ذكريات مع عبد اللطيف زاكية

ذكريات مع عبد اللطيف زاكية
  • 03 أكتوبر 2022
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

أستاذ الأساتيذ عبد اللطيف عبد الرحمن التربوي الشاعر المؤلف الوزير المرجعي كتبت عن حياته والمواقع التي تسيدها كثيرا.
لكني رأيت إلقاء الضوء هذه المرة على بعض السوانح الألماسية التي جمعتني به فكنت فيها أنصت لما يقول بعناية فقد كان ذا حديث عذب شائق ينطوي على فرائد عظيمة قلما تجدها عند غيره.
كان مهتما بي منذ يفاعتي بحكم وصية أمي وهو بمنزلة الخال فلما كنت تلميذا بالوسطى كان يأتي لمدير المدرسة سائلا عن مساري الذي لم يكن مرضيا نسبة لإصابتي بالتايفود الذي أعاقني عن الانتظام طويلا.
ولما قبلت في الأحفاد الثانوية خارجيا بأمدرمان’ التي لم تكن عيناي قد كحلتا برؤيتها بعد حار والدي في أمري فقابله طالبا تحويلي لمعهد التربية فوافق قائلا إنه لما انصاع لو كنت داخليا راجيا ألا أتوقف عن الدراسة وهذا ما كان فقد درست لاحقا في الداخل والخارج وفي أكثر من جامعة إشباعا لطموحي الوقاد ومازلت أتتلمذ.
فور تعييني معلما أوصاني:
أتوقع أن تصبح ضابطا في الداخليات ومديرا لمدارس وقياديا في الإدارات فإياك أن تمس قرشا واحدا من المال العام فإنني أعرف بعض من اغتنوا منه وطال بنيانهم في أرقى الأحياء غير أني لا أعرف أحدا هنأ فيه وبه!
دخلت عليه مرة في مكتبه بوزارة الخدمات بالدامر في مشكل إداري وفي معيته أركان الوزارة الذين يعرفونني فاخشوشن في حديثه معي ولكني أبرزت بالمستندات سلامة موقفي فطلب مني الانتظار مع مدير مكتبه وبي دهشة وبعد انصراف القياديين طلبني فدخلت عليه فتبادل معي حديثا ناعما غدقا فأدركت أنه بعقليته الفذة كان يبث رسالة لمن معه أنه لا يجامل أهله في الحق والرسميات.
كان عبد اللطيف موفقا في إنشاء الوزارة الضخمة وإدارتها بحنكته وكاريزميته القوية وشهرته الساطعة ومعرفته الوثيقة بالدامر وأهلها التي خدم فيها طويلا بل قاد بها جبهة الهيئات في ثورة أكتوبر بالإجماع.
جمعني القطار مع شقيق وزير يزامله وهو من أبناء نهر النيل فأوسع في مدح عبد اللطيف وذكر أنه حين زار منطقتهم عرفه الحاضرون بأنه أخ الوزير فلان ولكنه أدرك بأنه الأكبر سنا فصحح بتلقائية فورية:
بل الوزير أخوه!
وكان بالفعل يحترم كبار السن كثيرا فعندما زرناه في بيته الحكومي الجميل في عطبرة جدي الحاج عباس وأنا احتفى به وهو يخدمه واقفا حافيا.
وحين انصرفنا لارتباط وهو يرجونا المبيت قال لي:.
بكرة برنامجي مليان وما حأرجع البيت إلا بالليل
جيب جدك وتغديا هنا.
خلال زيارته البلد بعيد تسلمه الموقع الوزاري حرص على المرور على كبار السن وحين أقبل على حبوبتي صبرة وكانت داية حبل وحكيمة شعبية محبوبة دعت له بسخاء منه:
اللهم نسأل أن يجعلك شجر مقيل لكل من يلوذ بك
وعندما كنا خارجين منها قال:.
والدتنا صبرة جيناها ملتمسين فضلا وها هي تتفوق علينا!
لما قطعت إعارتي لليمن طوعا رغم اتجاه الزملاء لترشيحي رئيسا لأول بعثة سودانية زرته في بيته في بري وقد كان متحفظا في ذهابي لليمن مفضلا تريثي للعام التالي لأسافر للسعودية غير أن اندفاعي كان غلابا وحكيت له عن اليمن ومعاناة الزملاء وأهديته سبحة ذات حبات بيضاء ناصعة جذابة في علبة فاخرة قلبها بين يديه في إعجاب وهو يحسسني بتكنيك الإيحاء التربوي بأنني بذلت له شيئا عجبا!
قال لي مرة إنه بصدد التنازل عن قطعة أرض يمتلكها شرق سوق دلقو لإنشاء مزرعة دواجن عامة مقترحة لكن اتضح أن الفنيين اختاروا موقعا ٱخر.
قفزت هذه الأريحية الخيرة على ذهني حين ذكر لي الصديق الأستاذ حسن بتيك رئيس مجلس إدارة وادي حلفا أنهم منحوا قطعا سكنية فسيحة في قلب المدينة لمن قادوا التعليم الاتحادي من أبناء المنطقة بكفاءة .. عبد اللطيف عبد الرحمن ودهب عبد الجابر وأحسب أن ثالثهما الأستاذ الفرقد توفيق أحمد سليمان.
حين تقاعد من الاستوزار اختار البقاء في البلد’ إذ قال لي:
لن أجد هناءة البال التي أنشدها في مكان غير البلد وسط الأهل.
وخلاله اضطلع برئاسة مجلس إدارة مستشفى دلقو وكان واجهة المنطقة البهية في المناسبات وفي استقبال كبار المسؤولين فمن ذا الذي لا يعرف شاعر:

نحن روحان حللنا بدنا
منقو قل لا عاش من يفصلنا

سألته يومذاك:
ما الذي لفت نظرك في البلد بعد غيبة؟
قال
زمان كانت الفرحة غامرة فكنا وصبايا الحلة نلعب في الليالي المقمرة معا في صفاء وحتى الكبار كانوا يتجمعون في أنس بل كانوا أحيانا يرقصون على نغمات الطمبور دون مناسبة بينما اليوم يتلاحق الحزن والحداد.
كنت وقته مبعوثا من لدن وزارة التربية لدراسة تنمية المجتمع في جامعة الخرطوم وأحرص على إرسال الصحف والمجلات له تباعا.
وحين سافرت للبلد في الإجازة جالسته فسألني:
عامل ايه مع الإحصاء؟
وكنت قد شكوت له في رسائلي معاناتي حياله فالإحصاء ابن عم الرياضيات التي لم أتهيب مادة سواها طوال طالبيتي ربما لطغيان المساق الأدبي في توجهي فاللوغريثمات لا تنقر قلبي كالنزاريات فضحك عاليا.
جئته في إجازة تالية فقال:
الأولاد بحكم دراستهم وعملهم بالخرطوم وأنا وٱمنة بجاي .. وهي شريكته شقيقة عثمان شيبة قائد حرس القصر المعروف’ ابنة خالة د. محيي الدين صابر وهي نبع حنان ثر حفظها البارئ.
تابع:
لذا لا بديل عن التوجه للخرطوم مجبرين وقد كان!
ومن مناقبه أنه اعتنى بعائلته المديدة فقد بذل جهدا في تيسير التعليم للنشء منهم والعمل للراغبين الراشدين .. شقيقه الأستاذ زكي عبد الرحمن النائب العام الأسبق أستاذ القانون بجامعة الخرطوم مثالا الذي تعهده بوفاة والدهما’ كما قدم لمجتمعنا باقة متميزة من أبنائه وبناته .. د. عبد الرحمن أستاذ اللغة العربية في الجامعات السعودية أنموذجا.
في الخرطوم أنشأ مع زملاء متقاعدين يواقيت من ذوي الخبرة والموهبة دار نشر تعنى بمطبوعات الشباب اليافعين منها مجلة الفارس التي نشرت لي عددا من المواضيع واستقطبه صديقه البروف عبد الله الطيب عضوا في مجمع اللغة العربية وفي موقع سكنه بالصحافة سموا باسمه مدرستهم الأساس عرفانا بجلائل خدماته لهم وللسودان.
حين عزمت السفر للسعودية بإقامة زرت أستاذنا الشاهق بمنزله بالخرطوم فطرحت له نيتي مقرونة بضرورة الوفاء بمتطلبات تعليم الأولاد فقال:
البلد محتاج ليك
لكن للضرورة أحكام
فلما حضنته بود مودعا في لحظة مفعمة بالمشاعر المتزاحمة بات يدعو لي بالتوفيق بصوت متهدج عال حتى وجدت نفسي متثاقل الخطى خارج الدار والشمس تغوص وراء الأفق البعيد.
وكان اللقاء الأخير!

أنور محمدين
سياتل
صفحة أشواط العمر في فيس
جريدة التحرير الإلكترونية

التعليقات مغلقة.