فتحي عثمان وسحارة الفنون

كانت الأمطار تهطل بغزارة فوق طرقات واشنطن، مثلما هطلت من قبل، كالإبر الساخنة، على ساحة تاريخ (سانتياغو)، ونحن جالسون في مقاعد سينما (المزة)، نشهد (جان لوي ترنتنيان) يمشي في طرقاتها الحذرة، رافعاً ياقة معطفه الفرنسي، في ليلة انقلاب تشيلي التاريخي. كانت حركة المرور، قد بلغت ذراها ومنتهاها، وشعب الحكومة الفيدرالية، ويوم من العمل يدنو من السقوط في بئر التاريخ، يتأهب للانصراف إلى البيوت، ولكن غزارة الأمطار، لم تمنع التلاميذ المهرولين، من دخول المتحف القومي للفنون، ولا السابلة من التسارع إلى المخابئ الآمنة. لم يمنعني الهاطل، ولا لسعة البرد التي لا تتسق ونهاية شهر مايو، من دخول المدينة، التي لا تبعد كثيرا من بيتي في (الألكساندريا)، والتي لا أزورها إلا لأمر مهم، عبر جسر (فورتين ستريت)، وأن اتجنبها، في أحوال الطقس الذي يكثر الراديو التحذير عنه. ولكنني ورغماً عن كل ذلك، لم يكن لي بد، من زيارة النزل الصغير الجميل، المختبئ في منطقة (دوبون سيركل)، حيث التقيت، وللمرة الأولي بالصديق (فتحي محمد عثمان)، ورفيقة حياته، ويا لها من سعادة تلك، أن تضع الصورة، مكان اللوغاريثمات، والخيال المقارن، بين من يكون، ومن تتصوره، أو تقريب من شبه أخيه، استاذي الجليل الأمين محمد عثمان، أو أن تجلس وجهاً لوجه، في جلسة انس، يقطعها الموظف النوبي العامل بالفندق، المهذب طيب القلب، بقصة زواجه، والحفل الذي أحياه الراحل محمود عبد العزيز..
عايزين حاجة قبل ما أمشي..
شكراً والله
لا بجد!
ثم انصرف، خائضاً في غمار الماء.
تشعب الحديث، فشمل فنون أهل السودان، أدباءه، شعراءه، أهل الغناء والموسيقى، لم نترك أحداً منهم، لحال سبيله، الأصدقاء المشتركين، وللمكي أفردنا صحائف، وتحدثنا عن النحات الراحل، عبد الرزاق عبد الغفار، والذي كانت حياته وأعماله، موضوع ومادة آخر كتب الصديق (فتحي)، وتشابكت الصور، فاستثارت في نفسي، علاقتي الوثيقة بأخيه الفنان العظيم الراحل (عصام عبد الغفار)، والذي عرفته الخرطوم، صاحب استديو (فون)، في شارع الجمهورية، باتجاه (الأتينيه)، والذي كان يدهشنا دائماً، برسوماته على الورق بألوان(الباستيل) الذي كان خامته المفضلة، وكيف أنه كان يمتنع عن التوقيع على أعماله، وكيف أنني أنقذت أعداداً من أعماله، والتي كان يمزقها حال اتمامها، وكان لعصام علاقة حميمة بالفنان شرحبيل أحمد، حيث عملا معاً في (دار النشر التربوي)، وقد قربني إلى الخرطوم في مجدها، ودائماً ما ارتبطت صورة الخرطوم في سنى حسنها في عقود مضت، بصورة عصام، فكأنه المدينة تمشي على قدمين، مختصر الاكروبول وسطح صحارى ووليم اندريا، والخرطوم قاليري، جاز العقارب، والليلة التي سقطت فيها (انجي)، في بئر اسانسير الاكسلسيور.
كان عصام أحد اثنين، سطرا بالحبر، على الورق، سرد وقائع حياة العميد (بابكر بدري) الشفاهي، وصدر عن ذلك كتابه المثير للجدل (حياتي)، كان (عصام) خرطومياً حقيقياً، يتنفس صهد حرارتها المدارية، وينفثهاً عجباً.
واليوم
صنع (فتحي) يومي، حيث بعث لي، بعد وصوله سالماً، إلى (اللندرة)، الكتاب الذي غير حياتي، (سحارة الكاشف) لكاتبنا العظيم الأستاذ (محمود أبو العزايم)، والذي التقيته حين كان يزورنا في جريدة السوداني، الكتاب الذي أسس لصرح وجداني ظل يربطني بمدينة (مدني)، وشد على معصمي قيداً بسلاسل من الحب لا انفصام لها. يقول الكتاب وأنا أغذ الخطو في التهام صحائفه:
(أما إبراهيم الكاشف، فإنه كان شيالاً مع مطرب إسمه (بايا)، وبايا سائق لوري، وكان أحياناُ (يشيل)، مع مطرب آخر اسمه (الشبلي)، كان سائقاً في الري، لم يمتد به العمر طويلاً، وإلا لكان له ما كان لكرومة وسرور، والشبلي ينتمي لأسرة معروفة في مدني، أسرة (سعدابي)….في تلك الأيام كان من رأي جدة الكاشف، أن الغناء رجس من عمل الشيطان، فكانت تطارد حفيدها طول الليل، وما كان البحث عنه يعييها، حتى تجده، فتنهال عليه ضرباً أمام المتفرجين، …إلى أن انتصر الفن، وانهزم الضرب).
يا لملاحم، تلك الأيام، وملامحها. ولكن الحديث يمسك بعضه بخناق بعض، ولولا أن الكلام يعاد لنفد.
تاج السر الملك