سرديات

سرديات
  • 10 يونيو 2023
  • لا توجد تعليقات

الزاكي عبد الحميد أحمد

لا تحزنوا عليَّ يا أصدقاء،
فقد انهويتُ إلى الضفة الأخرى من الوجود،
كنيزك تهاوى من علٍ:

Don’t mourn me friends,
I fall as a shooting star
Into the next life..

هذا الروائي الأمريكي جون سكاليزي John Scalizi في روايته الموسومة حرب الرجل العجوز Old Man’s War والتي رسم حبكتها في سياق ما يعرف بالخيال العلمي العسكري Military
Science Fiction..

الراوية تتحدث عن مآلات الحروب وتداعياتها حين تسفر الإنسانية عن وجهٍ يفوق الوحشية قبحاً…

المسافة التي تفصل بين بيتي وكشك صغير يطل على شارع الوادي في أم درمان ويقع على بعد خطوات جنوبي مقابر شرفي، كنت اقطعها بالسيارة في بضع دقائق ..يعمل في هذا الكشك شاب ثلاثيني اسمه علي..علي يبيع الصحف وشرائح رصيد الهاتف النقال وبعض الأدوات المدرسية البسيطة كاقلام الحبر والدفاتر..
علي عرّفني به صبي ماسح أحذية اسمه عباس يتخذ من مدخل البوابة الجنوبية لمسجد الشهيد في الخرطوم مكانا لعمله..

في التاسعة من صباح
يوم الجمعة من كل أسبوع يستقبلني بابتسامته الوضيئة..اسعد بدفء استقباله لي..شيءٌ ما يشدني إلى هذا الطفل:
عباس، ماسح الأحذية..
يتخذ مكانا للعمل على مسطبة تقابل البوابة الجنوبية لمسجد الشهيد في الخرطوم….
جلستُ إلى جانبه.
قبل أن يبدأ العمل أخذ كيسا من حقيبة سوداء من القماش بداخلها فتات خبز جاف..توجه إلى سرب من الحمام يستفيء الظل تحت شجرة وريفة..تكاثرت عليه اسراب الحمام من أركان المسجد..عاد إلى عمله بعد أن أطعم الحمام..تبعته أسراب الحمام دون خوف او وجل، ثم تحلّقت حوله وكأنها تؤانسه في عمله..بعضُها على كتفه جثمت، وبعضها على راسه وأخريات حول قدميه تحوم…يبتسم لها وأشعر انها تبادله هذا الاحساس الإنساني..الشجر يبتسم، فتورق اوراقه وتلتمع اخضرارا..
النيل يبتسم، فتوقظك أمواجُه من وهدة غيابك ..
الكون يبتسم، فيعمُّ الأرضَ الضياءُ..

شردتُ بذهني بعيداً وأنا
انزع عنّي عباءة جهلي، ولسان حالي يردّد مع محمود درويش:

يقول لها:
أي زهرٍ تحبين؟ فتقول:
زهر القرنفل الأسود!
يقول: إلى أين تمضين بي والقرنفل أسود؟
تقول: إلى بؤرة الضوء في داخلي..
وتقول:
أبعد،
أبعد،
أبعد
هناك حيث تسربل الإنسانية الإنسان..وتغسله بأمطار الضياء..

شكراً عباس ماسح الأحذية لقد علّمتني درساً لا تأتيني به الكتب!
علّمتني أن الكبرياء أن تقول لا شيء يحدث..وكل الأشياء تحدث بداخلك!
عجبي!
Faith is the bird that feels the light when the dawn is still dark..
Tagore

كان ذلك جزءا من مقال سابق كتبته عن عباس..

قبل بضعة أيام خطر ببالي أن أزور علي صاحب الكشك لأسأله عن صديقي عباس ماسح الأحذية..

متاريس ترابية بارتفاع سور الجدران حرص أهالي الحي على اقامتها لتأمين انفسهم وممتلكاتهم…ففي مدينتنا لا وجود لرجال الشرطة منذ اندلاع هذه الحرب العبثية..
أربعون دقيقة بالتمام والكمال استغرقتها رحلتي ذهاباً فقط إلى كشك علي.. أربعون دقيقة! فصعود المتاربس الترابية العالية والهبوط منها أصبحا ممارسة حياتية يومية لم يدر بخَلَدي أنني سأواجه تحدياً بهذا الحجم يوماً في خريف العمر..

تنفست الصعداء حين تبيّن لي أن بضع خطوات فقط، تفصلني عن كشك علي، خطوات فقط على طريق مستقيم خال من المتاريس، قلت لنفسي دقائق بل ربما ثوان ونصل الميس..فرحت على الرغم من التعب الذي أثقل خطوي وزاد من العرق الذي بلل جسدي..

بلغت مقصدي بعد تعب!
ولكن ليتني لم أتكبد كل هذي المشاق التي عنتتني !
مثل بالون قُدَّ من قاعه اعتراني احباط يجرُّ جيشاً من المرارات..فالكشك مغلق!

أمام بيتي ميدان واسع، اتخذته الباصات السفرية محطة للانطلاق منها إلى معبر أرقين..عشرات الباصات تنطلق كل صباح..ظهر مع تزايد حركة المسافرين سوق صغير حول الميدان..بائعات الشاي والقهوة..والسندوتشات والمياه الغازية بمختلف الأشكال ظهرت هنا وغابت عن أرفف البقالات..حتى الخبز المعدوم في المخابز تجده هنا بألفي جنيه للقطعة..سعر الخبز في المخبز ٧٠ جنيه! المسافرون الهاربون من جحيم الحرب، لا يجادلون الباعة في السعر، فالرحلة طويلة والزاد بما تيسر ضرورة؛ ألم تقل العرب الثيِّب عُجَالة الراكب!

وجدتُه يجر حقيبة صغيرة وهو يهم بالصعود إلى الباص..
-علي!
سلمتُ عليه فرحاً..ثم سألته عن صديقي عباس ماسح الأحذية..

-عباس مفقود منذ اندلاع الحرب..لا احد يعرف مكانه..شوهد آخر مرة في ثاني يوم من الحرب في ميدان جاكسون ..
تسمرت قدماي وانعقد على جبيني حزن يخالطه جزع…
وغاب عباس!
تُرى كان في جيبه ما كسبه من مال حلال ذلك اليوم لكي يعود به فرحا لأمه!
غاب عباس عن أم ملتاعة، متحسرة، متذمرة لا تجد ترياقا لعلتها وكشفا لحزنها إلا التضرع إلى خالقها..
أمٌّ أصابها الجزع بسبب مصير وليدها المجهول وغيابه عنها..
هو الجزع عند النوازل وأي نازلة أكثر إيلاماً من مصير أمٍّ لا تدري إن كان وليدُها حيا فتهرول رغم المتاريس والرصاص لتحتضنه بعد طول غياب، أم هو ميتٌ فترثيه كما ترثي الأمهات فلذات أكبادهن..

الحرب وارت عني إنساناً اسمه عباس، يعمل ماسح أحذية! لم تعلن الصحف عن فقدانه ولم تنشر صورتَه اجهزة الإعلام الأخرى ضمن المفقودين..
عباس ليس من ذوي الرتب الرفيعة في المجتمع ولا هو من اصحاب الأطيان والمال والجاه..
هو صبي يعيش على هامش الحياة..ماسح أحذية يكسب قوت يومه من عرق جبينه! ولكنه اليوم لم يعد لأمه، كعهده كل مساء قبل المغيب، فرِحاً بما كسبته يداه من مال قليل القدر كثير البركة..

أين عباس أيتها الحرب اللعينة..؟

تحياتي…

التعليقات مغلقة.