الأربعاء - 29 جمادي الأول 1447 هـ , 19 نوفمبر 2025 م

الصليب الأحمر: 7000 مفقود بسبب الحرب الدائرة في السودان

بين رصانة القيادة ووهم الخطابة: قراءة في المؤتمر الصحفي لولي العهد السعودي مع الرئيس ترامب

بين رصانة القيادة ووهم الخطابة: قراءة في المؤتمر الصحفي لولي العهد السعودي مع الرئيس ترامب
مهدي داود الخليفة

تابعتُ مساء الثلاثاء 18 نوفمبر المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع ضيفه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وما إن انتهى المؤتمر حتى وجدت نفسي أمام مرآة قاسية تعكس الفارق الهائل بين قيادة تُجيد صناعة صورتها ومكانتها، وقيادات سودانية أضاع بعضها قيمة الدولة، وصوت الوطن، ووزن المسؤولية.

لم يكن حديث ولي العهد مجرد أداء بروتوكولي، بل كان درسًا مفتوحًا في القيادة الحديثة؛ قيادة تجمع بين الثبات، والاحتراف، والقدرة على مخاطبة العالم بلغة المصالح لا لغة الانفعال

ظهر الأمير محمد بن سلمان بمستوى رفيع يليق بدولة محورية وفاعلة في المنطقة.

كان متماسكًا، واقعيًا، مُلمًا بالملفات الأساسية، مُحسنًا لاستخدام اللغة الإنجليزية، مُؤكدًا — دون أن يقولها صراحة — أنه رجل دولة من طراز يندر في عالم اليوم.

لم يتردد في الإجابة حتى على الأسئلة التي صيغت بقصد الإحراج.

ردّ بثقة، وهدوء، ورؤية.

نسف بمفرداته الرصينة كثيرًا من الافتراءات التي حاولت أطراف عدة أن تلصقها به.

وقدّم نموذجًا لزعيم يعي أن قيادة دولة بحجم المملكة ليست مجرد سلطة، بل مسؤولية تاريخية.

جاء خطاب ولي العهد معبّرًا عن رؤية دولة تعرف وزنها.

تحدّث عن المصالح السعودية العليا في سياق عالم متغيّر، وأكد أن المبادئ لا تتجزأ، وأن المملكة تضع أمنها واستقرارها ورفاه شعبها فوق كل اعتبار—حتي داخل البيت الأبيض نفسه.

لم يساوم على السيادة، ولم يساوم على الدور الإقليمي للمملكة.

كان صريحًا، واضحًا، محافظًا على توازن دقيق بين التحالفات الدولية والاستقلالية الوطنية.

ما إن انتهى المؤتمر حتى غمرني شعور عميق بالأسى.

كيف يصل زعيم عربي شاب إلى هذا المستوى من الحنكة، بينما ينحدر الخطاب السياسي السوداني إلى أدنى دركات الانفلات؟

نسمع قادتنا—مع الأسف—يستخدمون لغة مليئة بالشتائم، والتقليل من الدول، وابتذال السياسة بالكلمات الرعناء التي لا تليق بقيادة ولا بدولة:

* “أمريكا تحت جزمتي”

* “الحس  كوعك”

* “الزارعنا غير الله يقلعنا”

* “لا جدة ولا جدادة”

تصغيرٌ للدول، وازدراءٌ للشعوب، وبذاءةٌ لا تليق بمن يمثل السودان، ولا تعبر عن أخلاق شعبٍ عرفته الأمم بالشجاعة والرجولة والتهذيب.

لو تفوّه مسؤول أجنبي ضدنا بما يقاربه، لقامت الأرض ولم تقعد.

لكن بعض قادتنا يمارسونه وكأنه بطولة، بينما هو قمة العجز السياسي وقصر النظر الدبلوماسي.

لم يعد واضحًا لدى البعض أن الكلمات تقتل أكثر مما تفعل البنادق.

إن شتم الدول لا يبني وطنًا، ولا يعيد اقتصادًا، ولا يوقف حربًا.

بل هو طريقٌ مختصر لعزل السودان وفقدان احترام العالم.

كيف ننسى أن هذه الدول التي يُساء إليها اليوم احتضنت السودانيين، وقدّرتهم، وعرفت لهم مواقفهم التاريخية؟

يكفي أن نذكر:

حرب 1967 ومشاركة الجيش السوداني المشرفة؛

السودان الذي فتح قلبه و ارسل جيشه الي  للكويت ولبنان ومصر وليبيا؛

والسوداني الذي حمل قيمه معه أينما ذهب، فاحترمته الشعوب قبل الحكومات.

كان السودان يومها دولة يُحسب لها ألف حساب.

فماذا بقي اليوم؟

مجرد قيادات آخر همّها الوطن، وأسهل ما عندها بيع المواقف وتضييع البوصلة.

أي مقارنة بين أداء ولي العهد السعودي في المؤتمر، وبين ما آل إليه حال القيادة السودانية، ليست مقارنة بين أشخاص؛ بل بين ثقافتين سياسيّتين:

ثقافة دولة تُبنى على رؤية، ومؤسسات، واحترام الذات.

وثقافة سلطة تُدار بالعبارات الفارغة، والتهريج السياسي، والتقليل من الآخرين.

مشكلتنا اليوم ليست فقط في الحرب، بل في مستوى القيادة:

قيادة لا تستوعب العالم، ولا تفهم توازناته، ولا تعرف أن الدول تُحترم بأفعالها، لا بشتائمها.

لقد رزئنا بقيادات لا تضع السودان أولًا.

قيادات جعلت من الدولة رهينة مزاج، ومن السياسة ساحة شتائم، ومن العلاقات الخارجية مادة للمزايدة.

وحين شاهدت ذلك المؤتمر في البيت الأبيض أدركت أن السودان بحاجة قبل الإعمار، وقبل التنمية، وقبل وقف الحرب، إلى إعادة تعريف القيادة:

قيادة تعرف لغة العالم.

قيادة تضع السودان قبل الذات.

قيادة تحترم الآخرين لكي يحترم العالم السودان.

قيادة تُعيد لهذا الوطن ما فقده من وقار.

فالوطن لا يُبنى بالهتاف… بل بالرؤية.

ولا يُحترم بالعنترية… بل بالموقف.

ولا يتقدم بالشتائم… بل بالقيادة الراشدة.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
دخول سجل اسمك المستعار
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور