن اشعر بالحرج، فلا حرج عند البائع المحترف، التفتت ناحيتي فجأةً، وتظاهرت بأنها لم تشهد جيوش الرغائب التي بدأت في الانسحاب الفوري إلى داخل إنسان عيني، هتفت فجأة في فرح طفولي شقي- حسناً، انطلق بنا قبل أن نصطدم بالهواء، فأدرت المحرك دون أن أعلم الوجهة التي سنمضي إليها .
اتخذت طريقا جانبياً حتى أمنحها وقتاً للمبادرة بالاقتراح، لم يطل انتظاري حتى هتفت (ألست جائعاً ؟؟)، تذكرت على الفور أقاصيص صديقي (مأمون) عن النساء الأمريكيات، و هنا صاحت امرأة من هيئة المحلفين (و ماذا عن الأمريكيات ؟؟)، قلت – ولعهن بالطعام (سينفجر القاضي و الجمهور بالضحك حتي يبدأ القاضي في طرق الطاولة بمطرقته الخشبية.. نظام..نظام).
سألتني أن كنت أفضل مطعماً بعينه، ولما كنت مثلي مثل غيري من المهاجرين أطبخ غذائي بنفسي في منزلي من باب فضيلة الاقتصاد، فقد كنت صريحاً معها في الاعتراف بجهلي، وحين ذكرت محاولاتي في الطبخ، تهلل محياها، وصرحت بأنها تحب نوعين من الرجال، الرجل الماهر في الطبخ، و الرجل الذي لا يتحرج من أطلاق دموعه، فكليهما حنون و عطوف، و صفات أخري لها علاقة بالجنس لا اذكرها سيدي القاضي (سوف تصيح امرأة من المحلفين: رجل يغري بفعل الحب لعلها قصدت)، ثم ساد صمت حتى قطعته بمواصلة سردي وكأنني لا أفهم ما عنت، فلغتي الانجليزية كما تعلمون ليست بالجيدة.
وصلنا إلى مكان سكني، كنت مرتبكاً خجلاً من أن تقع عيناها على حال مسكني وأشيائي المبعثرة، والفوضى الضاربة أطنابه، أعقاب السجائر وأكياس (التمباك) الفارغة، وملابسي الداخلية المتسخة، حاولت الإسراع في الدخول قبلها منعاً للكارثة، قلت اسبقها في الدخول حتى أحفظ على الأقل سمعة بلادنا العظيمة، و أنقذ ما يمكن إنقاذه، و لكنها أدركتني بخطواتها العسكرية المدربة يحملها شغفها الى الطعام وفضول أنثوي معروف، رسمت ابتسامة على وجهي تشبه ابتسامة طفل تبول على ملابسه قبل أن ينقضي من اليوم الدراسي سوى بعضه، تمتمت بالاعتذار، فطمأنتني بأنها تعيش مثل هذه الفوضى في شقتها، وكنت أعلم أنها تجامل أو تكذب، لمحتني بطرف عينها و أنا ألتقط أكياس (التمباك)، فأجبت على فضولها بأن هذا نوع من الشوكلاتة البرية تنمو في بلادنا فقط، لم تطالبني بمزيد من الأيضاح، فحمدت الله إن باب فضولها الأمريكي كان مغلقاً تلك اللحظة.
سألتني ماذا ستطبخ لي؟؟
65 Comments

التعليقات مغلقة.