في فارسكي.. عاصمة الظرفاء: كان يعلو صوت القهقهات

في فارسكي.. عاصمة الظرفاء: كان يعلو صوت القهقهات
  • 10 أكتوبر 2021
  • لا توجد تعليقات

محمد يوسف وردي

حلقة اولى

نقل عن الزعيم الكوبى الراحل فيديل كاسترو قوله إن حكم الناس أسهل بكثير من اضحاكهم ، لكن على العكس عندنا في فارسكي كان البسطاء يمارسون الاضحاك بأيسر من ملء كوب ماء من الزير، ورغم أنهم كانوا يتكتلون فى محبة لصناعة القفشات والنكات كأنهم فى وردية عمل ليلي إلا ان تراتبيتهم المتشددة، جعلت الأمر يبدو كأن ثمة اتفاقاً سرياً بينهم على تقسيم الأدوار ، فعمي خيرى مثلا كان مشهورا باطلاق الافيهات الموسمية التي سرعان ما تتمدد إلى دلقو وسعدنكورتة وربما الى شرائح اخرى بعيدة وتصبح على كل لسان، مثل : يا لوك ، نفسه كبير ما عنده علاج، أوجوغو وجيخة ( جيم بثلاث نقط ) وتعنى الشيء المجاني، وتقال للشخص المحب للموائد والهبات.

وكان جدي محجوب يمارس السخرية حتى في المواقف شديدة الجدية، و في مناسبة عزاء عندنا رآنى أصلى فى التراب فنادانى بعد فراغي من الصلاة، وكان يتوسط مجموعة من المعزين وسألنى لماذا تصلى فى التراب وفى الداخل توجد بروش وسجاجيد ؟ فقال له أحد الحاضرين دعه يصلى فى أى مكان ربما تقدم لنا اسرتكم شيخا فرد عليه جدى بسرعة : كفاية عليكم اديناكم جعفر ، يقصد خالنا الشيخ الورع جعفر الحاج الامين . وضحاكو قريتنا اصحاب مهن سواء في الزراعة او البناء او غيرهما من المهن ومع ذلك تطغى مهنة الاضحاك على ماعداها وتصير كارا و ( كريرا ) يلازمهم طيلة حياتهم . وهم أذكياء بالفطرة ويدركون ان الناس تضحك أكثر عندما تلامس نكاتك الجانب الانسانى فيك، ويعرفون ان الناس هم ذات الناس الذين يرونهم صباحاً ومساءً، والناس يضحكون لسخريتهم لانها تمنحهم شيئًا خاصاً، وتخلق مع الذين يتفاعلون مع الرسائل المبثوثة في نكاتهم روابط ذات مغزى.

عرف رجال ونساء الفكاهة في ناحيتنا بامتلاكهم وعياً اجتماعياً متميزاً كانوا يحولون من خلالها منغصات الحياة إلى سخرية حارقة، كل واحد منهم كان يشعرك بأن نكاته نابعة من العجز والمرارة واقرب لبوح الشعوب المكبوتة، سلاسة ما كانوا يقولونه وقربه من الواقع وصدقه تجعل منه محاولة دائمة منهم لتجاهل مرارات الحياة، والتعبير عن عدم الرضا بسخافة الانشطة اليومية !!وكنت الاحظ ايام الصبا ان ظرفاء ناحيتنا لا يستسيغون النكات والنوادر التي تهدد الناس بالعواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة ، ولا يحبون البعض الذى يتشبه بالكوميديانات ويجعل كل همه خلق جمهور جدد في القرى المجاورة.

ولم يكن سوى واحد فقط منهم مختلفاً، من جهة انه كان ينتظر ان يلتئم أكبر عدد من الناس للاستماع اليه. وكان ضحاكونا منفتحين مع الضحك المستورد، يمكن ان يأتى اى شخص ذي موهبة من أى مكان ويعرض أمامهم فينال رضاهم وضحكاتهم، على سبيل المثال من أخطر الكوميديانات الذين مروا على فارسك : عوض اوشي سين وسيد فانة، الاول كان ياتى من جزيرة ارتمرى لزيارة جدته ويمكث أسابيع معها، والثانى كان يأتى للزراعة من حى آخر، والاثنان ملكا قلوب أهل الناحية؛ لانهما يملكان ميزة منح الجمهور صوتا اعلى، وكان حكمدار فارسكى عاشور يستعجلنا للحاق بمجلس سيد فانة بالذات فى موسم زراعة القمح والفول وحصادهما، بيد أن فكاهة سيد هى الوحيدة التى لم تكن مجانية، كان يغرقنا فى الضحك، ويطلب منا مساعدته بالذات فى حصاد القمح، ومرة كنا منهمكين معه فى الحصاد ذات موسم، وجاءنا صوت عمنا يس أبوبكر من بعيد بسأل عن نجله بخارى الذى كان قد كلفه باداء مهمة، ولما رآه منحنيا والمنجل فى يده صرخ بأعلى صوته: اللى ما يشغل نفسه يشغلوه الرجال .!!

بحكم ان الناس اذكياء تتحول النكات لتعليقات واسئلة موجعة تنسل منها نكات جديدة وحكايات، ثم تجرى الدموع على الخدود. لكن البعض من الظرفاء ممن لا يطيقون الاسترسال كانوا يلقون نكاتهم مرة واحدة، ويا دار ما دخلك شر ، مع رتابة الحياة كنا نحس بالناس وكأنهم يبحثون عن خلاصهم فى النكتة . وكان معتادا انه اذا غاب الضحاكون فى ليالى السمر ان نلجأ لقول ما نحفظ من نكات ومواقف ساخرة ، وكان البعض يردد نكات لزجة والبعض يعيد ما نعرف.

وفى كل الاحوال كان محمد يس وشقيقه بخارى يخطفان الاضواء، والاول كان ذا ذكاء حاد وسريع البديهة ، كان يدعى العروبة والناس حقيقة كانوا يطلقون اسم العربى على والده، وهو تقمص جو القراريش الذى عماده الابل والدوبيت، وكان كثير الاختلاط بعرب اقترى، ينقل لنا فى كل ليلة كلام تخ واولو واشقائهما الذين كانوا يتحدثون بلغة هجين لا تعرف ان كانت عربية او نوبية، كان محمد يس ملك التقليد فى فارسكى، وقد تقمص شخصيات الناحية رجالا ونساء بدون فرز .

وكان حضور عوض لديارنا اشبه بالعيد، اذ بمجرد مغادرته للمركب الذى أقله من آرتمرى وملامسته لأرض فارسكى تاخذ وكالات الأنباء علما وتبث الخبر عاجل، ويدب النشاط من جديد فى الساحة امام دار جدته حليمة دحيش المادحة والمنشدة واكثر نساء فارسكى اجادة للغة العربية. كان جدنا صالح سروج ناظر مدرسة الساخرين في فارسكي، وكان يقيم إقامة دائمة خارج بيته في مضيفة تعلوها تعريشة وتحرسها شجرة صخمة ذات ظلال كانت بمثابة منصة للتواصل مع الجمهور ومسرحا يعرض عليه يومياً، وكان معتاداً أن يغلف سروج قفشاته باسئلة موجعة تدور حول عدم اليقين فى الكون، وكان على الدوام يمهد لنوادره بجملة ( الدنيا فونيا )، ذات مرة كان سيد خليفة يغنى فى المذياع فقال لى: اكيد هذا الرجل سمين وضخم الجثة، لذلك الكلمات تخرج من حنجرته بصعوبة، وتحس بأنفاسه المتقطعة تكاد ان تفتك بأسلاك الراديو !!.

وكان سروج حكيماً يعالج الكسور والفتق، يأتي اليه الناس من كل مكان، ويعرفه الناس من خارج القرية ايضا باعتباره الرجل الذى بشاهد فى كل الاوقات فى موقعه بمعية خدنه جدنا ابراهيم. ذات مرة وبص الخميسية يمر بجوارهم، قال احد الركاب القادمين من فريق ومشكيلة لسوق ومستشفى دلقو : فى كل خميس ارى هذين الرجلين جالسين فى هذا المكان، كأنهما بلا شغل ؟؟ وعلى الفور افحمه سروج برد لم يتوقعه : وأنت ماعندك شغل طالع فوق سقف البص فى كل خميس!!

