تقرير ميداني عن سواكن: إحياء مدينة ساحلية قديمة على البحر الأحمر

تقرير ميداني عن سواكن: إحياء مدينة ساحلية قديمة على البحر الأحمر
  • 04 يناير 2024
  • لا توجد تعليقات

د. بدر الدين حامد الهاشمي

Filed Report. Suakin: On Reviving an Ancient Red Sea Port City
Abdel Rahim Salim عبد الرحيم سالم
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لأهم ما ورد في مقال لعبد الرحيم سالم، نُشِرَ في العدد الحادي عشر من المجلد الثامن لمجلة المساكن والمستوطنات التقليدية TDSR ، الصادرة في عام 1997م، صفحات 63 – 74. وبالورقة العديد من الصور الفتوغرافية (بالأبيض والأسود) التي التقطها الكاتب بنفسه، والرسومات الهندسية والخرائط للسودان ومنطقة البحر الأحمر.
وكاتب الورقة هو عبد الرحيم سالم محمود (الذي كان – بحسب ما جاء في هذا الموقع (1) – قد هجر دراسة القانون بجامعة الخرطوم وسافر لدراسة المعمار في تشيكوسلوفاكيا وعاد في عام 1963م حيث تم تعيينه معيداً بقسم المعمار بجامعة الخرطوم. ثم ذهب مرة أخرى الى جمهورية الشيك لتحضير الدكتوراه، وعاد للسودان في عام 1969م. عمل أستاذا في الهندسة المعمارية بجامعة الخرطوم وفي جامعة العلوم والتقنية بإربد في الأردن ودول عربية أخرى.
المترجم


ملخص الورقة
كانت مدينة سواكن الجزيرة تمثل بوابة للتجارة والثقافة على ساحل البحر الأحمر في شرق أفريقيا لعدة قرون. وعقب بناء ميناء جديد ببورتسودان القريبة من سواكن، في عامي 1905-1909، تم التخلي عن سواكن إلى حد كبير. ومنذ ذلك الوقت، تناوبت محاولات إنقاذ بقاياها المعمارية الأثرية، مع فترات استسلم خلالها الناس لحقيقة أن تلك الكنوز ستترك لتتدهور. وعلى مر السنين، أدى نقص الأموال والعقبات القانونية إلى منع عمليات الحفاظ وإعادة الإعمار إلى حد كبير. وتصف هذه الورقة مقترحاً جديداً، له نهج واستراتيجية مختلفتين، يهدف إلى التغلب على تلك العقبات المتكررة. ولا يزال بالإمكان إحياء سواكن على الرغم مما حاق بها من تهديم.


1/ ذكر الكاتب أن مدينة سواكن القديمة – وهي تؤام جدة في الجانب الآخر من البحر الأحمر – كانت ذات حين مركزاً تجارياً مهما. غير أنها فقدت أهميتها عقب إنشاء ميناء السودان الرئيسي، بورتسودان، بين عامي 1905 و1909م، بسبب أن ميناء سواكن لم يعد ملائماً لاستقبال السفن الكبيرة. وكان إنشاء الميناء الجديد هو إيذان بخراب سواكن وهدم مستقبلها. وتطورت بورتسودان بعد الحرب العالمية الأولى لتغدو واحدةً من أهم مدن التجارة والأعمال في المنطقة. ومع نهاية الثلاثينيات، هُجِرَتْ جزيرة سواكن تماماً، وبقي ببرها (القيف) القليل من السكان. ووصف الكاتب موقعها بالقول إنها بُنِيَتْ على جزيرة مسطحة بيضاوية الشكل يصل ارتفاعها إلى حوالي 750م، ويبلغ طولها أقل من 500م، وتقع داخل مدخل ضيق للبحر الأحمر، وتتصل بالبر الرئيسي عن طريق معبر/ جسر. وكان سبب أهمية مينائها هو صلاتها بالمناطق الداخلية وبوادي النيل بطرق القوافل عبر بربر وكسلا. وظلت التجارة مع الأقطار الأوربية والشرق الأقصى والجزيرة العربية تُمَارَسُ لقرون عبر ميناء سواكن، الذي كانت تقدم عليه القوافل الضخمة محملة بالصمغ العربي والقطن والجلود والعاج، وتغادره وهي تحمل البهارات ومختلف المصنوعات. ثم أُقِيمَتْ في سواكن ورش للأعمال الحرفية اليدوية وبعض الصناعات كحلج القطن. وكانت مساجدها تستخدم دوراً للعبادة وللتعليم والتنوير، وكانت مدرستها التي أنشئت في عام 1892م هي الأولى من نوعها بالسودان (ولعل ذلك العام كان هو الوقت الذي انتشر فيه وباء الأنفلونزا في سواكن، بحسب ما أورده الطبيب البريطاني بلوس (2). المترجم). واكتسبت سواكن أيضاً بُعداً وقيمة عاطفية عند كثير من المسلمين في أرجاء العالم بحسبانها “بوابة” للثقافة الإسلامية. وما زالت سواكن هي النقطة التي يسافر منها سنوياً الكثير من حجاج غرب أفريقيا إلى مكة. وبالنظر إلى الأهمية التاريخية لسواكن، فليس هناك إذن من داعٍ لتبرير القيام بمشروع (أو مشاريع) لإحيائها. غير أن كل المشاريع التي أُقِيمَتْ لذلك الغرض منذ عام 1933م لإنقاذ المدينة لم تصب نجاحاً يذكر. وكان السبب في فشلها هي العوائق القانونية وقلة الأموال المرصودة لتنفيذ تلك المشاريع. ولعل ندرة الدعم المادي كان بسبب قلة المصادر المالية المتوفرة عند الحكومة السودانية، ولعدم سعي “مصلحة الآثار” لاستقطاب أي دعم داخلي أو خارجي من أجل إعادة إعمار المدينة (نُشر هذا المقال عام 1997م، وبدأ في عام 2002م مشروع بريطاني – سوداني عن سواكن، وعرضت لاحقاً عدد من الدول الإسلامية، مثل قطر والشارقة وتركيا، المساعدة في إنقاذ سواكن. المترجم). ولم تُسَجَّلْ مدينة سواكن في قائمة التراث العالمي، مما حرمها من الاستفادة من أي معونات عالمية (يمكن النظر في قائمة مواقع التراث العالمي في السودان في هذا المرجع رقم 3. المترجم). في هذه الأثناء، وفيما يتعلق بالصعوبات القانونية، ظهرت مسألتان بشكل متكرر: القيود المفروضة على إنفاق أموال الحكومة على الملكية الخاصة، وعدم قدرة الحكومة على التوصل إلى تسوية بشأن ملكية الأرض مع من تبقى من سكان سواكن. ونسبة للإخفاق المتكرر في الحفاظ على المدينة، قد يعد الكثير من الناس اليوم أن سواكن قد ضاعت (أو أُضِيعَتْ. المترجم) تماماً. غير أن المسح الدقيق أظهر أنه لا تزال هناك مبانٍ مهمة في جزيرة سواكن، والعديد من المباني الأخرى في “القيف”، والتي يمكن استعادتها أو الحفاظ عليها بنجاح. وقد أُدْرِجَتْ نتائج تلك الدراسات في تقرير صدر عام 1993م لبعثة اليونسكو التي قادها م. باري لاين Barry Lane (3)، وكان كاتب هذه السطور أحد المشاركين في ذلك التقرير. إن تجديد الجهود للحفاظ على المدينة سيأتي في الوقت المناسب بشكل خاص، حيث أن افتتاح ميناء جديد في سواكن في عام 1991م قد زاد من تعريض المدينة القديمة للخطر. ويتسارع المستوطنون والمضاربون على الأراضي للاستيلاء على كل قطعة أرض في المنطقة، بما في ذلك موقع المدينة القديمة؛ وإن لم يتم التحرك بسرعة لإنقاذ ما تبقى من سواكن القديمة، فإن سواكن التاريخية ستختفي إلى الأبد.
ولحسن الحظ، لفت مخطط جديد بعنوان “مقترح لإحياء مدينة سواكن القديمة” انتباه السلطات السودانية إلى حقيقة أنه ينبغي التخطيط لمستوطنات جديدة خارج حدود المدينة القديمة. كما سعى الاقتراح الجديد للفت الانتباه إلى ضرورة إجراء إصلاحات عاجلة على المباني المتدهورة وحماية ما تبقى بالمدينة من آثار.

وكما توضح هذه الورقة، فقد حاول المشروع الجديد التعلم من فشل الجهود السابقة. على وجه الخصوص، كانت فلسفة المشروع هو السعي إلى إحياء المدينة، وليس مجرد الحفاظ على مبانيها التاريخية. وواجهت المخططات السابقة مقاومةً محلية لأنها حاولت التعامل مع الآثار التاريخية فحسب، وليس مع مدينة حية؛ وكان هذا مما خلق جواً من انعدام الثقة بين السكان المحليين ومصلحة الآثار.
وفي المقابل، فإن المخطط الحالي لا يهدف فقط إلى الحفاظ على الآثار، بل إلى تشييد مبانٍ جديدة ضمن نهج تراث وتقاليد سواكن. كما أن المخطط يقر بحقوق الملاك، ويوفر لهم مستشارين للعمل معهم من أجل الحفاظ على الطابع التاريخي للمدينة. وحتى الآن يبدى أولئك الملاك اهتماماً كبيراً بالمشروع، وهم على استعداد للمشاركة في اللجان المختلفة التي تم تشكيلها لبدء المشروع (جلب الكاتب هنا صورة لاجتماع شارك فيه أهالي سواكن. المترجم).

واختط المشروع المقترح نهجاً جديدا في مسألة استقطاب الدعم المالي، وذلك باعتماده على التمويل الحكومي، وأيضاً على المؤسسات غير الحكومية. ويؤمل أن يقود ذلك إلى فتح الباب للمساهمات الدولية والمحلية. وهناك الآن الكثير من المنظمات والمؤسسات التي تُعْنَى بالحفاظ على التراث العالمي، مثل منظمة اليونسكو، وصندوق الآغا خان للثقافة، وبرنامج المدن التاريخية، ومنظمة المدن العربية. وأبدت أيضاً دولاً صديقة لديها مشاريع في السودان اهتماماً بمقترح سواكن.
2/ وتحت عنوان “المناخ والتاريخ والجغرافيا” لخص الكاتب ما نُشر عن الجوانب المناخية والتاريخية والجغرافية عن سواكن، وعَدَّدَ مختلف الآراء عن سبب تسميتها بهذا الاسم. وختم هذا الجزء من المقال بالقول إن كل سكان سواكن يقطنون في منطقة “القيف”، وأن جزيرة سواكن خالية الآن من السكان.

3/ وتحت عنوان “التخطيط وأنواع المباني” ذكر الكاتب أن سواكن، فيما يتعلق بتخطيطها ومعمارها، هي “مدينة إسلامية نموذجية”. وتُمَارَسُ من مركزها (حيث يوجد السوق والمساجد المباني الحكومية) معظم النشاطات المالية والإدارية. وبها شارع رئيسي يمر عبر جسر من البر الرئيسي وعبر بوابة غوردون إلى السوق والمسجدين الرئيسين بالجزيرة. وتحيط بهذا المركز مجموعات كثيفة من المنازل المبنية تمت موازنتها بمساحات مفتوحة ذات أبعاد وأشكال متنوعة. وكونت الممرات الضيقة المتعرجة نسيجاً نموذجياً لشارع في منطقة عربية.

ورُوعِيَتْ بدقة الخصوصية، إذ هي من أهم المتطلبات الرئيسية لأنماط السكن الإسلامية. فعلى سبيل المثال، طُوِّرَتْ بالمدينة عند تخطيطها أنظمة من الشوارع المسدودة التي تحد من حركة مرور الغرباء. وفي الهندسة المعمارية، تم استخدام المشربيات، وهي أجهزة حواجز خشبية تنظم تدفق الرياح والضوء، زيادة في ضمان الخصوصية. وسمح التصميم المدمج للمباني وأنظمة الممرات الضيقة (نتيجة المساحة المحدودة للجزيرة) للمباني بأن تظلل بعضها البعض وتحد من الغبار الناتج عن الصحراء بسبب الرياح الصيفية. وكانت الممرات الضيقة تستخدم كذلك بحسبانها قنوات تهوية لنقل نسائم البحر الباردة.

وعلى الرغم من أن معمار سواكن يشابه معمار المدن الإسلامية الأخرى في خواصه ومميزاته العامة، إلا أنه مر على سواكن زمان كان لمعمارها ميزة ونوعية خاصة. وكان هذا يمثل تقليداً وتراثا محلياً / وطنيا في أساليب البناء vernacular building tradition (4) التي سادت في المدن الواقعة على ساحل البحر الأحمر. ومن المؤكد أن الأحوال والظروف الاجتماعية تؤدي دوراً مهماً في تخطيط وتشكيل معمار مدينة ما إبان فترات مختلفة من تاريخها. ووصف دي. أتش. ماثيوز) المهندس المعماري البريطاني) في كتيب له صدر عن المطبعة الحكومية عام 1953م معمار سواكن بأنه مثال مميز لما أسماه “أسلوب البحر الأحمر”. ويمكن تقسيم معمار سواكن إلى ثلاثة أنواع:

أ/ النوع الأول هو النوع الأقدم، ويمثله “بيت الباشا” و”بيت خورشيد”، وطرازهما يماثل معمار المسجدين في الجزيرة، والتي يعود تاريخها للقرنين الخامس عسر والسادس عشر – عندما كانت سواكن مزدهرةً بنوع خاص. وفي هذا النوع، يحتوي الطابق الأرضي على غرفة معيشة، تُبنى عادةً على جانب الشارع، وغرفة أصغر في الخلف، وحمام به مرحاض يأتي مخرجه من خلال عمود رأسي في الجدار. وفي الطابق العلوي يقع المطبخ وشرفات النوم الصيفية. ويعكس هذا النوع من المباني، بساحاته الداخلية وشرفاته، أسلوب الحياة الإسلامية التي تعيش فيها مجموعات عائلية ممتدة بصورة جماعية، وتُفصل أنشطة الرجال عن النساء. وفي كثير من الحالات، ربما كان منزل عائلة واحدة يشغل شارعاً بأكمله.

ب/ أما النوع الثاني من معمار سواكن فهو يتميز بترتيب قياسي للغرف في الطوابق المختلفة. ففي الطابق الأرضي كان هناك غرفة لاستقبال الضيوف ولإجراء المعاملات المالية. وقد يحتوي الطابق الأرضي أيضاً على محلات تجارية (دكاكين) ومخازن للبضائع ومتعلّقات الأسرة ومُقتَنَيَاتها. أما الطابق العلوي فهو لحياة الأسرة الخاصة، وقد يتكون من شقق منفصلة لفروع الأسرة الممتدة. ويمكن أن يوجد بهذا الطابق العديد من غرف الجلوس لاستخدام العائلة أو من النساء اللواتي يزرنهن. وتلك غرف واسعة لكل واحدة منها مشربية أو مشربيتان، تجلس فيها النساء وهن يستمتعن بالنسيم العليل ومراقبة ما يدور في الشارع أسفلهن. وتفتح على تلك “المجالس” قاعات استقبال مزينة بكوّات (niches) مقوسة. وعادة ما توجد المتاجر بجوار تلك الغرف. في كل طابق كان هناك أيضًا حمام به مرحاض يتم شطفه بمياه الاستحمام من خلال قناة عمودية في الجدار. وفي الطوابق العليا كانت هناك مطابخ ومساكن للخدم وشرفات /أسطح مسقوفة وغير مسقوفة. وتتراوح أبعاد الغرف الرئيسية عادةً من 5 إلى 5.5 م عرضاً، ويبلغ ارتفاعها من 3.5 إلى 4 م.

ج/ أما النوع الثالث الذي يميز معمار سواكن فهو معمار القرن التاسع عشر، الذي كان يتميز بكبر مساحاته، ولكنه يفتقر إلى صَقْل وجمال المباني الأقدم. ولم تكن بهذا النوع من المباني مشربيات إلا نادراً، ولكن كانت بها شرفات (بلكونات) بارزة. ولعل تأثير المعمار الأوروبي – المصري هو السبب في ذلك التغيير، بحسب ما أورده هانسن Hansen في تقريره عن الحفاظ على سواكن، الذي أصدرته اليونسكو عام 1973م (5). ومن أمثلة تلك المباني “بيت محمد بيه أحمد” و”بيت عمر أفندي عبيد”، ومبنى “الوكالة”. وعلى الرغم من وجود هذه الأنماط الثلاثة من المباني في سواكن، إلا أن هناك تقاليد في عمارتها، ظلت ثابتة عبر تاريخ المدينة. فقد ظلت الجدران تبنى دوماً بالحجر الجيري المرجاني الذي يُسْتَخْرَجُ من محاجر في جنوب الجزيرة أو من قاع البحر. والحجر الجيري المرجاني مادة ممتازة للبناء، فهي مسامية خفيفة الوزن وسهلة التقطيع، وتوصيلها للحرارة منخفض جدا. وتقطع تلك المادة إلى كتل (بلوكات) مقاساتها 30x 25x 30 سم.
وذهب ماثيوز وهينكل إلى أنه يمكن تقدير أعمار مباني سواكن من طولها. فالمباني الأقدم مثلاً تتكون من طابق أو طابقين فقط. غير أن المؤرخ السوداني ضرار لا يتفق مع هذا الرأي، مستدلاً بصورة للمستكشف والقبطان البرتغالي جواو دي كاسترو (من عام 1540م) توضح أن المباني ذات الثلاثة طوابق كانت شائعة في ذلك التاريخ. وعلى العموم كان تخطيط المباني في سواكن يستند إلى قواعد إسلامية أساسية تقوم على ضرورة احترام خصوصية العائلة، والفصل في البيوت بين العائلة، وبين الضيوف والزوار من غير أفرادها. وكانت المنازل تتميز عادة بفناء (حوش) مغلق تحده غرف من ثلاث جهات، وبالشارع من الجهة الرابعة. أما أكثر ما يميز معمار سواكن فهو “المشربيات” بمظهرها المميز.
4/ تناول الكاتب الجهود التي بُذِلَتْ سابقاً من أجل الحفاظ على سواكن، وترميمها، وذكر أن سواكن لم تُنس تماماً بعد إنشاء بورتسودان، على الرغم من أنها كانت قد هُجِرَتْ بشكل كبير. وقد تناوبت محاولات إنقاذ آثارها مع فترات من الاستسلام والرضوخ لفكرة القبول بخراب وفناء هذه الكنوز.
5/ برزت مسألة الحفاظ على سواكن وترميمها في عديد المرات. ففي عام 1926م كتب سيسيل فرانسيس بالفور مدير مديرية البحر الأحمر للحكومة المركزية مطالباً بالمزيد من التمويل المالي للحفاظ على المباني من التهديم. وفي عام 1927م منحت الحكومة مدير مديرية البحر الأحمر سلطة هدم أو إصلاح أي مبنى لم يعد صالحاً، وذلك على نفقة مالكه. وكانت سلطته تلك لا تتعدى أن يغدو المبنى الذي يرمم صالحاً للسكن، ولا تمتد لترميمه. وفي عام 1933م اقترح معتمد بورتسودان آرثر ريدفيرن (1895 – 1985م. المترجم) بأن تقدم الحكومة إعانات مالية لبعض ملاك المباني بسواكن لمساعدتهم في إصلاح مبانيهم. غير أن الحكومة رفضت ذلك الاقتراح بسبب الضائقة المالية التي كانت تمر بها. غير أن مصلحة الآثار اختارت في ذات العام 25 من مباني المدينة لإصلاحها. وفي عام 1937م أغلقت السلطات بعض شوارع المدينة خشية سقوط بعض المباني عليها. وفي الفترة بين 1940 و1950م وثق ماثيوز المهندس المعماري بمصلحة الأشغال العامة، وقرين لو أستاذ الفنون الجميلة توثيقا جيداً للمدينة. (أورد الكاتب بعد ذلك تفاصيل ما أنجزه ماثيوز وقرين من توثيق عن سواكن. المترجم). وسعى الخبراء بمصلحة الآثار منذ سنوات الحرب العالمية الثانية وحتى سبعينيات القرن الماضي للحصول على عون حكومي لصيانة آثار سواكن، ولكن دون جدوى. وكان السببان الرئيسيان في فشل تلك المحاولات هو عدم وجود دعم مالي، والمشاكل القانونية المتعلقة بمنع استخدام الأموال الحكومية في صيانة ممتلكات خاصة لأفراد.
ومنذ استقلال السودان ظلت العديد من فرق الآثار تتوافد على سواكن. فقد أوفدت منظمة اليونسكو في عام 1958م مهندساً معمارياً فرنسيا قدر أن تكلفة صيانة وترميم بعض المباني تبلغ 75 الفاً من الجنيهات السودانية. ثم قدم المهندس المعماري الألماني هنكل في عام 1968م تقريراً عن سواكن، غير أن ما كان يطمح لنيله من المجتمع الدولي لم يلق أذناً صاغية. وأُطْلِقَ في عام 1970م نداء لـ “إنقاذ سواكن”. وفي عام 1972م أوفدت اليونسكو المهندس الاستشاري هانسن لتقديم تقرير آخر عن مباني سواكن، وما حاق بها من خراب. ورغماً عن كل تلك الجهود السابقة، تواصل تدهور مباني سواكن، وبمعدل متسارع. ويبدو أن كل ما تم اقتراحه في تلك المحاولات السابقة لم يعد من الممكن تنفيذه الآن بسبب عدم واقعيته. وكان عام 1976م هو آخر عام قدم فيه مشروع لإنقاذ سواكن. وكما في كل المحاولات السابقة، ظلت العقبات المالية والمسائل القانونية المتعلقة بملكية الأراضي هما سبب عدم تنفيذ أي من المشروعات التي قدمت.
6/ واختتم الكاتب مقاله بعرض لمشروعه المقترح الحالي. وذكر أن الجهود “الحالية” (لإعمار سواكن) كانت قد وُلدت عندما بدئ في أواخر الثمانينات في إكمال مشروع بناء ميناء بسواكن. كان سكان سواكن آنذاك قد بدأوا في الحديث عن التغيير الذي سيحدث في مستوى حياتهم نتيجة لإنشاء ميناء جديد. وشرع السماسرة في التحرك صوب سواكن. ومنذ عام 1976م كانت سواكن قد هُجِرَتْ تماماً وغدت وكأنها “مدينة أشباح”، وغدت مبانيها القيمة أكوام ركام. فقد كان أثرياء التجار قد غادروا الجزيرة إلى بورتسودان والمدن الأخرى، ولم يبق بسواكن سوى الفقراء الذين سكنوا تلك البيوت المهدمة. وبلغ عدد سكان سواكن يومها نحو 20,000 نسمة، يعمل معظمهم في بورتسودان.
وذكر الكاتب أنه زار الموقع عدة مرات، وبعد دراسة فاحصة متأنية لكل ما سبق نشره عن ذلك الموقع، توصل الكاتب إلى أنه لا بد من اتباع نهج مختلف واتخاذ استراتيجية مغايرة لمسألة إعادة إحياء المدينة. والخطوة الأولى عنده هي تقديم دراسة أولية لحكومة السودان، ولمواطني سواكن، ومنظمة اليونسكو، والجهات المسؤولة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالخرطوم لتبيين أن مشروع إحياء سواكن هو مشروع قابل للتنفيذ. وعقب ذلك تتفق كل الأطراف على ضرورة القيام بعمل عاجل للحفاظ على ما تبقى من المدينة، وعمل خطة لتحسين حياة سكانها. ومن بعد ذلك تكون لجان – على مستويات مختلفة، محلية وقومية – تضم الشخصيات القومية المهمة، وممثلين عن سكان سواكن. وكان الكاتب ضمن بعثة لليونسكو، قادها البريطاني باري لين، كانت قد أرسلت في سبتمبر من عام 1993م لزيارة سواكن. وقدمت تلك البعثة تقريراً عن سواكن. وتم التواصل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إذ أن المشروع المقترح لا يهدف الحفاظ على أثار سواكن فحسب، بل يهدف أيضاً لتخفيف فقر سكانها، وإصلاح بيئتها المتهالكة (باستخدام المواد التقليدية وتقنياتها)، ولإعادة الحياة لموقع ثقافة تاريخية. وكانت من الأولويات الملحة إقناع مصلحة الآثار السودانية باتخاذ خطوتين مهمتين: القيام بترميم عاجل لبعض ما بقي من مبانٍ سليمة لإيقاف تدهورها وخرابها نهائيا. وقد تم ذلك الترميم العاجل بالفعل. وكانت الخطوة التالية هي إدراج سواكن في قانون الآثار (antiquities ordinance) وقائمة التراث العالمي.
وبما أن استراتيجية المخطط الجديد المقترح يجمع بين ترميم المدينة التاريخية وتنمية المجتمع الحي، فقد تم وضع تصنيف جديد لمبانيها:
أ/ الفئة الأولى: لا يزال بالإمكان ترميم الكثير من المباني بسواكن رغماً عن الانطباع الشائع بأن خرابها غير قابل للإصلاح. فعلى جانبي الشارع الرئيسي المؤدي لبوابة كتشنر في الجزيرة وعبر سوقها توجد مختلف المباني التي (كانت) تستخدم لمختلف الأغراض، والتي هي الآن بحالة يمكن ترميمها. وكذلك يمكن ترميم المساجد الخمسة والزاويتين، وكلها – عدا واحدة – لا تزال قيد الاستخدام وهناك أيضا بالجزيرة مبانٍ أخرى مثل مبنى المحكمة والمسجدين الكبيرين (الشافعي والحنفي)، وبعض المنازل مثل “بيت محمد بيه أحمد” وسيد شالول، وكلها يمكن الحفاظ عليها وإعادتها لحالتها الأصلية (أورد الكاتب صوراً لكل تلك المباني المذكورة. المترجم). ويجب الإسراع بعمليات الترميم هذه، إذ أن التأخير سيفضي لاختفاء أمثال تلك المباني (جلب الكاتب صورةً لبوابة كتشنر كمثال على تلك المباني غير المصانة. المترجم).
ب/ الفئة الثانية: هي تلك المباني التي كادت أن تختفي، ولكن ليست هناك معلومات كافية عنها تمكن من إعادة إعمارها. وسيتطلب ذلك إعادة بناء ما تهدم منها بحيث تعود لشكلها الأصلي (بعد جمع معلومات تاريخية صحيحة عنها). وهذا يتطلب جمع مواد ذات علاقة بالأمر، بطرق مختلفة ومن مختلف المصادر، مثل الصور الفتوغرافية والخرائط الخ المتوفرة في داخل وخارج السودان ومن الأفراد.
وقد يكون إعادة إعمار المدينة أسهل من خلال التوحيد المنهجي للإعمار، وإعادة صياغة عناصر البناء النموذجية للمباني القديمة بها. ومعظم منازلها ومساجدها لها نفس الأبعاد والنسب والتفاصيل. لقد تمت تجربة بداية استخدام الأبعاد القياسية والأشكال المتكررة بعد الحرب العالمية الثانية. وتم بالفعل إعادة بناء المباني الفردية وأجزاء كاملة من المدن بهذه الطريقة في وارسو وزنجبار وموستار (بالبوسنة والهرسك).
ج/ الفئة الثالثة: لقد تهدمت تماماً الكثير من المباني التاريخية دون أن يكون هناك عنها أي معلومات قد تساعد في عملية إعادة بنائها. وليس هناك من عمل يمكن تنفيذه سوى إزالة ركامها وتشييد مبانٍ جديدة مناسبة في مكانها، أو ترك مواقعها كمساحات فارغة. إن القرارات المتخذة بشأن مستقبل هذه الفئة الثالثة ستحدد العناصر الأساسية للمخطط الرئيسي المستقبلي لمدينة سواكن الجديدة.
ج/ الفئة الرابعة: يوجد في سواكن اليوم مبانٍ شيدتها السلطات أو الأفراد باستخدام مواد وطرق حديثة غريبة عن عمارة المدينة التقليدية. وبُنيت أعداد قليلة من المنازل ذات الطراز الاستعماري، المشيدة بكتل أسمنتية والمسقوفة بألواح الحديد المموج، لتكون مقراً لإدارة الثروة السمكية دون أدنى اعتبار أو احترام للمدينة التاريخية. وبُنيت هذه المنازل على مقربة من العديد من المباني الكبرى – مثل وكالة الشناوي وبوابة غردون، المدخل الوحيد لجزيرة سواكن – ويجب إزالتها تماماً.
7/ ولإنجاز الأهداف المذكورة أعلاه، وتحت عنوان “خطة العمل والخطة الرئيسية”، اقترح الكاتب أن يبدأ المشروع بخطة عمل وبخطة رئيسية تقود في النهاية إلى مرحلة التنفيذ وتشمل خطة العمل للتَعَرّف على المصادر المالية المتاحة، وعلى الأولويات والمخطط المفصل لمراحل المشروع المختلفة. ولا بد من خطة رئيسية تتناول حل المسائل القانونية، وتحدد بوضوح الأدوار والعلاقة بين الدولة والسكان. وقد سبق أن كانت العوائق القانونية (وقبلها عدم التمويل) سبباً في فشل مشاريع الحفاظ على تراث سواكن. ويجب أن تشتمل الخطة على شرط مهم، هو عدم استخدام أي مواد للبناء سوى ما كان يستعمل قديما من طرق تقليدية ومواد محلية في إعادة البناء. وينبغي أيضاً الحفاظ على النسيج الحضري الأصلي، وأراضي البناء، وتخطيطات الشوارع، وحدود الارتفاعات. ويجب أن تحدد الخطة الرئيسية مناطق المدينة ونوع التطوير فيها، بما في ذلك أحكام البنية التحتية اللازمة للحياة المعاصرة. وستهدف مثل هذه الخطة لإنجاز مدينة حية بآثارها وثقافتها؛ وتقاليدها وحرفها التي حُوفِظَ عليها.
يتكون المشروع، كما هو متصور، من ثلاث مراحل رئيسية: الأولى يتعلق بتشكيل اللجان (الوطنية والمحلية) وتعيين الإدارة والفرق الفنية. وستكون هذه المجموعات مسؤولة عن إعداد استراتيجية أكثر تفصيلاً، وتحديد مصادر التمويل. وستشرع تلك المجموعات كذلك في معالجة المشكلات القانونية والمشكلات المتعلقة برموز المباني. وتشمل المرحلة الثانية البحث والتخطيط وإعداد وثائق المشروع، بما في ذلك خطط العمل والخطط الرئيسية، وتقسيم المناطق التفصيلية، وتصميم البنية التحتية، ومشروع الترميم التجريبي. وستكون المرحلة الثالثة هي مرحلة التنفيذ.
8/ وتحت عنوان “الآفاق المستقبلية وقابلية البقاء” ذكر الكاتب أن سكان سواكن اليوم (أي في 1997م أو نحوها. المترجم) هم من الأسر الفقيرة. ولكن عددهم قد يزيد ليبلغ ضعفي أو ثلاثة أضعاف العدد الحالي مع افتتاح الميناء الجديد. وبسواكن – إن قدر لها أن تُعَاد إلى الحياة – ما يكفي من الإمكانات الكامنة لإعاشة أعداد أكبر من السكان، ولتنمو اقتصاديا واجتماعيا. فقد كانت تلك الجزيرة قد وفرت من قبل قرون أوضاع عيش ممتازة لسكانها. ولضمان المستقبل الاقتصادي لسواكن للمدينة بعد إحيائها، يمكن تنفيذ التالي:
أ/ أن تستقبل ميناء سواكن سفنا من السعودية والدول المجاورة. وستكون المنطقة التجارية الحرة بالميناء جاذبة للشركات والمستثمرين، كما ستزداد باطراد أعداد الحجاج المارين عبر سواكن. وستعمل أنشطة الميناء على تعزيز فرص العمل للعديد من سكان سواكن الجدد.
ب/ أقترح بعض رجال الأعمال تشجيع قيام صناعة تعبئة وتغليف بالمدينة. وبها يمكن نقل المواد المصدرة والمستوردة بكميات كبيرة وتوزيعها من السودان.
ج/ البحر الأحمر بالقرب من سواكن غني بالحياة البحرية والحدائق المرجانية. ويمكن زيادة الاستفادة من كل تلك المصادر. ولا تزال صناعة صيد الأسماك بالبلاد صناعة قليلة الأهمية، ربما لعدم اهتمام السكان المحليين (وأغلبهم من البجا الرحل) بها.
د/ وعند قيام وتطوير صناعة صيد الأسماك بسواكن، ينبغي توفير مخازن مبردة للحفاظ على ما يتم اصطياده من أسماك إلى أن يتم بيعه. ويمكن استخدام تلك المخازن المبردة في حفظ الفواكه والخضروات واللحوم التي تأتي للميناء من داخل البلاد.
هـ/ تبقى سواكن موقعاً صالحا لصناعة القطن. وكان أول محلج للقطن بالسودان قد أقيم فيها عام 1876م. وكان القطن يأتي لذلك المحلج من طوكر التي لا تبعد سوى ستين كلم عن سواكن.
م/ كانت التجارب التي قام بها كروسلاند بين 1912 و1927م (6) قد أثبتت أن ساحل البحر الأحمر في السودان هو موقع مناسب لزراعة اللؤلؤ (pearl farm). وأنشئت مزرعة لؤلؤ في دنقناب وفرت حصاداً طيبا بأقل قدر من الإشراف.
و/ أقيمت عام 1957م صناعة للملح في منطقة سواكن. ويمكن الآن تطويرها بشكل أكبر (ولكن يجب أن تكون الصناعات بعيدة بما فيه الكفاية عن المدينة التاريخية لضمان بيئة خالية من التلوث).
ك/ على الرغم من أن كل قادم للسودان يزور سواكن عادةً، إلا أنه لا ينبغي تشجيع السياحة الدولية واسعة النطاق، لأنها قد تلحق ضرراً كبيراً ببيئة الموقع. ومن ناحية أخرى، سيتم الترحيب بالذين يزورون سواكن عرضاً للاستمتاع بالحياة فيها والتسوق المجاني في الميناء، مما يساهم في اقتصاد المدينة.
ل/ كانت السهول الساحلية عند سفح جبال البحر الأحمر موطناً طبيعياً للحياة البرية. ويمكن إحياء هذه المنطقة بحسبانها محميةً للحيوانات والنباتات. وتهطل بها أمطار تكفي لدعم مثل هذا المشروع، الأمر الذي سيعزز الاقتصاد الإقليمي بالتأكيد.
9/ ينبغي إعطاء هذه المدينة الساحرة – بكل ما تملكه من كامن المزايا الاقتصادية والثقافية وتاريخها الطويل في البقاء على قيد الحياة – الفرصة للحصول على مستقبل أفضل. وإن كان القرن العشرين قد شهد تدهورها المفجع، فلندع القرن الواحد وعشرين يشهد إعادتها للحياة تارةً أخرى.
(من المشارع الحديثة نسبيا في سواكن إقامة محطات تحلية لمياه البحر في عام 2021م. المترجم) (7).