اعتاد سروج الجلوس فى مكان واحد فى مسجد القرية يوم الجمعة، بمجرد دخوله يحود يسارا بضعة بوصات ثم يمد رجليه وبذلك كان اول الواصلين واول المغادرين، سألته مرة لماذا لا يغير موقعه، ويبتعد من الباب الرئيس ليكون فريبا من المنبر؟ فقال لى إنه اصلا يحفظ الخطبة الكلاسيكية التى يتلوها الامام من كتاب اثرى، ويحفظ المقدمة التى يقولها المأموم قبل الخطبة: من مس الحصى فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له، لذلك سيان عنده البعد او القرب، وقال ضاحكًا إن المكان يتيح له مراقبة الناس؛ لذلك هو يعرف الذين يجلسون بعيداً عن المسجد تحت اشجار النخيل، ويدخلون قرب نهاية الخطبة الثانية، وانه يتيح له رؤية تأثير الخطبة في الناس حيث يرى البعض يبكي، بينما يمسح البعض اعينه بطرف العمة، كأنه يمسح دموعه ادعاء.

وذكر لى اسم شخص قال انه دائما بجول ببصره خارج شبابيك المسجد ليرى إن كانت هناك صوانى طعام قادمة، حيث كان معتاداً ارسال ( الكرامة )، وهي في الغالب ثريد للمصلين فى المناسبات، وقال لى إنه رأى الشخص نفسه فى ذات جمعة منهمكاً فى متابعة ممارسة جنسية محتدمة بين حمارين مقيدين فى نخلة قرب المسجد، وإنه لما ارسل اليه نظرة استنكار، رفع يديه يدعو الله مع الداعين.

اما عكاشة وهو شقيق سروج،فقد كان مختلفاً كلياً عن الذين سبقوه، والذين أتوا من بعده، كانت سخريته محببة، وهو ابرع من ألفوا كوميديا الموقف في فارسكي، ويمكنه أن ينافس فؤاد المهندس على الأستاذية، وقد كانت سخريته لاذعة فى احايين كثيرة ، وكوميديا الموقف عنده كان يتوقف على ظروف المكان والزمان والبيئة والجمهور ، فاذا كان الحضور من ذلك النوع الجاد ينجر لهم كلام من رأسه يتماشى مع الظروف ،اما اذا كان الحضور من مجموعة الشباب مثلنا، كان يتقمص لهم دور الفهلوي مثلاً مستفيداً من تجربة عيشه الطويلة فى مصر، او يمنح أسماء وهمية لبعض الشخوص وينزل فيها تقريع ..

مهما كانت سخونة المكان كان مصنعه قادراً على ترطيبه، وكان الناس يرتاحون له، فى أشد المواقف سخونة خاصة اثناء المنازعات كان يقول: الحياة قصيرة، والدنيا لا تستحق المخاصمة من أجل شيء ستجبرك الدنيا على تركه رغم انفك.

اذا كان المغنون لديهم سميعة مخصصون فقد كان لعكاشة سميعته الذين يتجاوبون معه، فيستغل ذلك التشجيع، ويأخذ المفارقة الى مستويات أخرى. فى مناسبة شبيهة التفت ناحيتى قائلاً : لانك تدرس فى مصر اريد ان انصحك، اذا ذهبت لقهوة العشماوي فى العتبة لا تقل لهم إنك تعرفنى، وعلى الفور أدركت أنه يريد تغيير جو المجلس، وأن الكلام الدائر فيه لا يعجبه، ورأيت عبد الهادى خيرى يميل عليه، ويقول له ضاحكاً من فضلك بسرعة، ورينا تأليفك بشأن القهوة ، فقال بصوت متهدج : فى ذلك المكان قمت بتأديب عدد لا يحصى من الفتوات!!. عندما وقع واصيب بجلطة ونحن فى انتظار لورى عبد الدائم الذى سيقله الى المستشفى رفع رأسه، ووجد الناس متأثرين، والحزن باد فى فى وجوههم ، على الفور فكر فى الشرشحة أسلوبه المجرب فى تنفيس المواقف الحرجة، وسأل الناس: يا اخوانا انا مش وقعت، طيب الشخص الوقع دة مش مفروض تقدموا له شربات؟! فقال له جدي إبراهيم الذى كان يقف قريباً منه: يا عكاشة انت فى ايه ولا ايه.

وكان ذلك هو الموقف الوحيد الذى لم تضحك فيه فارسكى لسخريته، كون الجميع كانوا فى وجوم، وصدمة للمرض الذى ألم به !! رحم المتعال من رحلوا منهم، ومتع الأحياء بموفور الصحة والهناء والسعادة وطول العمر .

التعليقات مغلقة.