الإحالات المرجعية
1/ https://www.facebook.com/109626710577708/posts/187561436117568/
2/ انظر المقال في هذا الرابط https://shorturl.at/begCH
3/ للمزيد عن مايكل باري لين يمكن النظر في هذه الصفحة https://shorturl.at/bDY16
4/ بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا فهذا مصطلح يستخدم في تصنيف أساليب البناء التي تستخدم الموارد المتاحة محليا لتلبية الاحتياجات المحلية. وهي عمارة تميل إلى التطور مع مرور الوقت لتعكس الظروف البيئية، الثقافية والسياق التاريخي الذي وجدت به. وفي الموسوعة البريطانية يشير المصطلح للهندسة المعمارية المحلية المشتركة لمنطقة ما، التي تكون عادةً أبسط بكثير مما تستطيع التقنية في ذلك الوقت الحفاظ عليه. https://shorturl.at/sBGLQ
5/ التقرير المذكور مبذول في هذا الرابط: https://shorturl.at/cfIQ8
6/ يمكن قراءة مقال كروسلاند في مجلة “Sudan Notes and Records, XXXVII, 1946
7/ لمزيد من المعلومات عن محطات التحلية تلك يمكن النظر في هذا الرابط:
https://sudanports.gov.sd/web/en/2021/10/07/the-ports-authoritys-desalination-plants-in-suakin-are-a-qualitative-leap-in-solving-the-water-problem-in-the-state/

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.